شكلت مسألة الشرعية السياسية إحدى الإشكالات الفكرية والسياسية الكبرى في الحضارة الإسلامية، التي شغلت اهتمام النخبة العلمية بمختلف توجهاتها الفكرية في العالم الإسلامي، وتصدى للكتابة حولها العديد من العلماء والمفكرين والكتاب والباحثين، ومن مرجعيات معرفية مختلفة؛ دينية وتاريخية وقانونية، كما تم تناولها من زوايا متعددة؛ نصية وتاريخية وإجرائية... وضمن هذه الجهود يأتي كتاب المفكر والأكاديمي الدكتور محمد المختار الشنقيطي "الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي" الذي صدر هذه الأيام عن منتدى العلاقة العربية والدولية في الدوحة.
وتكمن أهمية هذا الكتاب في عدة أمور:
أولها: أن مؤلفه يجمع بين ثقافة الشرق والغرب، فهو مفكر واسع المعرفة ومتمكن من علوم اللغة العربية والعلوم الدينية الإسلامية؛ من قرآن وحديث وفقه وأصول ومقاصد وتاريخ وفرق ومذاهب... وهو من ناحية ثانية مفكر حداثي متمكن من الثقافة الغربية في جذورها، إذ هو خريج جامعة تكساس بالولايات المتحدة الأمريكية، كما أنه من أبرز الوجوه الفكرية الإسلامية في الوقت الحالي التي تثير أفكارها وأطروحاتها جدلا واسعا داخل الساحة العربية، وهو مفكر مناضل، ملتحم بهموم الجماهير وبالقضايا الحية في العالم العربي، وكتاباته لها طعمها الخاص؛ فهي تجمع ما بين الأكاديمية في أدق حالتها، والروح النضالية في أرفع تجلياتها.
ثانيا: أن هذا الموضوع ليس جديدا على المؤلف، فالدكتور الشنقيطي له اهتمام قديم – يصل إلى درجة التخصص - بالفكر السياسي الإسلامي، وقد كتب فيه عدة أبحاث ومقالات وله فيه سلسلة محاضرات. فهذا الكتاب إذن هو ثمرة لتراكمات من الفحص والتنقيب والتفكيك والتركيب، وخلاصة عقود من التأمل والتفكير.
ثالثا: أن الكتاب جمع بين المناهج الثلاثة التي تناول من خلالها الكتاب والباحثين أزمة الشرعية في الحضارة الإسلامية؛ المنهج النصي الذي يتتبع القيم السياسية بصيغتها النظرية التجريدية في نصوص الوحي؛ قرآنا وسنة وفي سيرة الخلفاء الراشدين، والمنهج السياقي (التاريخي)؛ الذي عنى بتحليل التاريخ السياسي الإسلامي ومحاولة اكتشاف الأسباب التاريخية التي أدت إلى أزمة الشرعية في الحضارة الإسلامية، والمنهج الإجرائي؛ الذي سلكه الكتاب الغربيون، والذي سعى للبحث عن سبيل للخروج من الأزمة السياسية للحضارة الإسلامية.
ويتألف الكتاب من مقدمة ومدخل وثلاثة أقسام تضم ستة فصول، وخاتمة، إضافة إلى تقديم للشيخ راشد الغنوشي. وهذا الكتاب - بحسب المؤلف نفسه - هو "دراسة عن الأزمة الدستورية للحضارة الإسلامية تعتمد النص الإسلامي معيارا، والتجربة التاريخية الإسلامية موضوعا، وخروج المسلمين من أزمتهم السياسية غاية. والمقصود بالأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية تلك المفارقة بين المبدأ الإسلامي والواقع التاريخي الذي عاشه المسلمون سياسيا، ولا يزالون يعانون منه حتى اليوم، ثم ما نتج عن تلك المفارقة من صراع على الشرعية السياسية في تاريخ الحضارة الإسلامية" (ص: 17).
مرجعية الكتاب ومنهجه:
يعتمد الكتاب بشكل أساسي على المرجعية التراثية الإسلامية التي تستمد من نصوص الوحي وتعتمد قواعد التأويل الأصولية الفقهية، ولكنه بحكم كون موضوعه يقف على تقاطعات معرفية عدة ويتداخل فيه التاريخي بالسياسي بالأخلاقي، فقد لجأ المؤلف إلى الاستفادة من المناهج التأويلية الحديثة، ووظف في ذلك الإطار المناهج السوسيولوجية والتاريخية والمقارنة، والمنهج المؤسسي والمنهج الوظيفي.
