على مدار الساعة

موريتانيا الجديدة!

30 يناير, 2017 - 17:13
محمد عبد الله آب / صحفي مستقل، باحث مقيم في شمال فرنسا / جامعة ليل

تساق موريتانيا منذ سنوات بخطى حثيثة نحو مسلسل صومالي بنغازي عراقي سوري يمني تراجيدي لا يبقي ولا يذر. جزائر العشرية السوداء على الأبواب صدقوني. والمحزن المبكي في تفاصيل لعبة الأفغنة هذه أنها تكرس في أذهان أعداء الإسلام الصورة التي يروجونها عنا. يتفرج علينا العالم بذهول (وتشفي أحيانا) ونحن نكشف عوراتنا واحدة تلو الأخرى: يكفر بعضنا بعضا يعدم بعضنا بعضا يقذف بعضنا بعضا لأتفه الأسباب... ناهيك عن صورة العبودية والإرث الإنساني المكرسة أصلا في أذهان العالم عن موريتانيا. هل أصبحنا حقا مجتمعات متوحشة متعصبة جاهلية كافرة بالحداثة والعقلانية والتسامح... كافرة بقيم الخير والتوبة والغفران؟؟!

 

وكأن مسلمي اليوم إنما هم مسلمون خوفا من سيف سلطان طائش أو فتوى فقيه داعشي متعطش للسلطة والدماء... أو درعا لوشاية عائلية خسيسة دبرت بليل. لقد دنّسوا كل شيء جميل في المغامرة الروحية الكبرى. أين أنت يا جلال الدين الرومي ! أين أنت يا محي الدين بن عربي! كل معاني المحبة والجمال والتسامي الروحي تتلاشى تذبل وتختفي في فضائنا الإسلامي الكبير. كل شيء أصبح للمتاجرة والتصوير والنشر على قنوات من يدفع أكثر و"الجمهور عايز كده". مات التأويل الإسلامي العريق، مات بيت الحكمة وعلم الكلام وترجمات الإغريق، مات القياس والاجتهاد والمنطق، ولكن مات أيضا التصوف الصادق الخفي الخالي من أدران "حب الرئاسة" واشتهاء السلطان. ربما انتصرت اليوم أصولية وحرفية لمجيدري على عقلانية وصوفية ولد بونا في أرض الملثمين. سننام إذن قرونا جديدة والإنسانية تتقدم في كل شيء؟!

 

الخطاب العصبي الجاهلي القروسطي الجامد يتربع على عرش المعنى في شنقيط المنارة والرباط. لغة التكفير والتلفيق والتشهير والإرهاب الفكري المجاني تجتاح ما بقي من التدين الصحراوي التقليدي العفوي المتسامح والرّواقي، البعيد عن إديولوجيات نجد وما جاورها. أدبيات الفكر الوهابي - الخميني تحتل اليوم أركان الفضاء العام في تحالف شيطاني جهنمي بين لوبيات المال السياسي الفاسد وشلة من بائعي الدجل لا علاقة لهم بالفقه المستنير من قريب أو بعيد. بيادقهم زمرة من الشباب المغرر بهم الفارين من جبهات سوريا والعراق.

 

لا حديث عن الإصلاح، التعليم، الصحة والعدالة الاجتماعية في المنكب البرزخي. لا حديث عن دولة القانون المؤجلة منذ عقود. القضاء صار قضاء الشارع والغوغاء. لا هيبة لفقيه أو حكيم أو رشيد أو مفكر أو محام أو قاض لا يساير أهواء الدهماء وميولاتها المتقلبة. المعادلة الجديدة: من يصرخ أكثر فهو صاحب الحجة الدامغة والفهم المستنير للتراث الإسلامي. رحم الله العلامة محمد سالم ولد عدود... ما أحوجنا إلى علمه وبصيرته في وقت كهذا ! ابن رشد وابن سيناء والخيام غرباء من جديد في أوطانهم... وربما لعقود قادمة. لا فقه واقع ولاهم يحزنون! حتى الشنقيطي وعدنان إبراهيم وطارق رمضان ليسوا على شيء بالنسبة لدويعشي دخنستان الجدد وهم من كانوا بالأمس القريب مرجعا مقدسا. لا يسمعون اليوم إلا ما وافق أهواءهم المريضة كراهية وحقدا، جاهلين بسماحة الإسلام وسعة مداركه العٍرفانية والروحية والعقلانية. ينفثون سمومهم بين ظهرانينا ليل نهار، مفرقين بين المرء وزوجه، ناشرين الفتنة بين أبناء الشعب والبيت الواحد، مواصلين اللعب بالنار... نار الموت والجهل والظلام والخراب. 

 

كم هي مسكينة وبائسة موريتانيا مطلع القرن الحادي والعشرين. الفساد والزبونية والميزاجية والنفاق الحزبي العشائري المتاجر بالمقدسات الدينية ينخر كل منها ما تبقى من هيكل الدولة السقيم. التشرذم العرقي والفئوي والقبلي والجهوي يصبح شيئا فشيئا خطابا سائدا مقبولا ورائجا في سوق النخاسة السياسية مع غياب مشاريع وطنية حقيقية جامعة. ولتغطية هذا الفشل الذريع للنخبة الحاكمة تُهيج الحشود بشعارات رنانة جميلة كنصرة المصطفى صلى الله عليه وسلم. ورب كلمة حق أريد بها باطل! وهل يحتاج الإسلام ورسوله (عليه أفضل الصلاة والسلام) إلى نصرة من هذا القبيل؟!! نصرة الإسلام بالعودة إلى جوهر رسالته القائمة تاريخيا وفلسفيا على المحبة والسلم والصبر والحكمة والعدل ورفض الظلم والفساد والنفاق الاجتماعي... وتمثل هذه القيم السامية في معاملاتنا وسلوكياتنا اليومية... بعيدا عن عنتريات خوارج الألفية الثالثة: القاعدة وداعشوبوكو حرام التي لا طائل من ورائها مهما طال الزمن. وما خفي - في اللعبة - أعظم.

 

يتواصل بحول الله..