بعد عمر مديد من النضال السياسي والبناء الاقتصادي ظن الطبيب الماليزي ذو الأصول الهندية أن مشواره السياسي بلغ مداه بعد أن وضع بلده الزراعي بأعراقه المتعددة ودياناته المختلفة في مصاف الدول النامية؛ صناعة وحضورا آسيويا ودوليا، مع تميز في الاقتصاد والتعليم والوئام الاجتماعي، ذلك الظن استحال يقينا حين كتب الدكتور مهاتير مذكراته السياسية الكبيرة والممتعة بعنوان: "طبيب في رئاسة الوزراء"، وكتابة المذكرات في عرف الساسة إعلان أدبي للاستقالة من الشأن العام، وتفرغ لتقديم الاستشارة والنصح، وهو ما قام به رائد النهضة الماليزية منذ استقالته عام 2003، حيث ترك رئاستي الوزراء والتحالف الحاكم منذ الاستقلال لطلابه المخلصين في "أمنو"، بعد أن استراح من صداع خصم سياسي طموح يسمى أنور إبراهيم؛ تلك العقدة المزمنة في السياسة الماليزية، لكن الصداع خصوصا "النصفي" قد يهدأ لكنه لا يلبث أن يرجع أقوى مما كان؛ فالأعوام التي قضاها مهاتير منظرا ومستشارا للحزب الحاكم وتحالفه لم يغب أنور إبراهيم عن المشهد السياسي فكان حديث الناس والمحاكم وهو زوجته العنيدة يتبادلان المناصب والمقاعد؛ هذا الحضور الطاغي للزعيم أنور جعل الدكتور مهاتير يخصص له فصلين من المذكرات؛ الفصل الحادي والثلاثين، والفصل الثالث والخمسين، ففي الفصل الأول أسبغ مهاتير على حليفه الخصم أزهى حلل المدح، وحلاه بصفات الزعامة والقيادة، فأنور في الفصل الأول يتحلى بـ:
1. الكاريزما القوية التي وقع مهاتير نفسه تحت تأثيرها باعترافه حد الذهول كما قال نصا: "أذهلتني صورته كرجل تقي ومثير للإعجاب، وكان أحد أقوى أنصاري نفوذا، وكان حديثه حسنا دائما، ولا شك أنه صاحب هالة خاصة – كاريزما - وربما تأثرت بسببها" 487.
2. الروح القيادية المبكرة... ".. فهو شاب لديه كثير من الأتباع مما يمكنه من إجراء اتصالات مع كثير من الشباب في شتى أنحاء العالم".
3. الزعامة الدينية المتسامحة؛ "تصوره للإسلام لم ينفر القادة الشباب من الديانات الأخرى" ، إضافة إلى كون الشباب الإسلامي يعتبره "قائدا مسلما عظيما".
4. الخطابة المؤثرة والقدرة الفائقة على الإقناع، وذلك بإجادة اللغة الماليوية واستخداماتها الأدبية في الخطابات، ورغم غرابة ألفاظه واضطرار الناس لمراجعة القواميس إلا أنهم أعجبوا بأسلوبه الخطابي.
5. الاطلاع الواسع والاستدلال السريع بعدد من الفلاسفة والمفكرين بدءا بـ"سن تزو" (فيلسوف وعسكري صيني)، وانتهاء بمالك بن نبي.
6. الحضور الطاغي محليا ودوليا، وسرعة نسج العلاقات.
7. تأليف المتناقضات "كان في استطاعته استمالة العرب شديدي التدين مع البقاء على وئام مع اليهود المتعصبين ضد العرب" 486.
8. الكرم "الباذخ" كان أنور كريما للغاية وكان يدعو رؤساء الوزراء في الولايات للإفطار عنده، كما كان يدعو كثيرا من الناس للإفطار في بيته.
ولم يكن إعجاب مهاتير مقتصرا على شخص أنور؛ فزوجته المقدامة الوفية الدكتورة عزيزة إسماعيل وإن كان مهاتير معجبا بطبخها وحضورها الساحر، فقد كانت عزيزة تعد الأطباق الشمالية التي يشتهيها، وكانت في وئام تام مع زوجته حاسمه، ولعل مذاق الأطباق هو ما جعل مهاتير يتفهم وقوفها مع زوجها، ولم يعتبرها خصما بعد الخصومة مع زوجها يقول مهاتير: "أعجبت بعزيزة التي امتلكت سحرا خاصا، وحتى بعد أن تخاصمنا، لا يمكنني النظر إليها كخصم سياسي، أو كشخص وقعت بيني وبينه مشاجرة، وأنا أفهم قرارها الوقوف إلى جانب زوجها".
هذه المقدمة التاريخية - وإن طالت - جد مهمة لفهم العقلية والتحولات السياسية في ماليزيا، فهذه الصفات أسبغها مهاتير على حليفه أنور حين كان يبرر انضمام الأخير للحزب الحاكم وترحيب مهاتير به وتصعيده وتهيئته لخلافته في رئاسة الوزراء، لكنه في الفصل الآخر ذكر الموانع البشعة التي حالت بين أنور والصعود الصاروخي لرئاسة الوزراء في ماليزيا، هذه رواية مهاتير وهو خصم نصف محترم في شهادته، لكن العارفين ببواطن الأمور في ماليزيا يرون أن مهاتير رغم النهضة التي قام بها، والتحول المذهل في البلد الزراعي كانت عينه على السلطة من وراء ستار، وكان يبحث في رجاله عمن تتوفر فيه مسألتان؛
الأولى: الولاء المطلق لشخصه وعائلته ونهجه خصوصا ما يتعلق برية 2020 والنظر شرقا، والاهتمام بالماليويين.
