أن تحافظ على نظام دستوري و تنسحب في هدوء من السلطة دون بحث عن بديل أو منفذ، يحتاج نكرانا للذات و قدرة على التضحية لا يمتلكها كثير من الناس.
ثم إن السلطة في مجتمع كمجتمعنا، وهو ليس نشازا في هذه مقارنة مع جواره العربي و الإفريقي، تصبغ على الشخص نوعا من التأليه و التقديس يجعله مع الوقت أميل إلى تصديق كونه ظاهرة كونية لا تتكرر، و تدفعه إلى هوة عميقة من الانعزال عن الواقع لا تجدي معا الصدمات و لا مكبرات الصوت المزلزلة لإيقاظه من سكرة السلطة و حبها، حتى يجد نفسه خارجها رغم أنفه أو حتى الخطة هذه المقدمة ضرورية لفهم الإصرار و التخطيط المحكم الذي طبع تحضير عملية البقاء رغم أنف الدستور و الشعب.
مع بداية المأمورية الثانية بدأ التحضير للثالثة، بل نكاد نجزم أن كل التركيز طيلة الخمس سنين الماضية كان على ذالك الهدف.. و ذالك الهدف وحده.. و قد بدأ العمل عليه تدريجياً و بخطى مدروسة و مؤقننة لعب الحظ و المتغيرات الإقليمية والدولية دورا كبيرا في توفير مستلزماتها.
لقد لعب الرجل على خطة أولى أ أقرب إلى السلمية و أدعى إلى القبول في الداخل و الخارج ثم خطة ثانية ب في حالة فشل الأولى و هي خطة أقل سلمية و قبولا.
الخطة أ:
تقضي هذه الخطة بخلق مناخ توافقي يتم من خلاله تمرير تغيير للدستور يلغي منع تعدد المأموريات كما يلغي تحديد أعمار الترشح...
كانت المقايضة لتبدو مغرية بالنسبة للنظام لجلب توافق حولها من رموز معارضة يبدون كلهم متضررين من مسألة تحديد الأعمار تلك.
تمت الدعوة إلى حوار شامل و محاولة جلب الجميع إليه.. و كانتشخصية الوزير الأول ولد محمد لغظف حينها مساعدة على ذالك... و رغم كل المغريات و الوعود و التنازلات لم يفلح النظام في جلب العنيد أحمد ولد داداه إلى طاولة الحوار و هو الذي لم يكشف بعد من لدغة الإنقلاب و دعمه و يخاف أي "حبل" يمده النظام مهما كان مغريا!
لكن النظام الذي لا يملك وقتا كثيرا.. أطلق الحوار الوطني الشامل بحضور بعض الصقور و خاصة الصديق اللدود للتكتل و الحصان الحرطاني غير المروض و القادر على السير ضد التيار دون وجل.. إنه الرمز مسعود ولد بلخير الذي يعطي تواجده في الحوار بعض المصداقية و هو الذي ظل مناوءا للإنقلاب و معاديا له حتى آخر لحظة.
بدى أن الأمور تسير في الإتجاه الصحيح جزئيا و تمت محاولة الزج بالمادة المطلوبة مع المقايضة المرغِّبة لكن ردة فعل السبعيني الأسمر خالفت التوقعات و رفضت الصفقة بشكل بات و سريع.
حركة أرغمت القوم على مراجعة الخيارات و الإنتقال إلى الخطة ب و بسرعة و مرونة مدهشتين.
الخطة ب:
إن أي شخص عادي يجد نفسه أمام هدف معين يسعى إلى تحقيقه كان ليطرح سؤالين بسيطين :
-ما هي الأشياء التي أمتلكها و تساعدني للحصول على مبتغاي؟
- و ما هي تلك التي قد تقف عائقا دون ذالك؟
طبعا أن المقصود هنا إنما هو ردات الفعل الخارجية لأن الداخل مقدور عليه ما لم يكن مدعوما خارجياً.. ثم إنه ثمة بعض المسكنات التي سيتم العمل عليها داخليا و التي سناتي على ذكر بعضها عرضاً.
كانت تلك نفس الأسئلة التي طرحتها جماعة النظام على نفسها، و حين أقول جماعة فأنا أعني المعنى الحرفي للكلمة لأن العمل يحتاج أكثر من شخص الرئيس ليكون بهذه الدقة و الحرفية.. لكنني في الوقتنفسه أستبعد أن يكون الكثير من الوزراء و الشخصيات المتصدرة أكثر من بيادق و "عرائس" يتم تحريكها من وراء ستار.
كانت إجابة السؤال الأول واضحة منذ البداية و لكنها تحتاج إلى الترسيخ و التأكيد في عالم متوتر... إنها القدرة على التصدي للإرهاب..
