ما كاد الأفاك دونالد ترمب، يعتدل في جلسته على كرسي الرئاسة الأمريكية، بعد انتخاباتٍ أثارت جدلا عريضا، ولغطا لمّا يتوقف بعد، حتى بدأ الترتيبات الممهدة لتنفيذ أهم وعدين انتخابيين له، أولهما إمضاء "صفقة القرن" التي تتم بموجبها تصفية القضية الفلسطينية نهائيا، لصالح دولة قومية يهودية تهيمن على كل فلسطين التاريخية، بما في ذلك الأقصى وكل المقدسات الإسلامية والمسيحية؛ أما الوعد الانتخابي الثاني لترامب فهو إطلاق "الفزاعة الإيرانية" في العالم، بحيث تفرض نفسها على جداول أعمال المجتمع الدولي، ومنه العرب المطلوب منهم اعتبار الجارة المسلمة عدوهم الأول، والدخول في تحالف دولي لردعها، تكون إسرائيل طرفا فاعلا فيه.
فزاعة الخطر الإيراني المحدق بالمنطقة العربية، صنعت في مخابر الدوائر الأمريكية، وعلى عينها، وبمقاسات سياساتها وأهدافها الاستراتيجية، وقد واتت الفرصة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، لإطلاق الطبعة الأخيرة المنقحة والمزيدة منها، وذلك بعد مخاض طويل عسير، افتضته ضرورة استجماع ممهدات التصفية الجائرة للقضية الفلسطينية، ومنها تحقيق تراجع الصراع العربي الإسرائيلي إلى الدرجة الثانية، وترك صدارة العداوة لصراع عربي فارسي كريه، تم التحضير له بالتمكين المتدرج لنظام آيات الله ووكلاء الغائب المنتظر الإيرانيين، في كل من العراق وسوريا ولبنان، مع استدراج أذرعهم الطويلة إلى بؤر التوتر العربية الأخرى، ليعطي عهدَ ترامب وبن زايد وبن سلمان، الفرصة الذهبية التي طال انتظارها.
أربعة عقود كاملة، تطلبها إعداد ومراجعة وإنضاج المؤامرة المزدوجة الكبرى، وتهيئة المنطقة وشعوبها، لتقبل مقتضياتها؛ وكانت تلك الفترة كافية للدوائر ذات الصلة بالمؤامرة، وفي ظل انكشاف ظهر أمة تداعت عليها الأمم، وهشاشة مجتمعاتها المفككة الممزقة، وقابلية شعوبها للزحزحة عن مواقعها ومواقفها، وارتهان الجميع لثالوث الغزاة والطغاة والبغاة، لتغيير كل الثوابت والقيم والمثل الأخلاقية التي تواطأت عليها شعوب المنطقة، وعاشت تحت ظلالها قرونا، في سلام ووئام؛ قبل أن يتمكن العدو المتربص من شق صفها، والزج بها في احتراب داخلي، مكنه من غرس خنجر الكيان الصهيوني المسموم، في قلبها النابض، فلسطين السليبة، بشعبها وأقداسها.
الولايات المتحدة التي قادت النصر في الحرب العالمية الثانية، وتولت قيادة الحرب الباردة باسم الغرب كله، كانت قد ورثت أجهزة التحكم (ريموت كونترول) الخاصة بزعماء المنطقة، من القوى الاستعمارية العتيقة التي خلقت دويلاتها الوظيفية خلقا، قبل أن تغادر، بجسومها على الأقل، ثرى الجزيرة والخليج، وبقية الخارطة العربية؛ وقد زرعت مستقبلاتٍ وقرون استشعارٍ حساسة، في كل موقع قرار على الأرض العربية، فكان من السهل الميسور، أن تصدر أمريكا تعليماتها الصارمة، إلى عملائها من قادة المنطقة، بأولوية التصدي لوهم "الخطر الإيراني الداهم"، طريقا للتصفية النهائية لقضية الأمة المركزية، وأبرز مظالم القرن العشرين؛ قضية فلسطين السليبة.