الثانية: أن يكون إمساكه بالأمور مؤقتا حتى يتهيأ مخرز نجل مهاتير لتولي رئاسة الوزراء بعد سنوات حتى تبتعد شبهة التوريث، وكان الرجال المهيئون لحراسة المنصب ثلاثة؛
أولهم: أنور وقد منعه طموحه الجامح من ذلك مع منازعته لمهاتير كثيرا من إنجازاته كما اعترف مهاتير، وهي من مآخذه عليه، ومن له همة أنور وكاريزماه لا يصح للحراسة مع العلم أن أنور أقرب للتوجه الأمريكي من الرؤية الشرقية اليابانية، فمهاتير ينظر غربا عبادة وسياسة وتوجها، الثاني: عبدالله بدوي ذي الأصول العربية وكان مناسبا للحراسة إلا أنه ضعيف جدا، ولضعفه تنازل عن رئاسة الوزراء لأسباب كان ظاهرها فشل الحزب في الانتخابات، وباطنها إفساح المجال لثالث ثلاثة وهو نجيب عبد الرزاق، وكان في نجيب ما يطلب مهاتير وزيادة؛ فنجيب دخل عالم النفوذ السياسي بفضل مهاتير، وكان يوصف بأنه أذكى وأوفى تلامذته في أمنو، والزيادة التي فيه هو أنه ينحدر من أسرة سياسية عريقة؛ فأبوه ثاني رئيس وزراء لماليزيا بعد الاستقلال، وهذا بحد ذاته يختصر الطريق على نجل مهاتير، ويشكل سابقة في السياسة الماليزية من تعاقب الآباء والأبناء على تولي رئاسة الوزراء.
استمرت العلاقة السياسية بين مهاتير وتلميذه منذ 2009 وحتى 2015 علاقة طبيعية هادئة كطبائع الشعب المالوي غير أن التحولات الكبيرة التي حدثت في العالم العربي بعد ربيعه انعكست على ماليزيا بكل أبعادها فنالت حظها من محاولة التثوير، واستقبلت آلاف اللاجئين بعد قيام الثورة المضادة، ووصلت إليها ملايين الدولارات الباحثة عن ذمم تشترى مقابل التضييق وطرد من تشتم فيه رائحة الإسلام السياسي، وهو سوء تقدير من ممولي الثورة المضادة، هذه الآثار انعكست على الشعب الماليزي مع حوادث الطيران المتكررة والكساد العالمي فغلت المعيشة وكثرت الضرائب، وكان كل ذلك أمرا بسيطا يعالج في إطاره غير أن ثمت شائعة انتشرت في وسائل الإعلام تتعلق بالفساد المالي في دولة خدمية هددت المشروع المهاتيري وخصوصا رؤية 2020، وهنا كان الاختبار الصعب لمهاتير الذي قال عام 2003: "وقتي انتهى، لن أتولى أي مسؤوليات رسمية بعد 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2003، لأنه من المهم أن يتولى قيادة ماليزيا جيل جديد بفكر جديد".، فمهاتير هنا إما أن يمالئ الحكومة على أمل أن يتدارك هو وابنه شيئا في المستقبل أو يرفع صوته معارضا، بعد اجتماعات متكررة مع نجيب اتضح لمهاتير من خلاله أن التلميذ شب عن الطوق أو كاد، وهنا تحركت الحظوظ لأنور الذي كان يحاكم في العام نفسه 2015 بالتهم التي أنهي بها طموحه لتولي رئاسة الوزراء، ليحكم عليه بـخمس سنوات نافذة، بعد يأس مهاتير من إصلاح الفساد الذي أشيع عن نجيب وظهرت أماراته في تعثر المشاريع الكبرى في ماليزيا؛ لبس مهاتير "قميصه الأصفر" ونزل مع المتظاهرين للشارع، وبدأ تنسيقاته السياسية مع مختلف القوى المعارضة، ولم يغض نجيب الطرف عن ذلك فقد جرد مهاتير من صفة الاستشارة التي كان يتمتع بها، وأخذ منه مكتبه الكبير في برجي التوأم، كما جرد ابنه من رئاسة الوزراء في ولاية قدح الشمالية مسقط رأس الزعيم مهاتير، وبدأ كسر العظم بين الطبيب العائد إلى السياسة الميدانية بعد فرقة دهر وتقاعد وبين التلميذ، وكان إسقاط نجيب خاتمة مهمات مهاتير في البلد الذي نهض به، وقد سعى لتلك المهمة "لابسا لكل حالة لبوسها"، وقد كان اللبوس المناسب هنا هو البرغماتية المحضة، والاندماج ضمن التناقضات، وحين احتاج للتناقضات والإقناع لجأ إلى حليفه الخصم أنور إبراهيم في سجنه وعقد معه صفقة من أغرب الصفقات في عالم السياسية والتحولات والتحالفات، خاض الجميع حملة شرسة كلل تحالف الأمل بالنجاح عادت الصداقة بين حاسمه والدكتورة إسماعيل وخرج أنور من السجن بعفو ملكي ليترك مكانه يهيأ لنجيب عبد الرزاق، المؤشرات تفيد أن التحالف صامد إلى حين تتعافى ماليزيا، ويعاد ترتيب المشهد السياسي، وهو تحالف قابل للاستمرار زمنا، خصوصا إذا قلل أنور من جموحه وخفض مهاتير جناحه.. لكن العرض التاريخي المتقدم عن طبيعة العلاقة بين الرجلين يقول: إن كل شيء ممكن مما يجعل الحسم بترجيح أي خيار من المجازفات غير القابلة للصمود في وجه مصالح متقلبة تتراوح بين مؤسسات متوسطة يحركها رجال أقوياء بأزمجة ضعيفة.