كما أن المؤلف استفاد من أفكار ومقولات لمفكرين وفلاسفة كبار، وحولها إلى نماذج تفسيرية، ومن هذه المقولات مفهوم "الإمكان التاريخي" عند هيكل، ومفهوم "التشكل الكاذب" عند شبنغلر، وملاحظة محمد إقبال ببقاء القيم السياسية الإسلامية "أجنة" بسبب سرعة الفتوح الإسلامية، وتَمْيِيزْ أبو يعرب المرزقي بين "الإسلام التاريخي والإسلام المفهومي"، وملاحظات الجابري حول "القيم الكسروية" و"القيم الساسانية" ودورها في "تخليد" الأزمة السياسية الإسلامية، وخواطر مالك بن نبي حول "تكيُّف القيم السياسية الإسلامية مع الدولة القهرية في التاريخ الإسلامي"، ونظرية "الأفكار المرهقة" عند الفيلسوف الهولندي جوهان هويزينغا، ورؤى صامويل هانتغتون وفرانسيس فوكياما حول "التطور المؤسسي للظاهرة السياسية".
بين قيم البناء وقيم الأداء السياسي:
خصص المؤلف القسم الأول من الكتاب للحديث عن القيم السياسية الإسلامية، التي قسمها إلى نوعين: قيم البناء السياسي، وقيم الأداء السياسي، وهذا التقسيم بهذه الصيغة معين على فهم القيم السياسية الإسلامية ووضعها في سياقها المعرفي وفي إطارها المنهجي، وفي حدود اطلاعي فإن هذا التقسيم والترتيب بهذا الشكل من إبداع المؤلف.
وللمؤلف بحث قديم بعنوان "السنة السياسية في بناء السلطة وأدائها" أشار فيه إلى هذا التقسيم، حيث فرق فيه بين الشورى والمشاورة، فرأى أن الأولى تكون عند بناء السلطة والأخرى تكون عند أدائها، ولكن هذا التقسيم المنهجي يبلغ درجته النموذجية هنا في هذا الكتاب، من خلال هذه الثنائية: قيم البناء السياسي / قيم الأداء السياسي. فماذا يعني المؤلف بقيم البناء السياسي؟ وماذا يعني بقيم الأداء السياسي؟
1. قيم البناء السياسي: وهي تثمل "المعنى الفلسفي والأخلاقي للاجتماع الإنساني من منظور إسلامي، ثم المبادئ والأحكام السياسية الكبرى السابقة على وجود السلطة أو المواكبة له" (ص: 19).
وتشمل هذه القيم: الحرية، والعدل في الحكم وفي القسم، وإهدار المراتب الاجتماعية، والمساواة في الأهلية السياسية، والشورى في بناء السلطة، ووجوب التمثيل السياسي، وعقد البيعة السياسية، ولزوم الجماعة وإمامها، وطاعة السلطة الشرعية، ومنع الحرص على الإمارة، والمدافعة ضد الفساد.
وبين يدي الحديث عن هذه القيم، نبه المؤلف إلى أن أهم ما يميز الفلسفة النظرية للقيم السياسية الإسلامية:
- هدم الوثنية السياسية المتمثلة في إضفاء قداسة على الحكام، مؤكدا أن نبذ الوثنية السياسية "لا يكتمل إلا بتحويل الشأن السياسي شورى بين الناس، على قاعدة المساواة والتراضي والتعاقد. فنظام الشورى الإسلامي يسد الباب أمام أي طغيان سياسي، فضلا عن تأله الحكام وادعائهم الربوبية" (ص: 115).
- قلب الهرمية الفرعونية: وتعني أن الإسلام قلب النظام الذي كان سائدا في الإمبراطوريات من تحكم الرؤساء والمتنفذين والنخب السياسية والمالية في مصائر الشعوب، وجعل الشعب هو مصدر الشرعية السياسية وهو صاحب السلطة والسيادة، والحاكم مجرد أجير عنده.
2. قيم الأداء السياسي: وهي تركز أساسا "على صناعة القرار وعلاقة الحاكم بالمحكوم بعد تأسيس السلطة السياسية" (ص: 19).
وتشمل هذه القيم: الرد إلى الله ورسوله، التزام السواد الأعظم، الأخذ على يد الظالم، المال العام مال الله، منع الرشوة والغلول، الأهلية الأخلاقية للمناصب السياسية (الأمانة)، الكفاءة العلمية (القوة)، المواءمة (وتعني أن يكون الشخص ملائما من الناحية السياسية للمنصب السياسي الذي يشغله)، المشاورة في صناعة القرار، النصح من الحاكم والمحكوم، رفق الراعي بالرعية، منع الاحتجاب عن الرعية، منع الإكراه في الدين، وحدة الأمة السياسية.