كانت تلك الورقة الأكثر تسويقية في يد النظام و هو الخارج لتوه من نصر مبين ضد الجماعات الإرهابية في الصحراء أكسبته سمعة طيبة و سط جيرانه و في العالم على أنه النظام القوى الصارم في محاربة الإرهاب.. لكنها خلقت حوله أعداء نجاح من جيرانه لعل أقلهم ضررا الجار الجنوبي اللدود السنغالي ثم الأخ الشمالي و الأسد المريض الجزائري أما الجارة الطامحة الطامعة المغرب فلها قصة أخرى أكثر تعقيدا.
بدأ العمل على هذه النقطة من خلال مشروع قوة الساحل المشتركة و التي سعى النظام و بقوة أن لا تضم أيا من منافسيه الأقوياء حتى تكون له الكلمة العليا و القول الفصل في كل سياساتها متخذا من حليفه و صديقه التشادي عونا و ظهيرا...
كانت الحالة المالية المبعثرة أمنيا كفيلة بتحييدها، أما الأخوان الآخران فقد كانا أضعف من التصدي للمشهد خارجيا، فيما قوبل الطموح السنغالي و الرفض الجزائري بعناد قوي من النظام الحاضر و بقوة في كل معادلات المشهد المالي السياسية و الإجتماعية و العسكرية.
حسم الصراع لمصلحة النظام و تم تشكيل القوة التي كادت أن تحصل على أكبر دعم أممي لولا تعنت الأمريكيين المتخوفين من سمعة النظامين التشادي و الموريتاني.. لكن القوة خرجت بدعم فرنسي تام جلب لها دعما أوروبيا مطلقاً.. ثم أعان في حصولها على الدعم المالي الخليجي إضافة إلى مواقف أخرى للنظام سنأتيعلى ذكرها في ما يخص الجانب الخليجي.
استطاع النظام في هذه النقطة أن يضع نفسه طرفاً وازنا في كل معادلات الأمن الإقليمية التي تشكل أكبر صداع للحليف الأوروبي و هو ما يمكنه من فرض أجنداته الداخلية دون عناء... لكن الجانب الشكلي يظل مطلوبا عند هذه الحكومات التي تحتاجه لتستطيع تسويقه و تبريره أمام شعوبها.
كان ذالك محور الخطة الثاني و المتمثل في جواب السؤال الثاني.. ماهي الأشياء التي يفتقدها النظام و قد تحول دون وصوله إلى هدفه؟
كان الجواب في جزئيتين مهمتين :
-انحسار الدعم الشعبي خاصة في الداخل مع عدم تجاوب النظام خلال مأموريته الأولى مع زعماء القبائل و الفاعلين المحليين.
-المعضلة الدستورية التي تمنع مأمورية ثالثة.
بالنسبة للنقطة الأولى كان سعي النظام واضحا منذ بداية المأمورية الثانية إلى كسر الجمود مع رموز النظام السابق الذي اتخذهم وقودا لحملته الانتخابية الأولى و الذين عزلهم و قلم أظافرهم و منع عنهم الأعطيات و الهبات و الإمتيازات بل و سجن بعض مقربيهم بتهم الفساد و الرشوة و سرقة المال العام.
بدأت المرحلة بإعادة الثقة لبعض رموز الصف الطائي الأول ثم بتخفيف القبضة في ما يتعلق بمحاربة الفساد بل و إعادة الثقة في بعض ضحاياه و تقريبهم و تعيينهم في مراكز استشارية و وظيفية متقدمة.
نأتي إلى العقبة الكبرى.. و هي العقبة الدستورية...
هنا كان لا بد من اللعب على حبلين بعد فشل الخطة ب... الداخلي و الخارجي.
يحتاج الرئيس في حال رغبته في تغيير الدستور إلى أحد أمرين... استفتاء شعبي عام أو أغلبية برلمانية مريحة..
الإستفتاء الشعبي غير مضمون النتائج خاصة أن المراد منه هو نوع من عزل الرئيس و حينها يفقد قدسيته في عيون العامة و يصبح الوزن السياسي للأحزاب و الشخصيات الفاعلة هو الفيصل و هو ما يجعل حظوظ البقاء معدومة.
الخيار التشريعي مطروح لكنه غير مضمون في ظل تواجد الغرفتين، و هنا أجد نفسي مرغما على الاعتقاد بأن معلومات استخبارية أكدت للرئيس عدم ولاء أعضاء مجلس الشيوخ... و سأبني على هذا الإعتقاد للقول بأن الخيار الأمثل بالنسبة للنظام كان عبر تحييد هذا المجلس لسببين اثنين :
-التخلص من الخلايا النائمة فيه و التابعة لعدوه اللدود المليونير المغاضب و صاحب النظام الموازي الأخطر إطلاقا.
