أسدل الستار على الترشيحات.. وتوزع عناصر الأسرة الواحدة على المناصب الانتخابية الأم على لائحة النساء، والوالد على اللائحة الوطنية، والابن على اللائحة الجهوية، والبنت على اللائحة البلدية..
ترشح الجميع من كل فج وصوب.. المتعلمون والأميون.. الشباب والشيوخ.. والرجال والنساء.. العقلاء والمجانين، العدول واللصوص...، ولم يستنكف هذه المرة إلا من رحم ربك...، واستحقت موريتانيا بحق أن تتسمى ببلد المليون مترشح.. لأنهم باتوا أكثر من شعرائنا، وزاد تعدادهم على صحافتنا، وفاقوا الأميين المنتشرين في أريافنا وأوديتنا.. وتجاوزوا المتسولين على أرصفتنا، في كل بيت لهؤلاء يشرق الأمل.. وينتظر أهله فاتح الشهر التاسع ليدخلوا التاريخ.. كل مترشح يرسم لنفسه مستقبلا ورديا.. ويطمع في أن الأقدار ستعطيه هدية العمر يوم إعلان النتائج.. فالمسن الذي تقاعد وانتهى جهده في الحياة ونال منه الزمن يمني نفسه بأنه سيعود شابا مفتول الذراعين.. وسيخوض المعارك مجددا ليأخذ جزءا من شاة الفيفاء (موريتانيا).. والعاطل الذي فشل في الدخول إلى عالم الوظيفة عبر المسابقات سيقتحم ميدان الشغل بقوة تحمله الأصوات ويزفه الناخبون إلى كرسي وثير ينسيه الشمس الحارقة ومسيلات الدموع في وقفات العاطلين واحتجاجاتهم.. والعانس ترى في الكرسي السحر وكمال الجمال.. وبمجرد جلوسها عليه سيخرج فارس من أي غيمة ليختطفها على جواد أبيض إلى عش الزوجية والسعادة الكاملة، وسيحتمي اللص بحضنه من المساءلة.. فالخطوط العامة للبرامج الانتخابية لا تكاد في الغالب أن تخرج عن هذه المحددات.. ولا قواعد ولا جماهير لأغلب المترشحين لأنها لا تنتظم في الفراغ... ولن تلتئم حول خيار بين عشية وضحاها.. فالأمر يحتاج لبعض الوقت وإلى بناء تراكم قفز عليه البعض وتخطاه..
إن حالة التشظي والتشرذم.. ووفرة أعداد المرشحين القادمين من خارج أسوار السياسة، وعجزهم عن تقديم برامج واضحة ومنافسة، واكتفائهم بالنشر الكثيف لصورهم المعالجة جيدا من ناحية الشكل بالبسمة والديكور يعطي أسوأ انطباع عن أردأ حال للسياسة في موريتانيا.. إذ لم يعد للمشروع السياسي دور في الانتخاب والاختيار، والآمال معقودة على الحظوظ والصدف، ولا شك أن الكثيرين سيصلون بالخطأ، لأن أزيد من مليون ناخب أغلبهم أميون لم يتدربوا بالشكل المطلوب على الاختيار المادي بين لائحتين فقط لا يمكنهم أن يجسدوا ماديا إراداتهم في الاختيار بين عشرات القوائم والترشيحات، الأمر الذي سيفتح الباب مشرعا أمام العشوائية في الاختيار.. والصعود العشوائي لساسة من ورق لا يقدمون للحال إضافة، ولا لمشكلاته حلا.
سينفخ الخاسرون في الانتخابات أوداجهم.. ويرفعون عقائرهم بالاتهامات.. محملين جهات الإشراف مسؤولية عدم نجاحهم.. وأن الغش حال دون وضع التيجان المرصعة على رؤوسهم، وسينشرون الحكايات عن معارك التزوير وأوهام النصر الموؤود والتصفية المقصودة لأنهم أرباب الرأي والشجاعة، وسادة غطاريف لا يقبل الحكام وجودهم إلا في دائرة الظل.. فنحن شعب يعادي الحق والإنصاف ولا يعرف المستحيل، ولا يعترف بالتدرج..، ولا يرضى بالحواجز بين الأشياء ولا يحترم المهنية ولا التخصص، فجميعنا ساسة وصحافة وحقوقيون، وكلنا أهل للإفتاء والمشورة والتحليل .. وهذه أم الدواهي ورأس المشاكل التي تحبسنا عن الركب.. فطالما أننا لن نعترف مثلا للتقني بمكانته العالية حتى يرضى بها.. ولن نقبل من التجار و غيرهم من أرباب الحرف بأهمية الأدوار التي يقومون بها.. فإننا سنظل في هذا المربع الآسن.. بلا تقنيين مفيدين وبلا ساسة محترفين..