أظهر الجدل الحاد الذي نشب أخيرا حول المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث ما هو أكبر وأعظم من مجرد حظ ذكر أو أنثى من تركة هالك هلك وترك ما ومن ترك، ألا وهو الموقف من دين الإسلام عقيدة وأصوله فكرا وفروعه تشريعا، بل إن هذه القضية أعم من كل ذلك وما هي إلا قمة جبل جليد الموقف من السؤال عن الهوية الثقافية والفكرية والدينية للدولة والمجتمع، وهو سؤال يبدو أن السياسيين والمثقفين انشغلوا عنه بالصراع حول الإجابة على السؤال عن الهوية السياسية الملحة والجاذبة للأنظار، كما انشغلت عنه عامة الناس بالإجابة على سؤال الحاجة الاقتصادية التي تطل برأسها في أغلب بلداننا مع كل كارثة طبيعية أو بشرية.
وبما أن سؤال الهوية هو المبدأ والمنتهى فلا بد من حسمه وإلا فسنظل في صراع أبدي ظاهره الحكم والقانون والاقتصاد وباطنه الهوية والمبادئ والمنطلقات. وما نجح ما نجح من الدول إلا بحسم أسئلة الهوية الكبرى قبل حسم الأسئلة السياسية التي أراها فرعية مقارنة بالأسئلة الفكرية، ولم يفشل ما انهار من الدول الفاشلة إلا بعجزه عن نوع من التوافق حول الهوية والمبادئ الأساسية. ومع أننا ما زلنا مثل أغلب دول العالم الإسلامي لم ندخل في نقاش فكري معمق حول الهوية الحضارية، فإننا نتوقع أن يفتح هذا الباب قريبا بشكل أقوى وأوسع ندعو الله ألا يخرج عن السيطرة، ولا أدل على ذلك من كون بعض البلدان سرعان ما وقعت في فخ جدليات الهوية الثقافية والفكرية في أول أو ثاني سنة من ابتدائي هويتها السياسية والاقتصادية.
أول هذه الأسئلة هو سؤال الانتماء الجغرافي، ومع أنه قد يبدو من السذاجة بمكان أن نسأل طفلا عن موقع موريتانيا مثلا وفي أي قارة من القارات وضمن أي طرف من أطراف الكرة الأرضية، فإن الإجابة البديهية التي تلقن للأطفال ليست هي الإجابة اللاشعورية التي تدور في أذهان كثير من الكبار؟ فكم من دولة تقع جغرافيا ضمن أوسط أو أقصى الشرق ولكنه في التصنيف الثقافي تقع في أقصى الغرب، وفي المقابل نجد دولا كثيرة في أقصى الغرب لا تزال تناضل سياسيا وفكريا لتكون أقرب للشرق، كما أن هناك دولا وزعماء وأشخاصا عاديين لا يزالون تترنحون بين الشرق والغرب وبين إفريقيا آسيا على وجه التحديد. فلو سألت كثيرا منا هل أنت إفريقي ففي الغالب لن تكون إجابته تلقائية بحكم أن جزءا كبيرا من لا شعوره الفكري أو السياسي مرتبط ارتباطا وثيقا بما دار ويدور في قارات وربما عوالم أخر.
وثاني هذه الأسئلة هو سؤال الانتماء العرقي، ومع أنني أتمنى على المجتمع أن يتجاوز هذا السؤال أو على الأقل أن يتجاوز ما يمكن أن يترتب عليه من آثار سلبية، فإنه من الصعوبة بمكان الإجابة عنه بوضوح في مجتمعنا الذي ورث من التراكمات ما يصعب تجاوزه؛ فهل نحن "زنوج" أم نحن عرب عاربة أم نحن برابرة مستعربون، مع تحفظي على الدلالة السلبية لكلمتي زنج وبربر عند البعض. وهذا السؤال تستحيل إجابته إذا اعتمدنا على البيولوجيا وحدها لاختلاط الأعراق والأمم بفضل الله، وتصعب إجابته إذا اعتمدنا الأنتروبولوجيا والتاريخ كمعيار وحيد، ولا تبدو إجابته في المستقبل واضحة لي على الأقل في المستقبل البعيد.
وأما ثالث هذه الأسئلة فهو سؤال اللغة الذي طل يطفو على السطح بين حين وآخر منذ الاستقلال، فهل نحن ناطقون بالفرنسية بحكم أن الفرنسية لغة المستعمر الذي وضع أسس الدولة الموريتانية وبحكم أنها وسيط لغوي محايد بين مختلف القوميات التي تشكل المجتمع، وبحكم كونها لغة يقال إنها عالمية تسهل التواصل مع العالم الخارجي، أم نحن بحكم الواقع ناطقون بالحسانية التي هي لهجة عربية محرفة مع مجموعة من اللغات الإفريقية الأصيلة في إفريقيا وهي البولارية والسنوكية والولفية، وتبقى الأمازيغية لا بواكي لها لما تبرأ منها الجميع إلا بعض المثقفين من هنا أو هناك على استحياء.
