على مدار الساعة

عن بعض الخدمات المُسْداة إلى المغرب

15 نوفمبر, 2018 - 11:38
موسى حرمة الله: أستاذ جامعي حائز على جائزة شنقيط

تواصل صحيفة "القلم" نشر صفحات مختارة من الكتاب الجديد لموسى حرمة الله بعنوان: "نزاع الصحراء: في الدائرة الأولى لإدريس البصري، وزير الداخلية المغربي الأسبق". ومن المنتظر أن يصدر هذا الكتاب قريبا.

 

في هذا العدد يكشف المؤلف خبايا هامة، من بينها:

كيف نشأت فكرة الحكم الذاتي الداخلي التي يقترحها المغرب لتسوية نزاع الصحراء؛

لعيون، والبوينغ الملكي، وسام 7؛

الجنرال، والانقلاب الفاشل ضد ولد هيداله ...

تنبيه صادر عن المؤلف:

هذه رسالة موجهة بالبريد السريع DHL إلى السيد محمد ياسين منصور المدير العام للمديرية العامة للدراسات والتوثيق، لكي يُطلع عليها جلالة الملك. وتتضمن الرسالة بعض الخدمات الهامة التي أسْداها المؤلف إلى المغرب.

عزيزي ياسين،

منذ غادرت المغرب سنة 2007 أصبحت أقيم في نواكشوط وتفرغت للكتابة. وصرت أراقب الأحداث السياسية في شبه المنطقة عن بعد إلى حد ما.

 

بيْد أني مع الأسف لاحظت مع مرور الوقت أن السيناريو الذي كنت أخشاه أخذ يتشكل رويدا رويدا. فالجزائر تواصل التسلح بإنفاق مليارات الدولارات وبتهيئة الأرضية السياسية والدبلوماسية لتحقيق الهدف النهائي ألا وهو: بسط نفوذها على المغرب قصْد إعادة توزيع الأوراق على الصعيد الجيو- سياسي.

 

ولتحقيق هذا الهدف، تعتمد الجزائر استراتيجية بسيطة تتمثل في إضعاف المملكة المغربية بشكل مستديم باعتبارها غريمها المحتمل – حتى ولو أدّى ذلك إلى نشوب حرب في الصحراء – وجعل جيرانها الآخرين في وضع هش وبالأخص موريتانيا ومالي.

 

وقد تستغل ورقة البوليساريو في تجميع بيضان المنطقة تحت لوائها بدْءا من بيضان تيندوف، والمغرب، وموريتانيا، وربما بيضان مالي (أزواد). (راجع الدراسة المرفقة).

 

وبإعادة قراءة كتاباتي يُلاحظ أني لا أفتأُ أدق ناقوس الخطر. بل أكثر من ذلك رسمتُ معالم الطريق التي أرى أن من المناسب سلوكها.

 

غير أن من اللازم الإقرار بأني كنت أسبح ضد التيار. ذلك أن بعض المسؤولين في الرباط قد رسّخوا – بوعي أو بدون وعي – استراتيجية الجمود معتقدين على ما يبدو أن ترسيخ الوضع القائم في الصحراء سيؤول في النهاية، بقدرة قادر، إلى إيجاد حل مرضي ودائم.

 

لكني لم أقتنع يوما بهذه المقاربة. وقد جلب عليّ هذا الوعيُ المستقبلي وهذه الصراحة عندما يتعلق الأمر بالأمور الجوهرية، كثيرا من العداء لدى بعض المسؤولين المغاربة.

 

كنت غالبا أعبّر – بالدليل والبرهان – عن آراء مناقضة تماما للموقف السائد. وهذا ما كان يثير غضب إدريس البصري نفسه. ومع ذلك لم أتلق منه في نوبات غضبه أيَّ "كلمات نابية" على نحو ما كان يتلقاه معاونوه في مثل تلك الحالات.

 

يعني هذا أني لم أرضخ قط للعادة الشائعة التي تقضي بكتم الرأي المخالف أو على الأقل تلطيفه وتقديمه في صيغة "لائقة" ومهذبة. لكن هذه الصراحة أدت أحيانا إلى الاعتراف بأن ما يقوله حرمة الله كان صحيحا.

