الجدل الدائرُ حالياً حول برنامج (الناس بيظان) يفتح الشهية لنقاش مسألة جوهرية، عرفتُها في المجال الأكاديمي والإعلامي الغربي، ولا أعرف مدى تناولها عندنا في العالم العربي ولم أقرأ عنها بالعربية، إنها قضية اللغة والانحياز الجندري (وفي حالتنا يُضاف أيضاً الانحياز الفئوي والعرقي وحتى الجهوي أو الجيهاتي)، وهو مبحث معروف في اللسانيات وفي السياسة أيضا، وفي اللغة الإنكليزية نجد دعاة المساواة بين الجنسين يدعون لتغيير كلمات كثيرة يرونها تحملُ شحنات من النظرة الفوقية للرجل على المرأة وانحياز اللغة في المجتمعات الذكورية (patriarchal societies) ضد المرأة، فنجد عبارات من قبيل الأسماء والصفات التي تلحقها كلمة(man) أو (men) في حالة الجمع، يتم التصرف فيها، فبدل (spokesman) صارت أغلب الدوائر الأكاديمية والإعلامية تعتمد مصطلح (spokesperson)، وكذلك (chairman ) صار (chairperson) وهكذا..
حتى إن الكوميدي الأمريكي الشهير (David Letterman) خاف – على حد قوله – من أن تُغير الحركات النسائية (feminists) اسمه إلى (David letterperson).. ولعل من أشهر الأمثلة عندنا، ما يرتبط بلفظة البيظان من أمثلة وما تحمله من شحنات ورواسب، وليس الأمرُ مقتصراً على الأعراق، بل هناك الكثير من المفردات التي تتناول فئات (الصنّاع، الموسيقيين، الطلبة، العرب، إلخ)، وحتى الجهات والنظرة النمطية (stereotype) عن أهل الشرق وأهل الكبلة، وهو موضوع طويل عريض لا يتسع له المجالُ هنا.
أما بالنسبة للغتنا العربية، فالموضوع يطرح أكثر من إشكال، لارتباط اللغة بالدين ونصوصه المقدسة والتوقيفية، وبالتالي فإن أي تصرف في المفردات قد يكون فيه تجنٍ على المقدسات، فمثلا يقولون إن اللغة العربية ظلمت المرأة في عدة مواضع، مثلاً إذا كان الرجل ما يزال على قيد الحياة يقال إنه حي أما إذا كانت المرأة ما تزال على قيد الحياة فيقال إنها حية!
كذلك إذا أصاب الرجل في قوله أو فعله فهو مصيب أما إذا أصابت المرأة في قولها أو فعلها فهي مصيبة!.وقس على ذلك مفردات مثل: قاضية، نائبة، داهية، هاوية..إلخ.
ولعل هذا الانحياز اللغوي الجندري(Linguistic gender Bias) يظهر أكثر في أمثالنا وأشعارنا الفصيحة واللهجية، وهو مرتبط ارتباطا قوياً بالأدوار الجندرية (gender roles) في المجتمع القديم، وهي أدوار محددة، ونجدها اليوم في الصفات المدحية للمرأة والمرتبطة بالطاعة والنعومة.. إلخ.. وعكسها للرجال، من كرم وشجاعة وقوة.. إلخ.
وعندنا في الحسانية خصوصاً تتعدى المسألة اللغوية النوعَ إلى مسألة العبودية وتجذُّر مفرداتها، وعباراتها وأمثلتها، وهنا أيضاً تبرز المسألة الدينية، وإن كنا حديثاً استغنينا، في المجال العام على الأقل، عن أغلب الأمثلة التي تشير لتلك الظاهرة، ولكن بعضها ما زال راسخاً ومتداولاً في الأمثال والأشعار، وأتذكر أنني كنت في اجتماع وظيفي مع وزيرِ وأمين عام، وتحدث أحد الزملاء، ربما يقرأ هذه السطور، وقال بحسانية، إننا نستبشر بهذا الوزير خيراً، لأن (غَلْظْ العَبْدْ اللّا من عَرْبيهْ)، أي أن قدر العبد تابع لقدر مَولاه، وطبعاً علق الوزير تعليقاً طويلاً على هذه الرواسب وضرورة التخلص منها، وشنّع على الزميل الذي اعتذر، ومن الغريب أن الأمين العام كان حرطانيا.
هذه خواطر عن هذا الموضوع المهم والذي لا ينحصر في نطاق اللغة فقط، بل هو سياسي واجتماعي في المقام الأول.
فاللغة تلعب أدواراً خطيرة في حياتنا، فهي وسيلتُنا لإدراك الأشياء من حولنا، وبالتالي تُعطيها أشكالها ومعانيها، ولكل مفردة وعبارة شحناتُها وحقولُها الدلالية، وخلفياتُها، (connotations).
وغربلةُ لغتنا العربية موضوع مهم، ولكنه دقيقٌ جدا وحسّاس، ولا ينبغي أن يُترك لغير المختصين (لغويا وحضاريا أيضا)، فإهمالُ مفردة أوعبارة أو حتى بيت شعر، قد تموت به معانٍ كثيرةٌ، وما اللغة إلا وعاءٌ حضاري تعيش فيه الأمم، ومن غيره تنتهي.