فقد ذكرنا في الحلقات السابقة الخصوصيات التي أودعها الله في شعيرة الإنفاق في أي وقت كان ولا سيما في رمضان وذكرنا أن كثيرا من خصوصياته لا تشاركه فيها أي شعيرة أخرى ومنها خصوصيته بعموم التوقيت فأركان الإسلام عندها أوقات محرمة أو مكروهة فيها ولكن الإنفاق مطلوب من المسلم في جميع الأوقات يقول تعالى: {وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور} ويقول: {والذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليه ولا هم يحزنون} أي فلا يوجد أي حرج في الإنفاق إلا إذا كان الشخص سيفرط به في نفقة من تجب عليه نفقته، فإذا كان ما عنده إلا ما ينفق به علي نفسه فقد مدح الله من ينفق علي غيره تاركا نفسه جائعا إذا لم يؤد ذلك إلي هلاك نفسه لقوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} أما ترك نفسه لمجرد الجوع وإيثار غيره فقد مدح المولى عز وجل به الصحابة في قوله تعالى: {ويوثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} والشح هنا هو البخل، وحديث الملائكة المتفق عليه أنهم يدعون للمنفق بالخلف وللممسك بالتلف، وقد جاء المولي عز وجل بهذه العبارة وهي كلمة الشح الخارجة حروفها بالتشديد من الحلق لأن وجودها في الإنسان من وعد الشيطان المتغلغل فيه يقول تعالى: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء} والفحشاء هنا هو البخل عن الإنفاق يقول المفسرون أن كل لفظ الفحشاء في القرءان يذهب إلى الزنى ونوعه الآخر الخبيث وهو اللواط إلا هنا فالفحشاء في هذه الآية يعني البخل بأنواع الإنفاق الواجب والتطوعي ولذا يقول الله تعالي في البخل هذه الآية المزلزلة لضمير الإنسان المسلم: {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السموات والأرض والله بما تعملون خبير}، ومن خصائص عدم الإنفاق أيضا أن البخيل به يعذب بنفس ما بخل به يقول تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباهم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} أما إن كان المبخول به من جنس الأنعام ففي الحديث أن جميع الأنعام التي لم يزكها صاحبها أو لم ينفق منها فإن الله يصيرها كأكبر ما يكون وأسمنه ويضع صاحبها على طريقها فهي دائما تمر فوقه تمزقه بأظفارها وأظلافها وكلما تجاوزه آخرها يرد عليه أولها وهكذا - نعوذ بالله - إلى ما لا نهاية له، ومن هنا نتحول إلى ذكر موضوع الإنفاق وهو مربض الفرس في الآخرة لأننا في زمان وعالم يخضع فيه الإنسان تماما لأوامر الشيطان تاركا أوامر الله في كلامه وهي تطارده وتصدع عليه في قوله تعالى: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق} وقوله تعالى: {اتبعوا ما أنزل عليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون}، فمن المعلوم أن الله تبارك وتعالى خلق هذا الإنسان ومنه الغني ومنه المحروم وجعل في مال الأغنياء جزءا للمحروم وجعل من فتنته للأغنياء اختبارهم بالإنفاق على الإنسان المحروم وجعله درجات: ذوي القربى واليتامى والمساكين والصاحب بالجنب والفقير لعارض وهو المسافر ابن السبيل يقول تعالي مادحا للمنفقين على المحروم وبالأسحار هم يستغفرون: {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم} بل أورد الله عز وجل آية حصر فيها المستحقين لهذا الإنفاق يقول تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم} أما الأولى في الترتيب بين هؤلاء المستحقين فهو موضح في قوله تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصحاب بالجنب وابن السبيل..} فكل من أنفق على غير من أمر الله بالإنفاق عليه بطلبه من الإنسان أن يقرضه بالإنفاق على من سمي له من المنفَق عليه ووعده بمضاعفة قضاء هذا القرض في الآخرة والله يقول في وعده: {أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه} فليعلم كل منفق أن إنفاقه خارج أولئك المحرومين على اختلاف أنواعهم فسيقال لصاحب ذلك الإنفاق الخاطئ اذهب إلى من أنفقت عليه ليجازيك وهو آنذاك لا يملك إلا الأماني والوعود من الشيطان فالشيطان يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا.
وباختصار فإني أكتب هذه الآية أمام المسلمين ليتأملوا فيها تأملا دقيقا ليحذروا من ما حذرهم الله في نحوها أن يصيبهم أو يحل قريبا من دارهم يقول تعالي مخاطبا المؤمنين محذرا لهم في هذا الخطاب من فعل نوع من أهل الكتاب وهم عبادهم: {يأيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله..} فالله يخاطب المؤمنين بقوله يأيها الذين آمنوا والمقصود بما بعد الخطاب التحذير من فعل نوع من أهل الكتاب عبّاد الكتابيين قبلنا فالأحبار عبّاد اليهود والرهبان عبّاد النصارى فهؤلاء ذكر الله هنا في هذه الآية أن كثيرا منهم يأكلون أموال الناس بالباطل وهو طلبها أو أخذها من الإنسان إذا أعطاها لهؤلاء العباد بوصفهم الديني سواء سميت هدية أو عطاء أو صدقة فهذا الأخذ باسم الدين هو الذي يصدون به الناس عن سبيل الله لأن سبيل الله هو إعطاء المال الحلال لمن أمر الله أن يعطي له وقد تقدم ذكرهم ووصفهم الكاشف، فأخذ العابدين لله من مال الناس بوصفهم الديني فقط هو الأكل بالدين المنصوص علي حرمته وهو السحت الذي شنع الله على اليهود الأكل به فقال: {سماعون للكذب أكالون للسحب} فالسحت أًصلا تقال لكل مال حرام ولكنها تنصرف أولا للأكل بالدين فمع أن هذا الأكل تصرف فيه الأموال إلى غير وجهتها الشرعية فأصحابه المنفقون يصدهم العبّاد عن سبيل الله بتغيير وجهة المال وبما هو أعظم من ذلك وهو اعتقاد المنفق أن العابد ينفعه إعطاءه له ماله في الآخرة بل سيقال له ما في الحديث إن الله يقول للمنفق لغرض النفس أنفقت ليقال جواد وقد قيل اذهبوا به النار فكذلك سوف يقال له أنفقت ليرضي عنك هذا العابد إلى ما نعرف جميعا من الأغراض الدنيوية، فإنفاق المال من أول الأربعة التي سيُبدأ بالسؤال عنها: عن مالك من أين اكتسبته وفيم أنفقته: فعلى المسلم أن يتعقل، فإعطاء مال لشخص على دينه فقط مع اتفاق جميع العلماء والمذاهب أنه إذا كان الإعطاء للزكاة الواجبة لا تسقط به عن صحابها يوم القيامة فكيف بالصدقة أو الهدية إذا ألبسناها تلك التسمية الخاصة بآل النبي صلي الله عليه وسلم في زمن وحال معينة أو الهدايا والتهادي المطلوب بين المسلمين بالمفاعلة "تهادوا تحابوا" إلى آخر الحديث، أما غير ذلك فهو من باب تحريف الكلم عن مواضعه كما قال تعالى: {يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب...} وفي الأخير فالله يقول: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصبيهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} صدق الله العظيم.