كلمة الإصلاح كانت قد ألزمت نفسها بأن تكون مصورة فقط للواقع والمواقع دون أن يكون المراد بكتابتها تحيز لمعارضة ولا موالاة لإيمانها إيمانا راسخا بقوله تعالى {واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه} لأن وراء ذلك مؤاخذة دقيقة لا تخفى معها خافية، ولكن في نفس الوقت تدرك بأن المصور إذا صور جروحا ظاهرة على جسد مظلوم فإن المؤاخذة هنا على الظالم وليس المصور طبقا لقوله تعالى {ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب} ونظرا لهذا كله فإني أود أن أوجه آلة التصوير هذه الآن إلى دولتنا الموريتانية التي أحمد الله أنها دولة إسلامية بالمعنى الصحيح، فإن لم يكن بتسيير إدارتها طبقا لما نص عليه الإسلام في التسيـير فبإيمان جميع ساكنها لا فرق في ذلك بين رئيس ولا مرؤوس ولا لغة ولا لون الخ، وإن كان من قضاء الله وقدره أن لا يخلوا أي مجتمع نهائيا من متمردين ومنافقين على مختلف هذه الأوصاف، ولكن ربك بالمرصاد للكل.
وكما يقال فإن التصديق على الشيء فرع عن تصوره ـ فإني الآن أتصور الحكم في موريتانيا كما يلي:
أولا: فهو متكون من قيادة تكوينها خليجي سواء كان التكوين ملكيا أو أميريا أو ولاية عهد بمعنى أن القائد ينفذ ما دار في خلده سواء كان وافق الحق والعدالة عند الجميع أو اختص هو بمعرفة حقيقة وعدالة الموضوع.
ثانيا: جميع مسميات تسييرنا وإدارتنا مسميات ديمقراطية غربية ـ عنوانية فقط أي برلمان لجنة انتخابية مجلس دستوري محكمة عليا الخ.
ثالثا: إن تسيير إدارتنا يقع ما بين التسيير الخليجي الملكي أو الأميري والمسميات الغربية إلا أن إدارتنا الآن تسير بأحد مسمياتنا الأصلية (الأرض السايبة) في الأفعال دون الكتابة بمعنى إن إدارتنا وقيادتها عندها غاية يظنها الجميع ولكن وسيلتها هي التي ينطبق عليها اسمنا القديم.
والظاهر من هذه المعادلة أننا لم نجد مرفقا من التسيير ندخل فيه التسيير الإسلامي لعدم ادعائه في هذا التسيير مع وضوح قواعده أصلا وهي مراعاة المصلحة العامة والعدالة في التصرف وتطبيق قواعد الإسلام العامة وإن كانت غير مكتوبة لأنها تطرأ ولا يمكن تقنينها مثل الضرر يزال فلا ضرر ولا اضرار ـ والله يعلم المفسد من المصلح ـ وأن تعفوا أقرب للتقوى ـ ولا تنسوا الفضل بينكم ـ ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا فليؤدي الذي اؤتمن أمانته كل هذه الأمثلة الإسلامية وأمثالها في الإسلام لا يمكن تقنينها لأنها تأتي بها العدالة الطبيعية عند الحاجة، وهذه هي طبيعة الإسلام التي أودعها في قلب كل مسلم لا مؤثر في قلبه غيرها وهذه هي التي يؤجر عليها المطبق لها بنية الامتـثال، ولكن تمسكنا نحن بالمسميات الغربية في التسيير فأصبح التقنين لا بد منه في الجميع مع أن تسييرنا الخليجي من طرف العسكريين تارة يكون أحسن من التسيير المقنن للعلة أعلاه.
ولذا فإن تسيير هذا النظام لشؤوننا كان أحسن بكثير في بدايته عندما وصل إلى الحكم وهمته تكاد تتميز من الغيظ لما يشاهد آنذاك في ديمقراطية الفوضى من فساد يكاد يكون مقـننا مع وجود المسؤولية حتى أنه أعلن آنذاك أنه سوف يكون رئيسا للفقراء إلا أن تلك الكلمة وحدها ظلت تراوح مكانها دون الفعل حتى الآن من ما جعل المادحون المدونون والكتاب يحذفونها من شعرهم ونثرهم لعدم رؤية مثال واحد في عشر سنوات يدلون به بخصوصية ما ينتفع به الفقراء، بخلاف الإيجابيات الأخرى فإن منكرها على جميع المستويات ولا سيما الأمن الخارجي خاصة بما فيها السمعة الدبلوماسية والحياة الاقتصادية الخ منكر ذلك مكابر ومعاند أو هما معا.