 

شارع إيفران وملف الصحراء

 

دون تبجّح أو غرور شخصي، لا أستبعد أن يكون إتقاني لملف الصحراء بالإضافة إلى هذه النزاهة الفكرية التي كنت أتحلى بها هو ما حدا بالوزير إلى أن يقدم إلي اقتراحا أغاظ زميلا لي في وزارة الداخلية.

 

ذات يوم وبينما كنت معه في سيارته على جادة الإمام مالك، خاطبني إدريس البصري بهذه الألفاظ: "حرمة الله، ما رأيك في العمل داخل فيلا؟" أجبت بالقول: "السيد الوزير، سأذهب إلى حيث تطلب مني أن أذهب". فأضاف الوزير: "ستنتقل إلى شارع إيفران (ملحق الوزارة) وستتولى خلية الصحراء. لكني أريد ملخصا يوميا أعرضه على جلالة الملك".

 

وبالإمكان مقابلة هذه المعلومة بشهادات الأشخاص المذكورين أعلاه.

عندئذ اتصلت، بناء على تعليمات الوزير، بالسيد بولويز مدير الميزانية واللوازم لتجهيز الفيلا واتصلت بالسيد بنكيران مدير هيئة وكلاء السلطة لتحديد العاملين في الخلية.

 

بموازاة ذلك، شرعتُ في وضع هيكلة إدارية للخلية وباشرتُ التفكير في خطةٍ لعملها.

 

بعد ذلك بأكثر من شهر، وبينما كنت بصدد الانتقال إلى الفيلا، طلب مني مدير الشؤون السياسية وهو في مكتبه أن أسلمه مفاتيح الخلية. فأجبته أن الوزير هو من أعطاني إياها وأني لن أسلمها إلا له. فما كان منه إلا أن استدعى أحد معاونيه وهو المساعد "يزال" وقال له بالحرف الواحد: "اذهب إلى شارع إيفران وحطّم القفل وضع قفلا مكانه !"

 

عندها فهمت أنه أمضى أكثر من شهر لإقناع البصري، فهو لا يمكن أن يقبل بحرمانه من التحكم في ملف بمثل هذه الأهمية ...

وهناك مشهد لم يغادر مخيّلتي وبقي محفورا في ذاكرتي: كان ذلك بمناسبة مراسيم البيعة في مدينة مراكش. كان المقربون من وزير الداخلية يحيّون جلالة الملك الحسن الثاني الواحد تلو الآخر.

 

وعندما تقدمت أمام العاهل خاطبني قائلا: "سي موسى، بخير !". ارتبكت وغمغمتُ بكلام

لم أعد أتذكره. تساءلتُ عن السر في مخاطبة الملك لي بلطف وندائي باسمي الشخصي. ثم التحقت بزملائي الذين سبق أن مرّوا لتحية الملك.

تنحيتُ جانبا بمدير الشؤون السياسية وأعدت عليه العبارة التي قالها لي الملك. فارتسمت على وجهه ملامح بقيت عالقة بذاكرتي.

وبعد هنيهة من الارتباك، تمتم قائلا: "الملك يعرف الجميع". فهمتُ فيما بعد أنه كان علي أن ألتزم الصمت. لقد علمت لاحقا أن الملك يعرف شخصيا معدّي بعض المذكرات الحسّاسة.

 

كان مدير الشؤون السياسية، وهو ابن عم للملك، يحتل في الواقع مركز الرجل الثاني في الوزارة. وكان مثل إدريس البصرة مفوض شرطة، ويُقال إن الملك وضعه في الداخلية ليراقب عن كثب الوزير ذا النفوذ القوي. فلا غرو إذا كانت له، في التحليل النهائي، الكلمة الأخيرة.

لقد كان إدريس البصري العارف بدقة لكفاءات معاونيه مدركا أنه بإسناده لملف الصحراء إليَّ يدشّن مقاربة جديدة للملف، مقاربة تتّسم بالحداثة وتشكل قطيعة مع الجمود السائد.

 

علاوة على أني كنت مهندس المقترح المغربي القاضي بمنح الحكم الذاتي الداخلي، وهو المقترح الذي وفّر للمغرب، على الصعيديْن السياسي والدبلوماسي، متنفّسا وفتح آفاقا جديدة لتسوية نزاع الصحراء.

