عندما تهين الأسريةُ الضيقة آفل القبلية
و يمضي شهر رمضان رتيبا مستهجن ثوب العظمة بفعل الانحراف عن مضمون رسالته - على غير ما هو جار في كل بلدان العالم حيث أنواره مشعة و رحماته الروحانية مبهرة - ليميط اللثام عن عوائق طالما غطتها النزعة الخرافية إلى التمجيد المبالغ فيه بالدين و أخلاقه و قد مكن لها هوى "السيبة" في المسار التعاملي و الانكسار النفسي؛ شهر لا ينبعث منه، على قدره مكانته العظيمة كما يجب، عبقُ الرحمة التي يحملها في ثناياه العطرة عند كل مقدم و تنثرها شذى رسالته المقدسة بين الأنام، فلا حُمِّل بالعطف الذي يتجسد، منه و به، في الإحسان و البذل و العطاء و الصدقة و الإنفاق و التسامح و التقاسم و الإيثار، إلا ما يكون بضعف و خجل مما هو مشوب بالرياء و التغطية و التمويه على غفلة الشهور التي خلت بكل أوجه فعل الفساد و التبذير و التظالم و الإقصاء و البعد عن التمكين للبناء الجاد و نشر العدالة و محاربة النفاق و التزلف و التحصيل السهل.
بهذا يكون الشهر العظيم قد أُعجز عن التغطية، دون العلاج حتى، على الوضع النفسي العام المضطرب و المربك لغالبية مجتمع ما زالت تتنازعه تناقضات كبرى، تصرعه تارة و تمهله تارة أخرى فيستفيق ليعود في دورة سيزيفية إلى سيرته الأولى دون أن يستسلم لأعتى مظاهر الإختلال التي تسببها له - على إيقاع الماضوية المقيدة عن التأقلم مع العصر- في البنية و المزاج العام و المسار المذبذب. و لا يمت هذا الاستنتاج الذي يفقأ العيون بأية صلة إلى الأحجية أو اللغز حيث أنه يستقي كل هذه الاستثنائية الأنتروبو سوسيولوجيةمن خصوصية طبيعته و ازدواجية شخصيته منذ كان من زمن ما قبل نشأة الدولة المركزية.
نعم هي المزاجية الغريبة التي تكشف بكل وضوح تباينا بين طبقات المجتمع لا يبرره تفاوت في الإنتاجية العلمية و الفنية و الحرفية و الإبداعية بقدر ما أن هذه الأسباب ما زالت متعلقة بكل اعتبارات بنية المجتمعية القبلية الإثنية و سلمها الطبقي التراتبي الذي، و إن تداعت بعض أركانه بسبب التحولات المتأتية من نفحات الوعي التي تصل من كل الأصقاع و أتاحتها أيضا التحولات العالمية الكبرى على صعيد حقوق الإنسان و أولويات فرضيات الديمقراطية الزاحفة على العقبات و المتاريس.
و إن الذين يكابرون و ينكرون بشدة التأثيرات القبلية و الإثنية و الشرائحية، السلبية الكبيرة، الماثلة للعيان و المؤثرة في كل مفاصل المسار العام للبلد إلى آفاق دولة القانون و العدالة و المواطنة و الرفاهية المشتهاة، هم في واقع الحال من لا يريدون له خيرا إلى ذلك المبتغى، بل و إنهم في سعي دائم بخبث الطوية إلى تشجيع كل أوجه التحامل عليه و تقويض مساره هذا التي تحتمه ضرورة الانفصام عن عقلية الماضي الفوضوي السيباتي و هياكله و قوالبه الظالمة المدمرة و الترك للرؤية أن تتضح علميا و منطقيا و للمصالحة مع أوجه الماضي المشرق و استخلاص العبر من أوجهه المشابة، شأن تاريخ جميع الأمم.
و لا يغيب على أحد، رغم الصمت الصارخ و التستر بمتاريس المكابرة الواهية و مغالطة الواقع بالتغافل المصطنع، أوجهَ و تجليات هذه الظواهر التقسيمية للمصالح الحكومية و محصول منافعها على حد التعبير الشائع أن توليها فوز بقوة النفوذ و الحضور و تجلي ذلك في تقسيم مناحي الحياة جميعها في حيز قبليي و أسريي تقلص إلى حد ارستقراطية ضيقة تمتلك الجاه الحكومي و النفوذ السياسوي و الحضور التسييري و المكانة المالية في العجلة الاقتصادية المختلة الموازين.
