إذا كان الهدف من العملية السياسة الديمقراطية هي غربلة المجتمع من أجل الحصول على أفضل الكوادر وأكثرهم تأهيلا في مقاليد الحكم وصنع القرار، فإننا قلبنا هذه المعادلة الكونية رأسا على عقب وجعلنا من الفضاء السياسي مكانا فوضويا يتنافس فيه كل من هب.
إن عجز المجتمع المتمثل في التمييز بين النخب والعوام أنتج حالة من الفشل السياسي والإداري المتراكم تراكم التجربة الديمقراطية هزيلة النتائج.
وهذا ما جعل الأنظمة المتعاقبة تستغل وتلعب على هذه النقطة بالذات حيث خلقت ظاهرة "الأطر" وما أدراك ما الأطر؟: أشخاص ذوو مستويات علمية وأكادمية هزيلة أغلبهم لا يملك أي تجربة إدارية ولا خدمية يتقنون فن التملق والهرولة وراء المطامح الضيقة، لا يفكرون في مشاكل المجتمع ولا المدن ولا القري، يسوقون العوام أيام الزحف الانتخابي كالأنعام للأنظمة باسم القبيلة والأسرة وغير ذلك من وسائل التأثير التقليدية وجعلوا من المجال السياسي معتركا تنافسيا لا للأفكار ولا البرامج وإنما للمتاجرة بالعوام وضرب بعضهم ببعض وإذكاء الصراعات وخلق الشروخ بينهم.
بيد أنه في الأعوام الأخيرة بدت ظواهر أخرى في مشهدنا السياسي لا تقل سلبية عن ما كان من عمر التجربة حيث أصبح المجال السياسي قبلة للغوغائيين والديماغوجيين والمهربين و"التجار" والفنانين والأطباء والمهندسين والفاشلين والسماسرة والوجهاء وشيوخ القبائل والأميين والقصر والمراهقين والمراهقات وصار الكل يتعاطى الحشيش السياسي الرديء في الوعي واللا وعي وأصبحت الأحزاب والمؤسسات الحزبية عبارة عن أندية أغلبها فاشل ومستسلم للواقع، يقودها ناد ملكي متمثل في حزب الدولة المتشكل غالبا من الباحثين عن الرغد والطامعين في الريع العام والخائفين على المناصب، تتصارع فيه الأجنحة والولاءات ويأكل بعضها بعضا.
إنما يغيب عن مشهدنا السياسي قصير العمر هو الممارسة الجادة المتمثلة في خلق وعي انتخابي عام وجعل المناصب الانتخابية منصات للأكفاء يؤدون من خلالها الواجب تجاه أمتنا المنسية والمنهكة من ويلات الفشل.
إن المناصب الانتخابية يجب أن تبقى مكانا لتنافس الأفكار والآراء والمطامح من أجل خدمة المجتمع لا مكانا لإذكاء الصراعات وشراء الذمم بالمال القادم من الخزينة أو من وراء البحار.
إن المنصب الانتخابي في الديمقراطيات الجادة ليس فرصة عمل ولا منصة للظهور ولا مكانا للمساومة على المصالح الضيقة وإنما مكانا للذين يودون تقديم أفضل الجهود من أجل الوطن والأمة.
والله من وراء القصد.