كان آخر عهدي بالانضباط الحزبي بالمعني الصحيح للعبارة حين وجدت نفسي ذات لحظة تمرد في عقد الثمانيات عصيا على قاعدة المركزية الديمقراطية le centralisme démocratique التي كنا نتبناها ضمن جملة المبادئ العامة لتنظيم الحركة الوطنية الديمقراطية المحظورة حينها،
والتي تقتضي لزوم الجماعة عبر الانصياع إلى قرار القيادة الذي ينزل في صيغته النهائية إلى القواعد بعد نقاش يشارك فيه الجميع علي مختلف الأصعدة...
و الحقيقة أنني كنت رغم مرارة الفراق مع رفاق خلايا المدائن السرية المومنين حقا بمشروع مجتمع أرغب في ممارسة السياسة من زاوية الاستقلال الفكري و على مسافة من أطراف الصراع الإيديولجي الذي ظهرت لي علامات نهايته قبل انهيار الأيديولوجيات.
ومع انطلاق ما بات يعرف في ليل التاريخ الوطني الطويل بالمسلسل الديمقراطي le Processus démocratique الذي تزامن مع بداية مساري المهني وجدت نفسي ضمن خليط من الأطر من ذوي المشارب و المآكل المختلفة لا يجمعها سوي عزمها على مساندة النظام القائم ضد ما سيسمي بالمعارضة التاريخية في أدبيات السياسية المورتانية..
و كانت لنا ليالٍ من التشاور في صالونات البرجوازية الصغيرة تجمع فيها قدماء "كادحين مريًم" و "كادحين الهياكل" و غير ذلك من عينات "المنبطحين" منهم و أصناف البعثيين البغداديين و الدمشقيين و من والاهم من بقايا التروتسكيين و أشكال الناصريين و القذافيين و العديد من رموز الإخوان المسلمين الذين تميزوا سنة 1986خلال الانتخابات البلدية في حملة "الائحة الخضراء" المحسوبة على رجال الأعمال والمال ..
فكان هذا الخليط المتفجر سندا لحزب "شنك بنك " المسمي بالحزب الجمهوري الذي صنعته السلطة من "بيعة الفركًان" حيث توافد بموجبها الأهالي علي منزل وزير الداخلية المستقيل لغرض تاسييس "حزب الدولة " و كان حينها يسكن في المبني الحكومي القديم في حي لكصر الذي صار حاليا يعرف بمركز الأمومة والطفولة...
شخصيا عبرت مرارا و تكرارا قبل. الإطاحة بالنظام السياسي الذي دعمته في بداية المسلسل الديمقراطي و الذي تقلدت فيه قبل نهايته بعامين منصبا وزاريا يلزمني سياسيا بالتضامن معه عن عدم موافقتي على النهج الذي يعتمده الحزب في تعاطيه مع مناضليه والذي يكرس ظاهرة المخادعة السياسية المتفق عليها والشواهد المكتوبة على ذلك موجودة.
ثم عبرت بعد ذلك عن مساندتي للحزب حين تم قطع رأسه و صار عرضة للشماتة و النكاية و قد كان موقفي حينها ينطلق من دافع أخلاقي يقتضي بلزوم الجماعة و اجتناب كل ما من شأنه أن يفرقها و لذلك بقيت ضمن مجموعة الأطر التي لازمتها حتي تفرقت على رؤوسنا في سياق تكوين كتلة المستقلين ثم بعد ذالك حزب "عادل" بإيعاز من الحكم ـو من الأحكام القائمة..
و عسي أن تكرهوا شيئا و هو خيرا لكم....مذ تفرق جماعة الأعيان و غيرهم من كبار النافذين التي كان تشكل عَصّب الحزب الجمهوري الديمقراطي .. رحمة الله عليه - وجدت نفسي رغم كراهية التفرق و مراراته كمن كان مرغما بحكم مبدأ لزوم الجماعة على ارتداء معطف شتوي في الصيف الساخن فجاءه الخلاص منه دون إرادته و مذ ذلك الحين غمرني نسيم الاستقلالية الفكرية من جديد....
صحيح ان تقلدي لوظائف في جهاز الدولة قد يحد من تلك الاستقلالية بل إنه حد منها امتثالا لواجب التحفظ الاداري و لكن أقولها..و للامانة .. لم يطلب مني في وظيفتي الحالية الانضمام إلى الحزب الحاكم الذي لم أنتسب له ولا لحزب "عادل" من قبله و هذا بحد ذاته أعتبره مكسبا هاما ينبغي توطيده في الإدارة العمومية التي يتعين عليها في دولة القانون عدم الخلط بين الانضباط الحزبي والانضباط الإداري فبحكم هذا الأخير أشعر اليوم بغض النظر عن موافقتي أو معارضتي لنهج الحزب الحاكم أنني أخدم مورتانيا فوق كل اعتبار..