في البدء لا بد من التذكير من أنه في كل نظام سياسي في الدنيا هناك "مفاتيح للسلطة" (بحسب اليستر سميث، وبروس ميسكيتا)، وهي مجموع الأشخاص والكيانات أصحاب القوة والنفوذ الذين يدافعون عن مصالحهم و وجودهم داخل أي دولة، ويملكون القدر الأكبر من القرار النهائي في تحديد من سيصل للسلطة. تنقسم مفاتيح السلطة هذه إلى ثلاثة أنواع:
- المساهمون: وهم مجموع الناخبين داخل البلد، وهم يملكون بعض التأثير مجتمعين، يعني في حالة كان تصويتهم في اتجاه واحد، ونحن نعرف أن الناخبين الموريتانيين لا يعطون الكثير من الاهتمام لمسألة المأموريات، وبالتالي نستطيع القول أن هذه مسألة ليست خارج حسابات الرئيس عزيز ولكنها لا تملك أهمية العناصر الأخرى.
-النوع الثاني هم المؤثرون : وهؤلاء هم المجموعة القليلة المسؤولة عن تقديم المرشحين من داخل الأحزاب سواء تم التقديم بالاختيار أو بالانتخاب.. ( فكر في مرشحي الأحزاب في الديمقراطيات.. لماذا ترامب مثلا هو المرشح الجمهوري ؟ .. ) وعزيز قد نقول بنوع من التحفظ أنه لا يزال يحظى بتقديم المؤثرين داخل التكتل السياسي المنضوي تحت عنوان الأغلبية.. وتمثل التصريحات والدعوات التي يطلقونها من وقت لآخر لبقائه في السلطة دليلا على هذا الكلام .
- النوع الثالث: اللاعبون الأساسيون: أقلية القلة وأصحاب النفوذ داخل الدولة والمجتمع، الخلبة العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية والثقافية والاعلامية، المشاهير، الزعماء الروحيين وهكذا..
عندما وصل الرئيس عزيز للسلطة أعاد تشكيل خارطة التحالفات العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، (جنرالات، رجال أعمال جدد، سياسيين جدد، مشايخ وزعامات روحية جديدة، تجمعات قبلية .. ). وهذا كله قد يسمح له كـ"حاكم قوي" بالبقاء في السلطة إما بإقناع النوعين الأخيرين من مفاتيح السلطة أن هذا يمثل مصلحتهم، أو هو في مصلحة قناعاتهم أو يشتري مواقفهم.
ويمكننا أن نضيف العامل الخارجي المتمثل في القوى الإقليمية والدولية، فهذه القوى في الغالب تهتم، علي الاقل من الناحية الشكلية، بمبادئ الديمقراطية كآلة ضبط لبرالي و نموذج لتفقوها الثقافي رغم ان الأولوية تبقي للحفاظ علي مصالحها الأمنية و الأقتصادية في الحالة الموريتانية ، ويبدو هذا الوضع أكثر حضورا اليوم أكثر من أي وقت آخر ( الوضع في الساحل والصحراء، الهجرة،.. الاكتشافات الغازية الكبيرة)؛ وهذا قد يشكل في مجمله مبررا مهما لبقاء عزيز في السلطة تحت ذريعة الاستقرار.
هذا في الجانب السياسي وربما هو الأهم..