ولكن متى بدأ العد التـنازلي نحو تفرد الحكم الخليجي في تسييرنا مع حياة السيبة حالا داخل مدننا وبيوتنا ـ فأول استفحال لهذا المظهر السيء ظهر عندما أرادت القيادة أن تستعمل الحزب الحاكم فيما يدور في خلدها من تصرف مستقبلي الله أعلم بكينونته فأطلقت ما يسمى بإصلاح هيكلة الحزب وقد فهم قادة الحزب أنه أمر باستنفار للشعب الموريتاني كله في الانخراط في وحدات تسمى وحدات الحزب وكان أداته لذلك هم الوزراء ومدراء المؤسسات والوجهاء فقام الجميع يتبارى في جمع الوحدات بالحلال والحرام والوعد الصادق والكاذب وأجلب الجميع على هذا الشعب بخيله ورجله حتى شمل ذلك الأحياء والأموات هذه السنة على الأقل والموالاة والمعارضة ومن لا همة له مع الجميع، وعندما وصلت الوحدات أكثر من مليون أي جميع المصوتين البالغين في الدولة وحان وقت وفاء المسؤولين لعهودهم فإذا الاستهلاك أكثر بكثير من المدخرات فبدأ جميع أنواع الانحلال الخلقي والديني والشعبي والقبلي والطائفي وبدأت الأنفس الشريرة والقلوب المريضة تحرك ألسنتها وأقلامها لإذكاء كل شهاب ولو كان تحت الرماد لعله أن يلتقي بمثله تماما فيتعاونان على إيقاد الفتنة من كل الجهات.
أما المسؤولون فلخروج الرمية وهي "الوعد" من أيديهم فلم يستطيعوا إصلاح ما أفسدوا وبقي الجميع يستعد ليوم النزال.
هذه الوضعية التي تسبب فيها الحزب الحاكم الذي أصبح يقود رئيسه وبصفة مكشوفة السلطة التنفيذية هي التي جعلت كلمة الإصلاح تكتب هذا المقال استطلاعا أمنيا ومدنيا وسياسيا يخدم المصلحة العامة قبل يوم الاقتراع إذا أمكن للوضع أن ينتظر ذلك اليوم.
فالأسرة الواحدة والمجموعة المتميزة والقبائل المتجاورة كل ذلك أصبح يغلي فيما بينه ولا يكاد يستثنى أي جهة من الوطن ولا علاج له إلا التدخل المباشر من السلطة ـ وأحسن ما تفعل في الرخاء أن تعيد هذا الشعب إلى نقطة صفر قبل أن يتسع الخرق على الراقع ــ وقد بقي من هذه السنة ما يمكن أن تتم فيه هذه الانتخابات في ظروف أمنية يستحقها هذا الشعب المسلم المسالم فلا حاجة له بديمقراطية لا أمن فيها ولا هدوء ولا سكينة.
ومن هنا نبدأ بتوضيح الأسباب المباشرة لهذه الوضعية بين عشية وضحاها ــ فالغاية معروفة وقد أشرنا أولا أنها حاجة في نفس القيادة تريد أن تقضيها عن طريق الشعب لا يعرف كنهها إلا الله وهي والقليل من الناس.
أما وسائلها فما فات منها قطعا لا يبررها لأنه هو نفسه غير مبرر فمن أين لأي دولة أن تأخذ سلطتها التنفيذية المعينة لتسيير الشعب كله وتجعلها هي الصف الأول للحزب الذي يقاتل به في جميع الجبهات وفي تحصيل الوحدات الخ.