ورابع هذه الأسئلة وأهمها هو سؤال الهوية الدينية؛ فحسب الإحصائيات والتاريخ نحن مسلمون سنة أشعرية مالكية مائة في المائة، ومع أننا لم نفتح بعد ملف الانتماء للإسلام بشكل عام فقد تم فتحه على وجه الخصوص وفي بعض التفاصيل، مثل الجدل القديم المتجدد حول الانتماء المذهبي للسلفية أو الأشعرية في العقيدة، وللمذهبي المالكي أو لغيره في الفروع الفقهية، وغير ذلك من الجدليات الفكرية والفقهية التي عشنا بعض فصولها ولا نزال. ومع تماسك حصن الانتماء للإسلام حتى الآن فإنه قد نقبت في أساسه ثلم تنذر بالتحضير لما هو أسوأ؛ وما حالات تهم الردة التي عرف القضاء بعضها وأعرض عن بعض عنكم ببعيد. والذي أخشاه أن يأتي يوم يفتح فيه باب عدم الانتماء للإسلام كما تم فتح هذا الباب على مصراعيه في بلدان أخرى لا تبعد عنا كثيرا جغرافيا وتاريخيا وفكريا ولم يشفع له ذلك للنجاة من طرح هذا السؤال الكبير.
ليس من السهل إجابة هذه الأسئلة إجابة جماعية ترضي الجميع، لأنها تحتاج إلى توافق ثقافي واجتماعي، وليس أما منا في التعامل معها على المدى القريب سوى أحد ثلاثة خيارات:
الخيار الأول: وهو الحكم الأيديولويجي، بمعنى أن نقول إن اللغة العربية لغة الدين والقرآن، وإن كل أحد في مجتمعنا عربي الروح، وكل شيء في بلدنا عربي الهوى، وعليه فإن أسئلة الهوية مبادئ محسومة سلفا وغير قابلة للنقاش، وهذه هي أقصر طريق للتعصب وأفضل وسيلة للفوضى المؤجلة، والتعصب يؤدي لتعصب آخر مضاد.
الخيار الثاني: هو القضاء السياسي، بمعنى أن تفرض السلطة وجهة نظرها في هذه الأسئلة، أو إذا نحن عدنا إلى الديمقراطية يمكن أن نلجأ للاستفتاء العام لنسأل الناس ما هي اللغة التي تفضلونها لغة رسمية؟ وما هي العقيدة التي ترونها دينا للمجتمع؟ وهذا ببساطة سيكون قضاء سياسيا على حقوق الأقليات بحكم أن الأغلب سيصوت للأغلبية وضد الأقلية بالبداهة.
الحل الثالث: هو تأجيل الإجابة على هذه الأسئلة وهذا هو الواقع في كثير من البلدان، ويبدو أنه يؤتي نتائج جيدة في حال وجود سلطات مركزية قوية متحكمة ومسيطرة على الأوضاع كلها، ولكننا لا نكاد ننظر إلى أي بلد ضعفت فيه هذه السلطات حتى بدأت الصراع على الهويات القومية والثقافة يظهر من جديد، وإذا نحن لم نفتح هذه الأسئلة الآن فسياتي اليوم الذي تنفجر فيه تحت الضغط وبعد فوات الأوان بطريقة لا يمكن التحكم فيها ولا التنبؤ بما سينجم عنها من خسائر.
أما إذا نظرنا إلى المدى البعيد فإنه يمكن للحكماء الراسخين في العلم والعقلاء المختصين في بلداننا فتح باب الحوار الهادئ للوصول إلى كلمة سواء تحسم القضايا المبدئية بدل الانشغال بالتفاصيل، للتوصل إلى حلول ثقافية وفكرية واجتماعية قبل الصراع الأيديولوجي والسياسي المنفعل. وحتى يتم ذلك لا أرى أنه من العدل ولا من الديمقراطية أن نسمح لأقلية ضئيلة أن تعكر صفو سكينة المجتمع بحكم رفضهم لبعض الأحكام الشرعية، أو ترفض الإسلام من أصله ومن أساسه، وإذا نحن رضينا أن نلجأ للديمقراطية وحرية الاختيار فلا أقل من أن نجعل الميراث الشرعي هو الأصل وهو الأساس في كل المجتمعات المسلمة، التي هي الأغلب، وعلى من لا يرضى الإسلام دينا أو يرفض الشريعة الإسلامية قانونا،وهو الأقل،أن يثبت ذلك بالدليل، وأن يطبق عليه شرع آخر وقانون مختلف عن أنظمتنا وقوانيننا السائدة.
وحتى لا يظن بعض الفصحاء أن في العنوان خطأ فإن "ما" ليست خاصة بما لا يعقل بل يسأل بها أيضا عن عموم ما يعقل.