ويؤكد المؤلف أن "ترتيب القيم السياسية الإسلامية ضمن صنفي البناء والأداء ترتيبا ثنائيا – دون اعتبارها كتلة واحدة - يدل على أن تتصدر قيم البناء، و"الرد إلى الله والرسول" – بمعناه القانوني المرجعي - يتصدر قيم الأداء. فمن دون شرط الشورية لا ينبني النظام السياسي على ركن ركين من البداية، ومن دون شرط المرجعية يفقد النظام هويته الإسلامية" (ص: 528).
وعندي أن المواءمة، لا ترقى إلى أن تكون في مستوى القيمة السياسية، وإنما هي أقرب إلى التدبير السياسي، ولذلك لم ترد نصوص بشأنها، والمؤلف إنما استنبطها من تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين.
ويمكن أن يقال هنا إن الكثير من هذه القيم التي ذكرها المؤلف هنا معروفة ومتداولة في العديد من الكتابات والأبحاث التي تطرقت لهذا الموضوع.. فما هو الجديد إذن بشأنها؟
أعتقد أن إبداع المؤلف هنا يكمن في ثلاثة أمور أساسية:
أولها: هو في هذا التقسيم المنهجي الذي صنف القيم السياسية الإسلامية إلى صنفين كما أشرنا، إضافة إلى الحصر والاستيعاب للقيم السياسية الإسلامية. وبهذا الحصر والترتيب والتقسيم المنهجي يمكن أن نقول إننا أصبحنا أمام نظرية إسلامية في الفقه السياسي متكاملة وواضحة المعالم.
وثانيها: التوظيف الكبير لنصوص السنة النبوية، ووضع هذه النصوص - التي كثيرا ما تم فهمها بشكل خاطئ ومجتزأ وتوظيفها في عكس مقاصدها - في سياقها المعرفي والمنهجي الصحيح، وهذا في رأيي من أكبر انجازات هذا الكتاب. وقد أحصيت حدود 200 حديث تم الاستشهاد بها في هذا القسم.
وثالثها: المقارنة بالفكر الإنساني عموما والفكر الغربي بشكل خاص في مراحله كلها ابتداء من سقراط إلى العصر الراهن وإبراز تفوق الإسلام وأسبقيته في الكثير من المفاهيم والمقولات في الفكر السياسي في أطروحاته النظرية - لا في أساليبه العملية والإجرائية - على النظريات الغربية المعاصرة.
مسار التقهقر عن القيم السياسية الإسلامية:
خصص المؤلف القسم الثاني من الكتاب الذي سماه "التأمر من غير إمرة: أعباء الزمان والمكان"، لتحليل الأسباب التاريخية للأزمة الدستورية للحضارة الإسلامية، وقد وضع المؤلف يده على مفاتيح قراءة تلك الحقبة من التاريخ عندما لاحظ أن السياق التاريخي الذي ولد فيه الإسلام اتسم "بسمتين محوريتين، هما: الفراغ السياسي السائد في الجزيرة العربية عند ظهور الإسلام، والنموذج الإمبراطوري المحيط بالجزيرة العربية آنذاك" (ص: 261)، فقد كان لهذين العاملين دور أساسي في الانحدار السياسي الذي وقعت في الحضارة الإسلامية.
فأما بالنسبة للعامل الأول المتعلق بالفراغ السياسي في الجزيرة العربية، بسبب غياب سلطة مركزية، وفشل كل المحاولات التي تمت فيها من أجل إقامة دولة، فقد جعل هذا الفراغ الوضع في الجزيرة العربية قائما على الفوضى، و"متفلتا من أي ضابط سياسي، عصيا على فكرة الدولة التعاقدية التي سنتها النصوص الإسلامية، وبذر بذرتها النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون" (ص: 261).
ورغم أن الإسلام غير المزاج الأخلاقي والثقافي العربي، إلا أن هذا المزاج سرعان ما عاد إلى طبيعته الفوضوية وتحكم الروح القبيلة والعصبية فيه، "فثارت ثائرة الفتن السياسية في قلب الجماعة المسلمة، وأدت إلى اغتيال الخليفتين عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وانفجرت انفجارا مدويا في حربي الجمل وصفين، ولم يخمد حريقه إلا بتحول الخلافة الشورية إلى ملك قهري" (ص: 279).