فإذا كان الجمع بين السلطة التنفيذية والنيابية ممنوع لأنهما يتنازعان رأيهما على الأصلح للشعب ـ فلماذا تكون السلطة التنفيذية والحزب الحاكم يتفقان على الأصلح للشعب والشعب فيه كثير من المعارضين المسموح لهم بالمعارضة وهم تحت السلطة التنفيذية لهذا الشعب.
صحيح أن الدستور أعطى للرئيس خصوصية التعيين في الوظيفة ولكن لم يعطى لرئيس الحزب أن يتصرف في السلطة التنفيذية حتى لو كانت أعضاء في الحزب، فهذه السلطة تحكمها علاقة أخرى تتصل بالشعب كله لا يجوز لأي حزب أن يستعملها مع هذه العلاقة الأخرى مع الشعب بمعنى أننا هنا في هذه الناحية لم نتبع الخليجي والمصري أي الحكم المطلق الذي لا كلمة فيه لأفراد الشعب فلا معارضة مسموح بها فيه ولم نتبع الحكم الديمقراطي الغربي الذي يكون المسؤول مجرد خادم للشعب كله لا فرق عنده بين موال ولا معارض ولم نتبع الحكم الإسلامي الذي يكون القوي عنده ضعيفا حتى يأخذ منه الحق للضعيف والغني كذلك الخ ولكننا رجعنا بدون أن نشعر بحكم "السيبة" أو حكم "الغابة" ملفوف في مسميات الديمقراطية الغربية فو الله ثم والله لأحسن بكثير وكثير جدا الحكم المسمى بالدكتاتورية أو الاستبدادية ولا سيما إذا هدى الله الدكتاتور أو الاستبدادي إلى نية العدالة الطبيعية الإسلامية واستعملها في البحث عن الإصلاح ولم يشاور في ذلك إلا أهل الحلم والنهى.
فهذا أقرب للإسلام إن لم تكن فيه نية وهو الإسلام نفسه الأعلى منه إن صاحبته نية البحث عن الإصلاح الذي يرضى الله في الحكم.
أما هذه الفوضى النيابية التي اتبعنا فيها الغرب وزدنا نحن كثرة الراتب من ميزانية الدولة حتى أصبحنا مهيئين للتقاتل على هذه الوظيفة النيابية التي لا مردود لها على الشعب إلا كثرة التهريج في الأبواق ومع ذلك سوف لا يصادق عليه من القوانين إلا ما صادقت عليه السلطة التنفيذية وتلك السلطة لا تصادق إلا على ما تقدم به الرئيس للمصادقة عليه فعلينا إذن أن نأتي بالأصلح للشعب مباشرة بدون صرف أموال الدولة طلبا لكثرة الكلام أو إرضاء الغرب والله يقول: {يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين}.
ونتيجة لتهريج المسؤولين الموريتانيين وراء الراتب الكثير الذي لا يكلف إلا كثرة كلام بعض أعضائه فإن الحزب الحاكم أصبح في حالة حل أو انحلال أو هما معا لأن مكوناته ذهبوا جميعا إلى رؤوس أحزاب الأغلبية لنفخ الحياة فيها ولم يبق مع رئيسه إلا من رشح أو السلطة التنفيذية ناقص واحدة.
وملخص هذا المقال أن بداية هذا النظام كانت تسيره انفراديا منفذا لشيء من العدالة الطبيعية العسكرية التي تفيد البلد، فأبعد أهل الفساد وصرفت الميزانية العائدة على كثير من المنشآت العمومية بدون الفقراء والأمن الداخلي.
أما الآن فعاد بنا النظام إلى حكم شبه "السيبة" من استبداد قادة الخليج ومصر ومسميات الغرب للمؤسسات الديمقراطية حتى أوشكنا الآن من التصرفات الأخيرة للحزب على الانهيار بسبب البحث عن وظيفة النيابة.
والبديل أن حكم الله في الشعب هو أول ما يسأل عنه القائد المؤمن بالإسلام وهو المخلص من هذه الورطة.
فعلى القائد أن يتوجه بمفرده إلى الأصلح لهذا الشعب مصحوبا بنية البحث عنه متجلببا بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأحكم له حسب ما أسمع فمن حكمت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار" وبعد ذلك يقرأ أمامهم قوله تعالى: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب}.