- تسهيل انسيابية القرارات التشريعية الهامة و تسريعها مع وجود غرفة وحيدة و هو ما يحتاجه لتمرير قرارات حساسة كتلك التي تتعلق بالدستور.
حسم الخيار إذا فكان من أهم مفرزات الحوار الشامل إلغاء مجلس الشيوخ مع بعض البهارات الشكلية من تغيير النشيد و العلم و الإصلاحات الحزبية التي كانت ضرورية للتغطية على الهدف الأكبر. و قد كانت مقاومة الشيوخ و رفضهم للتعديل المقترح أكبر دليل على مصداقية تخوف النظام!
الطريق أكثر سهولة الآن فيما يتعلق بتغيير الدستور.. و تذليل المعوقات الداخلية... لكن الآلة الغربية تحتاج لأكثر من مجرد مسطرة قانونية لتسويق هكذا أحداث و هي التي تعاني ضغطاً متصاعدا من مجتمعاتها يتهمها بدعم الديكتاتوريات في العالم الثالث و لن يكون أنسب و لا أكثر تسويقا في أيامنا هذه من البعبع الإرهابي و الخطر الإسلاموي المزعوم.. و هنا كان الجزأ الأكثر اتقانا من الخطة و هو تقوية حضور الإسلاميين سياسياً عبر تقزيم منافسيهم من جهة و تسهيل حضورهم هم من جهة أخرى.
حادثتان اثنتان، إحداهما داخلية و الأخرى خارجية، كانتا أكبر هدية للنظام في هذا المنحى:
-قرار المعارضة الراديكالية بالمقاطعة ثم مشاركة الإسلاميين و هو ما مهد الطريق لتصدرهم و بقوة للمشهد المعارض..
-الحرب الخليجية على الإخوان و على قطر و التي لم يتردد النظام قيد أنملة في تحديد موقعه فيها و هو الأبعد جغرافياً و الأقل تأثيرا.. فكان السباق إلى قطع العلاقات مع قطر و إعلان دعم المحور السعودي الإماراتي عبر بياني ليلي متسرع ، افتقد إلى أبسط القواعد المهنية حتى بدى أنه كتب خارج الوزارة المعتمدة!
كانت الأولى في صالح النظام عبر تعزيز الحضور الإسلاموي المهيمن في المشهد المعارض و الثانية لتعزيز حضوره هو نفسه كطرف مناهض لهذا الحضور دوليا.
اكتملالمشهد كما يراد له.. تمت الدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة حوصرت خلالها المعارضة الراديكالية بين مطرقة المشاركة أو سندان الحل، و ضمن حضور الإسلاميين بابراگماتيتهم المعهودة مع رسائل مطمئنة للجميع بعدم السعي إلى مأمورية ثالثة خلال أكثر من تصريح للرئيس ثم بتعيين شخصية معارضة على رأس لجنة الانتخابات.
كان حضور الإسلاميين مطلوبا و تصدرهم لطيف المعارض هدفاً حتى أنني أعتبر بعض ترشيحات حزب الحاكم الخارجة عن المنطق مصداقا لذالك و دفعا لتمكين االإسلاميين من تلقف ؤلائك المغاضبين و الحصول على أكبر قدر من المكتسبات. أما الذين تلقفهم الموالون فقد كانت خرجات الرئيس الترغيبية و الترهيبية كفيلة بهم.
و جرت الرياح بما تشتهيه سفن النظام.. لنجد أنفسنا أمام نظام مدعوم ماليا من خزائن الخليج التي لا تنضب.. و مدعوم سياسيا من حكومات أوروبية ترى فيه المهيمن على ساحة بركان نائم على تخومها الجنوبية و هي التي لم تشف بعد من حمى السقوط الليبي.
و في المقابل بدأ النظام في استخدام ورقة البعبع الإسلامي عبر شيطنة حزب تواصل التي كان واضحاً من آخر لقاء صحفي للرئيس أنها سائرة نحو التصعيد و لن يفاجئني أن تخلق بعض القلاقل الأمنية يتم تحميل الإسلاميين مسؤوليتها ثم ينصب الرئيس نفسه كرجل المرحلة الذي لا غنى عنه رغم زهده في السلطة و تصريحاته المتكررة بعزمه على الخروج لكن الوضع الأمني الهش خلق معادلة جديدة تحتاج رجلا حازما و قويا مثله!
قضى الأمر الذي فيه تستفتيان!