ولم تكن الفتنة الكبرى التي وقعت في عهد عثمان رضي الله عنه إلا "أثرا من آثار البداوة السياسية المتوارثة في المجتمع العربي قبل الإسلام، وثمرة من ثمار الفوضى السياسية التي اعتادها العرب في القرون السالفة على الإسلام" (ص: 301).
ويلاحظ المؤلف أن الانحرافات عن القيم السياسية الإسلامية التي بدأت في منتصف ولاية عثمان رضي الله عنه وتسببت في الفتنة الكبرى، كانت محصورة في "الإخلال بقيم الأداء السياسي"، ولكنها تطورت في عهد معاوية إلى الإخلال بـ"أساس الشرعية السياسية في الإسلام".
ويرى المؤلف أن الفتنة التي وقعت في عهد عثمان شكلت "الحدث التأسيسي الذي زرع الخوف في قلوب المسلمين من انهيار دولتهم واندثار أمتهم" (ص: 410)، وقد أدى ذلك إلى "خروج الأمر السياسي من أيدي نخبة الصحابة المنضبطين بضوابط الشرع، وانتقاله إلى أيدي الغوغاء من الأعراب. وهذا ما مهد لخروج الأمر من أيدي الأمة إلى أيدي السلطة الملكية القيصرية" (ص: 283).
ويؤكد المؤلف أن صفقة عام الجماعة – التي ضحت بالشرعية السياسية لمصلحة وحدة الأمة - "كانت مدخلا للانتقال من منظومة أخلاقية هي قيم التعاقد السياسي الإسلامي، إلى منظومة مغايرة تماما هي قيم التملك والقهر" (ص: 286)، ملاحظا أن "معادلة التضحية بالشرعية لمصلحة وحدة الأمة تحكمت في الثقافة السياسية الإسلامية بعد ذلك، ولم تستطع الخروج منها إلى اليوم" (ص: 285).
وفيما يخص العامل الثاني الذي أدى إلى الانحراف عن القيم السياسية الإسلامية، والمتعلق بالإمبراطوريات التي كانت تحيط بالجزيرة العربية، فيذكر المؤلف بهذا الصدد أن الثقافة الإمبراطورية الرومانية والفارسية مثلت عامل تحد للقيم السياسية الإسلامية، وأن فتح إيران كان له وجهين، أحدهما سلبي، وهو الذي تمثل في مزاحمة التراث الساساني للقيم السياسية الإسلامية، مؤكدا أن هذا التراث هو الذي زود الدولة الأموية ونظام حكمها القهري "بوسائل التسويغ الفكري والأخلاقي الضامن لاستقراره واستمراره؛ لأن ذلك التراث كان حصاد تقاليد إمبراطورية عتيقة، تتأسس على عبادة الملوك واستعباد الرعية" (ص: 327).
ويضيف المؤلف أن الثقافة الساسانية التي ابتلعت القيم السياسية الإسلامية "هي التي وفرت التسويغ الفكري والأخلاقي لواقع الملك العضوض، وحولته من حكم الضرورة والرخصة... إلى حكم العزيمة الشرعية والأصل" (ص: 335).
وبعد تحليل عميق للثقافة الساسانية وبشكل خاص منها "عهد أردشير" وتأثيره على الحضارة الإسلامية، يذكر المؤلف أبرز مظاهر تأثير عهد أردشير ومزاحمته للقيم السياسية الإسلامية، والتي تمثلت في: ترسيخ الوثنية السياسية، واستخدام الدين باسم خدمته، وتثبيت الطبقية الاجتماعية، وتسويغ العسف السياسي. ويضيف أن هذه المظاهر انتقلت "من عهد أردشير وغيره من نصوص التراث السياسي الساساني إلى الثقافة الإسلامية عبر كتابات ابن المقفع، ومنها عبر كتاب الآداب السلطانية" (ص: 379).
رؤية للخروج من أزمة الشرعية السياسية:
بعد أن عرض المؤلف في القسم الأول من الكتاب القيم السياسية الإسلامية بشكل منهجي مرتب ومفصل، وشرح باستفاضة في القسم الثاني من الكتاب الأسباب التاريخية التي كانت وراء الأزمة الدستورية للحضارة الإسلامية، طرح في القسم الثالث من الكتاب منظوره للتغيير ورؤيته للخروج من الأزمة، والتي تتمثل في مسألتين أساسيتين:
أولاهما: هي الخروج من فقه الضرورة المرهق، ومواريث الفتنة، إلى فقه النص الشرعي، واستلهام روح الثورات المباركة التي قام بها خيار الأمة في صدر الإسلام لاسترداد الشرعية الدستورية، ويؤكد المؤلف هنا أن "الاستبداد والحيف السياسي هما أصل الفتن السياسية ومصدرها، وأن الوقوف في وجه الظلم السياسي قبل استفحاله هو الذي يحصن المجتمع من الفتن السياسية" (ص: 431).
