عزمت عند الصدمة الأولى لفاجعة وفاة الوالد رحمه الله تعالى أن أتجلد برورا به، وأن أكون على قدر التسليم والرضى بالقضاء لاعلى قدر الحدث، وأشكو البث والحزن إلى الله، وشاء الله أن تنحل عرى ذلك العزم مع تقدم الوقت على غير الطبيعي، ومع كل اتصال أو تعزية من أحدهم أرى في ثناياها ما يبعث الشجى ويذكر "متمما" بقبر مالك، وما كان له أن ينسى..
وإن في الكتابة والإنشاء والتحبير صعوبة حين تتوارد الخواطر وتتشعب منعرجاتها، وحين تكون عن فقدان من تعوزك الكلمات على عرامتها، وتقف المفردة العربية عاجزة عن توصيفه ووصفه، وهل هو بالنسبة لك والد، أو أستاذ، أو أخ، أو صديق حميم، أو هو كل ذلك:
وليس على الله بمستنكر *** أن يجمع العالم في واحد
وما أمر وأصعب استحضار اللحظات غير معادة التمثيل، وهجوم ماضي الذكريات الجميلة المسروقة من فكي الدهر قبل هجومه:
أيام كنت رخي بال في ذرى *** حدب على موسن وموسد
ألهو بأحداث الزمان مراغما *** لأنوفها عبث الوليد المستدي
فالحمد لله الذي لايحمد على مكروه سواه.
لقد كان الوالد رحمه الله تعالى من نوادر الدهر حقا؛ فقيها حين يخوض الفقهاء في النازلة، ملما بدقائق التفسير والأحاديث الصحيحة، محبا للسنة محافظا عليها، على جانب كبير من العبادة والصلاة والاستغفار في الأسحار والمحافظة على صلاة الأوابين وأذكار الخروج من المنزل والدخول إليه، وعلى حظ من النظر في كثير من الفنون، ومطالعا نهما كثير الاقتناء للكتب النافعة، وما سألته عن علم إلا ووجدت عنده منه نصيبا مفروضا، أديبا حافظا لكثير من جيد الشعر، وخبيرا بنقده، قال لي مرة في بداياتي الشعرية وكنت أعرضها عليه الآن أذعها ولولا أنها تصلح لذلك لما أمرتك، وكان حافظا لقصص العرب وحكاياتهم، ونزهة للمجالس وحيث يجلس ثم صدرها، وما رأيت أحدا أدرى منه بتاريخ شبه المنطقة وأنساب أهلها مع حكايات جميلة تعين على مكارم الأخلاق وتثلج الصدور، ولقد كان يقول لي وأنا صغير بأن من يحفظ مائة بيت من شعر العرب لا يمكنه أن يفعل فعلا مشينا، وهو بحق - وكما يعرفه من يعرفه - مدرسة متكاملة، ولقد رأيت منه تعلقا بفضيلة الصدق ما رأيته من غيره، ولا أذكر أني تعمدت أن أكذبه في شيء مع ما للفقهاء من الرخصة في ذلك مخافة أن يطلع على غيره وأسقط من عينيه مدى الدهر، وما رأيته يكره شيئا كرهه للكذب والكذابين، ولو كانوا من أقرب المحيطين به..
ولقد عاش رحمه الله تعالى عزيز النفس أبيا قنوعا لا ترغمه الظروف على الخضوع لأي أحد، ولا يرهب جانب من لا يحترمه، قوالا للحق لا تأخذه فيه لومة لائم، وفيا لأهل وده، ولقد حدثني مرارا بتلك القصة التي وقعت له مع أحد أصفيائه المقربين بعد صحبة دامت عقودا من الود، وكان أن نقل له أحد عنه كلمة فجاءه معتذرا، فقال له الوالد: هب أن هذا صحيحا ولكن رصيدك من الإحسان إلي كثير فلو نزعت منه هذه الكلمة فستبقي صنائع كثيرة فيه لك عندي وهذا لا ينقص ما بيننا.
وكان غاية في رجاحة العقل، وعن رأيه يصدر العشير حين يغم الأمر وتختلف الوجهات، وهو خطيب القوم المفوه إذا احتاجوا لذلك، وموئل وملاذ من يستشكل منهم أمرا متعلقا بتاريخهم وعلاقاتهم، وأعلم كثيرا من متعلقات ذلك هو وحده من كان يعرفها.
ولقد كان عطوفا على الضعاف والمساكين وذوي القربي، كثير الحث على الإنفاق عليهم، وإن لتلك الكلمات التي ساقها الله على لسان أحد المساكين حين اتصل بي معزيا وقعا خاصا وأبلغ تعبير عن علاقته بهم حيث قال لي: لقد كنا إذا جئنا للوالد يفتح لنا كل شيء؛ يفتح لنا كتبه فنستفيد منها، ويفتح لنا صدره فنرتاح لمجالسته وحديثه العذب، ويفتح لنا خزائنه ويعطينا ما نحتاجه.
وله أياد كثيرة على طلبة العلم تقبل الله منا ومنه، ففي السنوات الأخيرة كثيرا ما يلتزم بتأبيد أحد الغرباء في المدينة من مراحل دراسته الأولى المحظرية حتى يكمل حفظ القرآن، وكان كثير الصلة للرحم، كثير العلاقات المميزة، ولا يصحب إلا أفاضل الناس وعلية القوم من كل الجهات،
ولا أذكر عالما أو شيخا أو شاعرا مجايلا له إلا وله معه ود خالص، ويحتفظ بكثير من المراسلات بينه وبينهم في كتبه.
وكان حسن الخط، ومجيدا في الشعر الحساني، ومن آخر قوله قبل سنتين بعد مصيف في انواكشوط يحن إلى أرضه "التقاده" التي ألفها وغرس فيها النخيل بيده وسقاه، جعل الله ذلك مما يلحقه ثوابه في الآخرة:
يالل مركن انواكشوط *** حامل منو زياده
وسهل طرك فآفطوط *** لين انشوف التقاده
أعطاه الله ما يحبه عن تلك الأوكار، وأكرم نزله، ووسع مدخله، وملأ قبره نورا وخضرا، ومد له فيه مد البصر، ونقاه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، ونجاه من فتنة القبر، وإنا لله وإنا إليه راجعون.