في أحد أيام رمضان الماضي اتصل بي أحد زملاء مهنة المتاعب ليخبرني بإعلان نشرته اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات تبتغي فيه التعاقد مع عدد من الكفاءات ممن تتوفر فيهم شروط من أهمها الحصول على شهادة جامعية عليا علاوة على تجربة لا تقل عن 15 سنة في العمل.
استبشرت بالخبر لسببين: أولهما أن اللجنة من خلال الإعلان تريد أن تصحح النظرة السائدة عن أعضائها، والثاني أن إعلانا كهذا من شأنه إذا ما تم احترامه أن يمد اللجنة بكفاءات إدارية عالية تساعدها في إنجاح المهمة المنوطة بها.
بدأت على الفور في تحضير الملف المطلوب رغم انشغالي بمهمة تسيير إداري في مؤسسة تعليم خصوصية في ذروة الامتحانات. زرت مقر إيداع الملفات في مباني مدرسة تكوين المعلمين بنواكشوط، كان الزحام شديدا، والفوضى منتشرة رغم أن الجمهور الحاضر ممن يفترض أنهم كانوا من النخبة!.
استجمعت قواي انتظارا لفرصة سانحة ومع اقترب الغروب وتسلل الجموع بفعل الإعياء وصلت إلى المعنيين باستقبال الملفات، أحدهما يدعى "الأمين صو" يتولى التدقيق في الملفات ومدى توفر الشروط فيها، كان رجلا مثاليا، وصبورا رغم الزحام ويعرف عمله باتقان، تجاوزته بعد إمضائه للملف لزمليه الثاني ويدعى "حامد" كان هو الآخر رزينا وينزل الأمور منازلها، وبعد خروجي من مبنى استقبال الملفات ازددت قناعة بأن الأمور تنحوا منحى جديا.
مع انتهاء رمضان وتحرري بعض الشئ من ضغط العمل زرت مقر اللجنة مستفسرا عن نتائج الاكتتاب المذكور، وهنا اكتشفت الحقائق التالية:
- معيار الاكتتاب في اللجنة يحدده مؤهلان أساسان هما: الانتماء السياسي، والوجدان العاطفي أكرمكم الله.
- اللجان الجهوية التي تم اكتتابها لحد الساعة غيب عنها عدد كبير ممن تتوفر فيهم الشروط واستبدلوا بأشخاص لا يفقهون في العملية الإتخابية، وتم استدعاؤهم بالهاتف إرضاء لفلان أوعلان.
- عدد من أعضاء اللجنة من "اللونين" يقرون عند التحدث معهم أن الأمور التي لا تسير على ما يرام داخل أروقة اللجنة لكن "قوة قاهرة" تحول دون تصحيح الاختلالات داخل دهاليزها.
- رؤساء الأحزاب المشاركة في اللجنة من المعارضة المحاورة مسؤولون بدرجة كبيرة عن تفشي المحسوبية في الاكتتاب وهو ما يفسر الطريقة التي اختاروا بها أعضاءهم في اللجنة.
- أكثر القصص المحزنة في هذا الموضوع قصة رجل كبير في السن يدعى "بكار" ذنبه الوحيد أنه إداري متقاعد ذو تجربة كبيرة في الميدان الانتخابي منذ العام 2006، وتم إقصاؤه، عند الحديث معه يطلعك على كافة الوثائق التي تثبت الظلم الذي تعرض له، تفسيره هو لما حدث أنه تم استهدافه لأنه من "شريحة" معينة وهو الأمر المؤلم حقا.
هذه الحقائق التي شاهدتها خلال الخمسين يوما الماضية من ترددي على مقر اللجنة دفعني فضول الصحفي خلالها إلى طرح أسئلة جوهرية على عدد من أعضاء اللجنة كان إجاباتهم تتأرجح بين التعبير عن عدم رضاهم عما يجري، والتبجح بأنهم جزء من كل، ولن يقبلوا "الغبنة" في تقاسم الكعكة.
يوم أمس شهدت واجهة اللجنة حوارا مثيرا بين عدد من أعضاء اللجنة حول تقاسم المناصب في الشارع وأمام الملأ، ارتفعت الأصوات وسمع المحيطون بهم في الشارع تبرمهم من "شين شرك" زميلهم (....) قبل أن يشير عليهم أحد "الخيرين" بركوب السيارة لاستكمال النقاش الساخن.
مع تعيين الدبلوماسي والوزير محمد فال ولد بلال رئاسة اللجنة تطلع الجميع إلى نمط جديد من التسيير يعيد للهيئة هيبتها التي مرغها الهواة والمتسيسون في التراب، لكن يبدو أن "فالي" أراد العمل وفق خطة الدبلوماسي الذي يفضل التعاطي مع الأمور بمنطق خطوة خطوة، ومن هنا وبحسب ما رشح من أخبار فإنه لم يشأ التدخل فيما سبق إليه، وفضل التفرغ إلى الأهم وهو ترميم سمعة اللجنة مع شركائها.
سنحت لي فرصة لقائه ظهيرة اليوم وهو خارج من مسجد الحي الذي يوجد فيه مقر اللجنة، اغتنمت الفرصة وأطلعته على ما شاهدته من تجاوزات آملا منه تصحيحها، استمع إلي بإنصات يحسب له، وودعته وأنا استحضر مخاطبا المتظلمين أمام مقر اللجنة قولة جرير لزمرته من الشعراء لما صرفوا عن باب الخليفة العادل عمر ابن عبد العزيز (جئتكم من عند أمير... وإني عنه لراض).