لطالما مثلت إشكالية التعليم، بأبعادها المختلفة، تحديا دائما، للمجتمعات البشرية، من كل الثقافات والديانات والألسن والألوان، واستغرق البحث عن حلول لها حيزا معتبرا من انشغالات الإنسان، في أطوار مسيرته الطويلة، حيث مثلت له ظواهر الخلق في السماوات والأرض، وكوارث الطبيعة الجبارة، ثم الرسالات السماوية المتلاحقة، ثم الفتوح العسكرية، والتحولات الاجتماعية والاقتصادية، مثلت له أبرز أدوات التأثير في الحالة المعرفية للأمم والأقوام، قبل أن تنشأ في تلك المجتمعات، على التراخي، مرجعيات الديانات المختلفة، وطبقات الفلاسفة والعلماء والمفكرين والشعراء والمؤلفين والمعلمين والمتعلمين.
وإذا كانت المبادرات الفردية والجماعية، هي التي صنعت ثقافات وعلوم المجتمعات القديمة، بعيدا عن هيمنة الدولة، إلا في بعض الحالات النادرة، فإن الدولة في المجتمعات الحديثة، تأخذ على عاتقها مهمة تنشئة الأجيال وتعليمها، وذلك في مدارس وطنية متماثلة، وبمناهج علمية موحدة؛ ثم تجعل التعليم الابتدائي إجباريا ابتداء من سن معينة، ثم تكون الامتحانات الوطنية غربالا لفرز أجاود التلاميذ من كل مرحلة، وتهيئتها لولوج المرحلة اللاحقة، لتصل النخب الطلابية في النهاية إلى المعاهد والجامعات، وهي في مقتبل العمر، ثم تتخرج منها وهي في زهرة الشباب وقمة العطاء وذروة الكفاءة.
لكن المهمة التربوية التعليمية للدولة الحديثة، لا تنتهي بتأهيل الأجاود من كل جيل، ممن لبوا اشتراطات الانتقاء الوطني المرسومة، بل إن الدولة الحديثة الناجحة في مهمتها التربوية، هي التي تعمل في خط مواز على إيجاد بدائل مناسبة للمتخلفين من مختلف الامتحانات التأهيلية، تمكنهم من إكمال تعليمهم وتكوينهم، علميا أو مهنيا، وإتاحة الفرص لهم كمواطنين كاملي الأهلية للتعاطي مع الحياة الوطنية، طبقا لخصوصياتهم؛ ويشمل ذلك بطبيعة الحال اصحاب الإعاقات المختلفة من ذوي الاحتياجات الخاصة، وحتى كبار السن ممن يودون متابعة التعليم؛
في مجتمعنا هذا، ما قبل الدولة، ازدهرت المحظرة الموريتانية كصرح علمي معتبر، خلال الطفرة الثقافية التي أحدثها تحول غالب السكان الأصليين عن لهجاتهم الأعجمية، إلى العربية الوافدة مع بني حسان، حيث أتقن الناس اللهجة العربية الحسانية التي قادتهم إلى الفصحى، لتنهض بها المحظرة الموريتانية الفريدة بين ساكنة المنطقة؛ لكن هذا المعلم العلمي الأهلي، كان في واقع الحال عائليا أسريا، ومن ثم كان، بشكل ما، فئويا إقصائيا، إذ أن فئات شتى من المجتمع، لم تتح لها فرصة التعلم فيها؛ ثم كان التحصيل العلمي فيها يتم على نفقة الطالب وأهله، مما اقصى الفقراء أيضا.
أما في مجتمعنا، ما بعد الدولة، فإن المدرسة الوطنية، عانت منذ البداية، وما زالت تعاني، من الفقر والعوز والعجز، على مستوى البنية التحتية والكادر التربوي، عن استيعاب نصف الأطفال في سن الدراسة، فلا مجال إذن لإجبارية التعليم؛ أما على مستوى المنهج فقد فشلت المزاوجة بين المنهج المحظري الأهلي، والمنهج المستنسخ عن المستعمر، في إنتاج منهج تعليمي موريتاني منسجم ومتناغم، يبني أجيالا متصالحة مع ماضيها وحاضرها، متجانسة في لغتها وفكرها ومرجعيتها وأهدافها التربوية؛ فشل سار معه كل من المنهجين في طريقه، تطبعه الارتجالية والمبادرة الشخصية، والتعديلات الغبية؛ ثم يأتي تشريع التعليم الحر، المنفلت بلا حدود أو قيود، ليمثل الطامة الكبرى التي كبرت على التعليم الموريتاني أربعا.
في وضع كهذا، يكون من الصعب جدا التسليم بأن حرمان الشباب ممن حاز البكالوريا بعد أن بلغ من العمر 25 عاما، حرمانه من التسجيل في الجامعات الوطنية، دون بدائل مقنعة، تمكنه من تحقيق حلمه في الشهادة والتخصص والوظيفة، يمكن أن يمثل مصلحة وطنية، كما عبر وزير التعليم العالي؛ ولك أن تقول القول نفسه في هذا الشاب وتلك الشابة، وقد لفظهما التعليم العام المنهار على عروشه، بسبب من آلاف الأسباب لديه، ففزعا إلى التعليم التجاري، لكن جيوب أهلهما الأقربين لم تسعفهما؛ فانقلبا يترددان على بعض مجاميع المراجعة الحرة، مع التصميم، عاما بعد عام، على خوض امتحان البكالوريا؛ حتى إذا أحسا التمكن من البرنامج، وارتفع أملهما في قهر الشهادة العقبة، قيل لهما لقد تجاوزتهما السن القانونية لولوج الامتحان!