الأخبار (نواكشوط) ـ تيامُنًا بأداء أعز أركان الإسلام وأكثرها مشقة على سكان صحراء موريتانيا النائية، اختارت مريم بنت أوبّ لقب "الحاج" لتطلقه على ابنها سيدي محمد ولد السالك ولد فحفو، فكان لها ما تمنّت، وأدى الابن فريضة الحجّ برًّا وهو في الثلاثينات من عمره.
لقب "الحاج" ذاع صيته ليطغى على الاسم "سيدي محمد" ويرتبط بأحد أشهر العلماء الموريتانيّين في العصر الحديث الذين تجاوز تأثيرهم إلى مختلف قارات العالم.
النشأة وطلب العلم
ولد العلامة لمرابط الحاج ولد السالك ولد فحفو في حدود عام 1911م بمنطقة اتويمرات كلاله الوعرة بين أعالي الجبال على حدود ولايتي لعصابة وتكانت وسط موريتانيا، وترعرع في بيئة محظرية حيث كان سليل أسرة علمية ذات تاريخ عريق في طلب العلم وتعليمه.
كان العلامة أحمد فال ولد آدو من بين أبرز شيوخ لمرابط ولد فحفو، كما درس في محظرة أهل أبات، فضلا عن محظرة آبائه باتويميرات كلاله، وكان منكبًّا على المطالعات شديد الحرص على ملازمة الكتب يقوده الشغف بالبحث في ما حوت من علوم إلى الانقطاع عن ما حوله.
خلال الأربعينات من القرن الماضي أدى لمرابط ولد فحفو فريضة الحج سالكا طريق البرّ، في رحلة تحدى خلالها مصاعب شتى اعترضت طريقه، وتقول الروايات الشفوية إنه مرّ عائدًا بآغوينيت حيث حكى عن رحلته للشيخ التراد ولد الشيخ سعد بوه الذي صادفت من نفسه رغبة عميقة في زيارة أول بيت وضع للناس فحجّ هو الآخر في السنوات الموالية.
وباستثناء فترة يسيرة قضاها في مدينة كرو، ظل لمرابط الحاج ولد فحفو طيلة حياته الممتدة على نحو مئة وعشر سنوات (110)، يقيم في منطقة اتويمرات النائية حتى وفاته اليوم الثلاثاء 17 يوليو 2018.
انقطاعٌ للتدريس
على نهج آبائه في التدريس بمحظرة اتويمرات التي يناهز عمرها ثلاثة قرون، نهج لمرابط ولد فحفو الذي نذر عمره لطلب العلم وبثه في صدور الرجال، وعلى مدى عقود طويلة من التدريس تخرجت على يديه أفواج من العلماء وقد نهلوا من علمه الزاخر في شتى المعارف المحظرية.
يجلس لمرابط ولد فحفو عقب أدائه صلاة الفجر لتدريس طلابه، يقرأ هذا نصّه الفقهي وذاك من متن في النحو والصرف وآخر في المقرأ والتلاوة أو في الأصول والمنطق والبلاغة... ليجد من لمرابط شرحًا يناسب مستواه العلمي. وباستثناء وقت يسير خلال القيلولة تتوالى أفواج الطلاب عليه حتى بعد صلاة العشاء.
لا ينام من الليل إلا قليلا، فالقيام وتلاوة السحر لها حظها الوافر هي الأخرى من وقت المرابط ولد فحفو، شأنها شأن التأليف والكتابة حيث أصدر عددًا من المؤلفات في الفقه واللغة والحديث والسيرة وغيرها.
اتسع حصير كوخ لمرابط ولد فحفو باتويمرات لطلاب علم من دول مختلفة في قارات أوروبا وأمريكا وإفريقيا وآسيا، وكان من بين أشهر هؤلاء الدعية الأمريكي حمزة يوسف هانسون (سابقا: مارك هانسون)، وهو مؤسس كلية الزيتونة التي لها فروع في ست مدن أمريكية، كما لمؤسسها صيت كبير كأحد أشهر دعاة الإسلام في الغرب.
رمز للزهد والتصوف
عرف عن لمرابط ولد فحفو ورع وزهد عز نظيرهما في عصره، زهد في ما عند الناس ونأى بنفسه عن السياسة والحكّام ووسائل الإعلام فكسب قلوب الجميع على ما فرّق بينهم من خلافات.
نأى بنفسه عن الصراعات القبلية حتى ما كان منها ذا علاقة بمقربين له، يرفض لمُجالسيه إسماعه سوءًا من غيبة آخرين، وكان داعية إلى الخير شديد الرفض للمناكر.
كان صوفيًّا لا تفتنه الحياة الدنيا بزخرفها، إلا أنه كان شديد التحفظ على التصوف المنحرف يحذر منه ويرشد تلاميذه وزائريه إلى التقيّد بالسنة والاسترشاد بسلوك الزهاد من الصحابة والتابعين وتابعيهم.
ورغم أنه قد آثر الابتعاد عن الأضواء، إلا أن صيته بلغ الآفاق فكان قبلة لطلاب العلم من أنحاء العالم، لتضمه استطلاعات بحثية وتقارير إعلامية دولية إلى الشخصيات الأكثر تأثيرًا حول العالم.