و رغم إنكار المنكرين و صلف المستبدين حتى بالرأي فإن المصالح العمومية في مجملها خارطة ظلم صامت ترتكز على شبكة علائق شبه معقدة و لكنها توافقية تخضع بين الحين و الآخر لعوامل التغيرات المزاجية من زمن ولى و في طبيعة التحالفات التي يحكمها إلى جانب هذه المزاجية حب النفعية من المال العام و الجاه الغاشم في دائرة النفوذ و التسيير. و بالطلع فإن نتيجة هذا الوضع، الذي دأبت عليه كل الأحكام التي تعاقبت فإن الإدارات في جميع القطاعات، هي مجسم و إن كان لا يحمل اسما معلنا فهو عبارة عن خارطة قبلية مجسمة لما انتابها من التقلص العددي على إثر ظاهرة انزياح غير الأصلي فيها بالنسب، تحفظ استمراريتها لفترات تطول أحيانا و تقصر في فترات أخرى على وقع التغييرات و تبادل الأدوار. من هنا فإنه لا يعار انتباه لظاهرة تقسيم و توزيع المصالح القطاعات و المرافق الحيوية و المدنية حتى باتت الهيمنة القبلية بالعدد لا تخفي في واقع تركيبة الأحوال و مسارها بارزة و مجسدة للعيان في قيام :
· الأحياء ذات الطابع القبلي التي تشكلت بفضل القائمين على الشأن العقاري من ولاة و حكام و إداريين و الذين كانوا يومها المشرفين على تقسيم قطعها بين المنحدرين من قبائلهم و قلة من حلافائها،
· الأسواق القبلية التي وجدت هي الأخرى و تأسست و انتشرت بفضل المسؤولين عن السياسة التجارية و رقابة طرقها و منافذها و مصادرها و قد كان من أولوياتهم التخطيط و التسهيل لذويهم فسهلوا لهم الأمر و مكنوا لهم في التجارة،
· المدارس و المكاتب الدراسية و الاستشارية القبلية التي رأت النور منذ البداية و ضربت في الواقع التنموي قواعدها ثابتة لأن من كانوا على الشأن التعليمي و التكويني و التأهيلي و التدريبي و الفني و التخطيطي هم من بأيديهم كل سياسة ذلك و لم يكانوا سوى قبليين إلى النخاع فحرروا الحقل لذويهم و حلفائهم من الابتدائي إلى الجامعي إلى الفني و في المراكز و المكاتب الدراسية و الزراعية و الهندسة و العمرانية و المحاسبية و المالية و حقول البناء و التشييد لتولي و إدارة جميع المشاريع الكبرى و الاستفادة منها،
· و أسلاك الأمن و الشرطة و الاستخبار لأن من تولوا في الفترات الحرجة هذه المهمة لم يستنكفوا عن الاستعانة بالبعد الإنتمائي الضيق و المد التحالفي القبلي الأوسع و الجهوي الأشمل حتى أسسوا شبكات متماسكة تضرب بقوة عند اللزوم في كل منعرج أيا كانت ملابساته،
· العيادات الطبية الأسرية و العشائرية التي فتح لها مجال القيام و الانتشار بفعل المسؤولين الأول الذين فتحوا لذويهم المجال واسعا بالمال العام عشرات العيادات و المستشفيات و المخابر و الصيدليات الخصوصية التي أخلت ملاذات الفقراء العمومية من كل الوسائل المادية و اللوجستية و جردتهم من الاستطباب و الرحمة.
نعم هي حقائق مرة لا قبل للقبليين و الانتهازيين و السياسويين و "السيباتيين" بها، و لكنها جاثمة على واقع البلد تقوض مساره بطئ، تقطع أوصاله إربا إربا كما كان الحال أيام "السيبة" أو أشد، و تمنع دخوله بثقة عصر المدنية الواعية و الديمقراطية و المواطنة على خلفية التصالح مع المعتقد الإسلامي العادل و مع الذات المترفعة عن الممارسات الظلامية و الطامحة إلى العدالة و بناء أركان البقاء.