صفق رعاة المصالح الأمريكية، من المتسلطين على شعوب وثروات المنطقة العربية، إيعازات الثلاثي اترمب - كوشنر- إيفانكا، بالتصفيق، وطفقوا يحشرون ويحشدون ويدقون الطبول، استعدادا لتغيير وجهة معركة الأمة المصيرية، مع عصابات اليهود، أشد الناس عداوة للذين آمنوا، إلى وجهة إيران، جارة المكان والزمان، وشقيقة الدين والحضارة؛ ولاعتبار الدويلة العبرية المجتثة من فوق الأرض، والمفتراة على التاريخ والجغرافيا، حليفة في التصدي لها، مع غض الطرف عمن قتلت وأسرت وهجرت من الأبرياء، وما دمرت ودنست واستباحت من معالم الحضارة الإنسانية، ومقدسات الديانات السماوية.
لكأن الحكام العرب، يكتشفون وجود إيران بجوارهم، لأول مرة، كما لو كانت قاذفة تعطلت فهبطت اضطراريا في "رام هرمز"، أو غواصة معطوبة، حسرت عنها المياه في مضايق جزر طنب! هؤلاء المتسلطون العرب، بحاجة ماسة إلى من يهمس في آذانهم المُوقَرَة، بأن إيران دولة وأمة تنتمي إلى إمبراطورية عظيمة، عمرها آلاف السنين، وكان لها في تاريخ المنطقة وفي الحضارة الإنسانية، حضورها ومساهمتها المميزة، وقد فتحها العرب المسلمون في فجر فتوحاتهم، فأسلمت وحسن إسلامها، وكان لأبنائها أكبر الأثر في الحضارة الإسلامية، في شتى المجالات، وخاصة في علوم الدين واللغة والأدب والسياسة، والكشوف العلمية والطبية، والفلك والرياضيات والجبر والهندسة.
قد يقول قائل إن النظام الحاكم في إيران، قائم اليوم، على طائفية صريحة، يكرسها دستور الجمهورية الإيرانية الذي ينص صراحة على هيمنة الشيعة، من أتباع المذهب الجعفري الإمامي تحديدا، على مفاصل الحياة العامة في البلاد، وهذا صحيح؛ لكن إيران ليست بدعا في اعتماد الطائفية والمذهبية المغلقة؛ فمختلف دولنا العربية والإسلامية، تكرس شكلا من أشكال الطائفية الدينية، وأفضل تلك الدول من يقوم النظام فيه على دستور أصلا، وإلا فإن البديل والمرجعية العليا تكون هوى الحاكم المتفرد، ومزاجه ومطامحه وأحلامه؛ فبأي منطق نكرس طائفيتنا ومذهبنا الخاص، ثم نجعل من طائفية غيرنا ومذهبه المختلف، مبررا للدخول معه في احتراب بيني ماحق، دفاعا عن مصالح العدو المشترك للجميع؟
المشتغلون بقعقعة السلاح في المنطقة، استعدادا للانخراط في الحرب الأمريكية الوشيكة على إيران، وخاصة من أعراب نجد وتهامة، ومصائد اللؤلئ على الشاطئ المتصالح، ينفون الأسباب الطائفية للحرب، ثم يلقون باللائمة على نظام ثورة الإمام الخميني، وسياسة تصدير الثورة إلى العالم الإسلامي التي ينتهجها، متناسين أن عمر هذه الثورة ناهز اليوم أربعة عقود كاملة، وكانت قد بدأت، من أول يوم، وبشكل رسمي علني، تصدير أفكار وخيارات المذهب الشيعي الجعفري، مضافا إليها اجتهادات قادة الثورة التي أنتجت حكومة الولي الفقيه، تمهيدا واستشرافا للمهدي المنتظر. فأين كانت القيادات العربية المنزلقة اليوم نحو الحرب، طوال تلك المدة؟!