ويلفت المؤلف في هذا الصدد إلى التوتر الذي كان سائدا في مواقف الفقهاء من "جدلية الواجب والواقع"، مؤكدا أن الفقهاء قبلوا "الملك بعقولهم ضرورة مصلحية، لكنهم لم يقبلوه بقلوبهم مبدأ شرعيا، فقد ظلت ضمائرهم الأخلاقية – تحت ضغط النص الإسلامي - متمسكة بالمثال السياسي الأول الذي جسدته دولة النبوة والخلافة الراشدة" (ص: 423).
ويناقش المؤلف بهذا الصدد انتفاضة الشعوب العربية في "الربيع العربي" باعتبارها ثورات لاسترداد الشرعية، وبداية لتلاشي هواجس الخوف من الفتنة التي خلفتها مواريث صفين، لتحل محلها "ظاهرة نفسية وثقافية جديدة، هي الوقوف في وجه الظلم السياسي، ومقاومته سلما وحربا" (ص: 446).
وبعد تشريح عميق للثورات العربية ومآلاتها، يصل المؤلف إلى خلاصة مفادها أن هذه الثورات، أمامها مسارات ثلاثة:
- استمرار الحرب المفتوحة بين الحكام والمحكومين لعقود.
- الإصلاح الوقائي، الذي بدأت بوادره في المملكة المغربية منذ بدايات الربيع العربي.
- الانقلاب العسكري الديمقراطي.
والمسألة الثانية: التي يقترحها المؤلف للخروج من الأزمة الدستورية للحضارة الإسلامية، هي "تفعيل القيم السياسية الإسلامية المنصوصة في القرآن والسنة، بترجمتها إلى قواعد دستورية عملية منسجمة مع مقتضيات الدولة المعاصرة، والشروط الاجتماعية للزمن الحاضر" (ص: 483)، وذلك بعد "تجريد هذه القيم من غواشي التاريخ، ثم ربطها بالزمن المعاصر، وربطها بالمنعرج الأخلاقي والسياسي الذي تعيشه البشرية اليوم" (ص: 484).
وفي هذا الصدد يرى المؤلف أن "التلاقي بين الإسلام والكسب الديمقراطي المعاصر تلاق حتمي" (ص: 494)، ولكن هذا التلاقي لا يعني "تكييف الإسلام مع الديمقراطية المعاصرة، بل تكييف الديمقراطية المعاصرة مع الإسلام" (ص: 535).
ويؤكد المؤلف أن أي حل يتعلق بتحويل قيم الإسلام السياسية إلى وسائل عملية وإجراءات دستورية تستفيد من الكسب الديمقراطي المعاصر ينبغي "أن يتسم بسمتين اثنتين: أولاهما: أن يكون مقنعا للضمير المسلم المتعلق بالقيم السياسية الإسلامية... وهذا يلزم أن لا يكون حلا علمانيا. وثانيهما: أن يكون منسجما مع منطق الدولة المعاصرة لا خارجا عنها أو عليها" (ص: 485).
عود على بدأ..
وفي الختام أعود إلى التقديم الماتع الذي كتبه الشيخ راشد الغنوشي لأستذكر قولته أن هذا الكتاب فتح "آفاقا رحبة أمام المسلمين ليعيشوا في انسجام مع عصرهم، فاعلين ومتفاعلين –أخذا وعطاء - مع منجزات الحضارات، دون استخذاء ولا استعلاء زائف" (ص: 15).
وإذا جاز لي أن أضيف شيئا لما قاله الشيخ راشد الغنوشي، فإنني أقول إننا قد لا نتفق مع المؤلف في كل ما ذهب إليه من آراء جزئية تضمنها هذا الكتاب إلا أنه لا يمكننا إلا أن نعترف بأن هذا الكتاب أعاد تأسيس الفقه السياسي الإسلامي، وكتابته من جديد، بمنهج جديد وبطريقة مغايرة للأسلوب الدارج في الفقه السياسي والذي يكرر نفس المضامين الموجودة في مدونات الفقه السلطاني، بصيغ أخرى.
فلأول مرة تتم كتابة نظرية إسلامية متكاملة وواضحة المعالم في الفقه السياسي مستوحاة من نصوص الوحي ومن تجربة الحكم النبوي والخلافة الراشدة.