صحيح أن موريتانيا تأخرت كثيرا عن استضافة قمة الإتحاد فريقي التي هي من مؤسسيه يوم كان الوحدة الإفريقية و التي تنتمي إلى قارتها قلبا و قالبا و قد أسماها ذات مرة الراحل "المختار ولد داداه" "همزة وصل" قاصدا بحنكته و وسطية فكره و بعده عن الانحسارية في قمقم "القرون الوسطى" بمستواه الثقافي المكتسب وسط بؤر الضوء الأوروبية في عصر تفتق الأيديولوجيات المنفتحة على محاربة التمييز بين الأعراق و نبذ الظلامية و أدبياتها الهدامة التي جسدتها "السيبة" في هذه الربوع رغم حضور الإسلام الحنيف و بما أسهم به من إشعاع ثقافي استثنائي في مجتمع بدوي كثير الترحال و راء المزن و الكلأ.
تأخرت موريتانيا سبعة و خمسين عاما عن الأخذ بحقها في استضافة القمة القارية و التسجيل لها "مذكرة قمة" تشكل مرجعا و منطلقا و ذاكرة لما بعدها.
و لما كان لهذا التأخر الطويل ـ في البدء ـ أسبابا منطقية منها غياب بنى تحتية كافية حيث لم يترك الاستعمار الفرنسي في هذه البلاد مرافق و منشآت بخلاف كل المستعمرات المجاورة، و لا كذلك مطارات تستوعب حركة كثيفة أو دور ضيافة و قصور رسمية تؤوي الوفود الكثيرة، فإن هذه الأسباب كانت ناتجة في بعضها عن ضعف الإرادة و "عقد"التأخر و النقص و عدم القدرة على مواكبة حركة الحداثة التي دخلتها البداوة على ظهور العيس.
و لما لم يكن أيضا لهذه الحالة من مسوغ وجيه لما بدأت الدولة تجنيه من تسويق معادن النحاس و الحديد و الذهب و بعض التربة النادرة و السمك من مياهها في المحيط الأطلسي الأغنى بأنواعه في العالم، فإن ثمة أسبابا أخرى دخلت على الخط لتقيد مسار تقوية البناء الهش و التنمية البادئة لتوها بريع هذه الثروات. و من بين هذه الأسباب التي لم تكن يوما خافية:
- الجفاف الحاد الذي ضرب البلاد في منتصف الستينات و كل السبعينات و بداية الثمانينات ممتدا بذلك على فترة عقود متتالية شغلت القيادة و أهمت العامة و أقلقت الحركات الفكرية الناعمة المولودة لتوها في خضم الوعي العالمي. و لم تكد تستفق البلاد من صدمة الجفاف حتى اندلعت:
- حرب الصحراء الضروس لترمي بثقلها على كاهل بلد يتقاسمه الفقر و الجهل و الظلامية الاجتماعية، فتهاوى "مبتدأ" الصرح و انقلب العسكر في "خبره" على الحكم المدني لتدخل البلاد في أتون سلسلة من الانقلابات البائسة فتبعد كل أمل في عقد قمة عربية بحكم الانتماء إلى جامعة الدول العربية، أو إفريقية بحكم وسطية الموقع في القارة أو إسلاميةللمكانة الدينية التي تشتهر بها أو اقتصادية لامتلاكها مقوماته من المعادن و في ساحل إستراتيجي غني.
ثم جاء الهدوء من بعد قلاقل أخرى تلاحقت كأزمة السنغال و انفلات الأمن النسبي على أيدي العصابات القادمة من وراء الحدود و ابتعاد أكثر عن أية إرادة أو فكرة تجعل البلد ملتقى و مكان انعقاد قمم حتى بدأ التفكير الجدي في انتزاع حق استضافة اللقاءات الدورية و توكلت البلد و نظمت القمة العربية و حالفها النجاح ليدرك الكل أن الأمر متعلق بالإرادة و رفض التلكؤ عن واجب الاستضافة وراء عقدة العجز و الخوف من الازدراء، و إذ لم تخرج القمة بأكثر من سابقاتها عن زيادة الشروخ و الانقسامات و هزيل المخرجات لفائدة الشعوب و الدول و ببيانات ختامية أشبه بالقصائد التمجيدية على منوال القصائد في عصر الجاهلية و العصور التي تلته.
و هو ذات حال القمم الإفريقية التي تلتئم فيجتمع من حضر من الرؤساء و رؤساء الوفود و الضيوف يعلن في البدء عن جدول أعمال حافل بالملفات الحساسة و مشاريع العمل المشترك الكبيرة، و لتنفض في الختام ككل قمة سبقت ببيان حافل بالمجاملات و الوعود و خيبة آمال الشعوب و ليضرب الموعد الموالي في دولة أخرى.
فهل تكون قمة نواكشوط استثناء لما يتميز به ظرف انعقادها من تحولات جذرية حصلت في كل أرجاء القارة السمراء و طالت أركان "صمت" كان "منيعا" و قمع كان "مريعا"فتداعى حيث اهتزت ربى أحكام عتيدة، و تخلخلت أركان أخرى ممسكة، و ترتعد فرائص بعضها آخر خوفا من "مد الرفض" و "استشراء الوعي"، و أجبر قادةٌ على احترام الدساتير و إرادة الشعوب و تمديد المأموريات، و بدأ آخرون يفكرون بجدية أكثر في مخارج آمنة من بقاء تحفه الأخطار العاجلة و الآجلة؟
و هل تختلف بما ستقدم البلاد و تسوق مما تقول إنه مقاربات ناجحة في الأمن و محاربة الفساد و الهجرة و الطاقة المتجددة و غيرها؟
و هل تكون بحضور الأمم المتحدة و المجموعة الأوربية و ربما الرئيس الفرنسي قمة تكسر روتين الاجتماع العائلي بين جدران المجاملة والصمت و الاحتواء؟