في الجانب الدستوري هناك عدة سيناريوهات محتملة فيما يخص المأمورية الثالثة و إحتمالات التجديد لاستمرارية السلطة أو التناوب عليها:
1. إذا نجح الحزب الحاكم في الحصول على الأغلبية الساحقة في البرلمان القادم أو تمكن من الحصول عليها من خلال أحزاب الموالاة فإنه بإمكان البرلمان، شريطة أن تكون المبادرة من المجلس التشريعي وحده، إدخال تعديلات دستورية جديدة ترفع القيود الحالية. ومع أنه قد يثار إشكال يتعلق بحصانة المواد المحددة للمأموريات باعتبارها مواد دستورية جامدة يمنع الدستور نفسه تعديلها، إلا أن التأويل يظل مفتوحا، (كحالة المادة 38 في تعديلات 2017)، وهذا ليس بالسيناريو الجيد للممارسة الديمقراطية، لكنه على كل حال يخول الرئيس الحالي خوض إنتخابات رئاسية جديدة و البقاء في السلطة، و إن كان هذا سيخلق نوعا من الاحتقان السياسي يجعل الرئيس بعد فترة وجيزة غير قابل للإستثمار مما سيؤدي إلى نوع من الخلل داخل التركيبة العسكرية للنظام من شأنه أن يرغم فرنسا على التدخل لحسم الخلاف و حث أقوامها داخل النظام لإنقاذه بدلا من أن يدفعوا الثمن جميعا، وهنا يحصل، كماهي العادة، نوع من الإصلاح السياسي الداخلي لإعادة تكرار المنظومة السلطوية الحاكمة منذ 78. وهذا ما هو متاح من التبادل السلمي على السلطة في البلد مع فارق بسيط و هو أنه في هذه المرة سيكون ما يسمي ببازيب (basep)، أي الحرس الرئاسي، ربما في مواجهة مع الجيش للدفاع عن الرئيس، زد على هذا السيناريو إحتمال تحسن الأوضاع الإقتصادية بموجب بداية تصدير الغاز و قدرة النظام على تلبية مطالب النافذين (سياسيين، جنرالات، رجال أعمال، وجهاء، مشايخ، إعلاميين.. الخ) وتوزيع الرشاوى و الإستثمار في التهدئة الإجتماعية من خلال الاستجابة لبعض المطالب ذات الطابع الاجتماعي ( صحة، تعليم، تشغيل..) . ومن الواضح أن هذا السيناريو مضمخ بالصعوبات والمخاطر وقد لا تكون تكلفته قليلة.
2. السيناريو الثاني: ويتمثل هذا السيناريو في تعديل دستوري أيضا يتم بموجبه تعزيز حضور النظام الرئاسي -الذي يعرف تراجعا مع التعديلات الدستورية المتتالية (2006-2012) لصالح النظام البرلماني من خلال تعزيز مؤسسة الحكومة - وذلك بإدخال منصب نائب الرئيس في نظام الحكم وسحب بعض الصلاحيات من مؤسستي السلطة التنفيذية الرئيس والحكومة لصالح المؤسسة الجديدة: نائب الرئيس. إن نظام الحكم الحالي الذي قد يوصف بأنه نظام شبه رئاسي (الطريقة الفرنسية) حاولت التعديلات الأخيرة( 2012) تعزيز مؤسسة الحكومة داخله ( كطرف من السلطة التنفيذية) بغية خلق نوع من التوازن بينها ومؤسسة الرئيس، وقد عرفت موريتانيا النظام الرئاسي طيلة فترة العمل بدستور 1961.
يعزز هذا السيناريو إلغاء مجلس الشيوخ (تعديلات 2017) الذي كان رئيسه يضطلع بمهمة خلافة الرئيس في حالة الشغور أو المانع النهائي، وإن كانت هذه الآلية حولت لرئيس الجمعية الوطنية أو رئيس المجلس الدستوري، فإن حل مجلس الشيوخ قد ينظر إليه على أنه تدرج في هذا المسار: مسار النظام الرئاسي. و قد يخول هذا للرئيس الحالي الرجوع إلى السلطة كنائب رئيس بصلاحيات واسعة محوطة بالقوة والنفوذ. ومع أن هذا السيناريو لا يخلو من المخاطر هو الآخر إلا أنه ربما يكون هو الأقل صعوبة من بين الاحتمالات المذكورة .
3. الإحتمال الثالث هو أيضا محاولة لتغيير شكل نظام الحكم الحالي، ولكن في الطريق المعاكس، أعني الدفع أكثر في اتجاه تبني نظام حكم برلماني صريح تتجمع فيه السلطة التنفيذية في يد مؤسسةالحكومة التي تنبثق عن الحزب ذي الأغلبية البرلمانية. ومع أن هذا الأمر قد طُرح سابقا كمقترح في حوارات سياسية عدة وتم رفضه من ممثلي السلطة، إلا أن الحاجة لمخرج يُبقي الرئيس الحالي في السلطة قد تدفع باتجاهه. وتكمن خطورة هذا النظام في أنه يجعل مصير رئيس الحكومة في يد مجموعة كبيرة من النواب مما قد يشكل خطرا قائما في كل وقت، خصوصا إذ استحضرنا رفض الشيوخ السابقين للتعديلات الدستورية بتلك الطريقة التي كانت مستبعدة كثيرا ولا متوقعة . لذا أعتقد أن هذا السيناريو هو أبعد السيناريوهات وأقلها حظوظا.