جلالة الملك الحسن الثاني: هل يعتبر نموذج الحكم الذاتي الداخلي في كاتالونيا قابلا للتطبيق في الصحراء؟

سي ياسين، اسمحوا لي، رغم مشاغلكم الجمّة، أن آخذ مزيدا من وقتكم لإطلاعكم على بعض الوقائع التي كنت دائما أتكتّم عليها.

لقد ذكر لي إدريس البصري ذات يوم أن جلالة الملك الحسن الثاني معجب بنموذج الحكم الذاتي في كاتالونيا وأنه يودّ أن يعرف هل هذا النموذج قابل للتطبيق في الصحراء. وبالتالي، طلب مني الوزير أن أنعش فريق عمل لهذا الغرض.

 

فاقترحت اسميْ صديقين هما: ماء العينين محمد الملقب دبا سالم الذي كان سفيرا في بلدان منها الأرجنتين وأستراليا، ومحمد صالح تامك الذي كان سفيرا في النرويج ثم واليا في وزارة الداخلية. وألحق بنا علابوش المديرُ العام لإدارة المراقبة الترابية أحدَ معاونيه وهو المفوض الإقليمي أرسلان.

عقدت هذه المجموعة المصغّرة اجتماعات على مدى عدة أيام في شتى فيلاهات إدارة المراقبة الترابية. لكن عملها ظل متعثرا وكأنها تدور في سلسلة مفرغة.

عندئذ اقترحت أن نتوقف ثلاثة أو أربعة أيام ليتمكن كل منا من أن يعدّ مخططا يكون أساسا للنقاش. وتم الاتفاق على الاقتراح.

وفي الاجتماع الموالي اتجهت الأنظار إلي في المقام الأول. فطفقتُ أقرأ الخمس عشرة صفحة التي أعددتها كتابيا.

وما إن أكملت قراءتي حتى قال لي زملائي الثلاثة بصوت واحد: "رائع ! ليس لدينا ما نضيفه. هذا عمل ممتاز". ثم هاتف أرسلان شخصا ربما من إدارته وقال له: "هيّئ لنا الماكنتوش". وأعتقد أني كنت أسمع هذه الكلمة للمرة الأولى.

 

بعد ذلك بعدة سنوات، زارني قريب لي يعمل حاليا في وزارة الشؤون الخارجية بالرباط، وكان حينها يمر بنواكشوط، وقال لي إنه التقى في مطار الدار البيضاء واليا صحراويا اسمه تامك وسأله عن أخباري ثم قال له: "هذا السيد كان هو مهندس الحكم الذاتي الداخلي الذي اقترحه المغرب لتسوية مشكل الصحراء".

 

على أن هذه الشهادة التي أدلى بها تامك، كان إدريس البصري نفسه قد أعلنها في الملأ أمام مجموعة من الصحراويين وخاصة بحضور الشيخ بيادي الله الرئيس الحالي لغرفة المستشارين (مجلس الشيوخ) حيث قال: "حرمة الله هو أفضل أخصائيي شبه المنطقة".

عقب مغادرتي المغرب، فوجئتُ بأحدهم يهاتفني من الرباط ليقول لي إن جريدة "الأسبوع" التي يصدرها مولاي مصطفى العلوي – وهي أكثر جرائد المغرب اطلاعا وأوسعها انتشارا – قد خصصت صفحتها الأولى لهذا العنوان بالبنط الأحمر الغليظ:

"موسى حرمة الله: الفيلسوف الصحراوي، عراب القضية الوطنية، يغادر المغرب نهائيا ويكشف عن الخبايا الحقيقية للحكم الذاتي".

(يوجد ملحقا عدد الأسبوع الصادر يوم 5 ديسمبر 2008)

لعيون، والبوينغ الملكي، وسام 7

في شهر نوفمبر 1985 كانت حمى الأيام الكبرى على أشدها. وكانت التحضيرات على قدم وساق. الجميع في حالة استنفار. فالحدث كان تاريخيا بامتياز. ذلك أن جلالة الملك الحسن الثاني يؤدّي زيارة إلى مدينة لعيون.

 

كنت أشاهد التلفزيون حيث يعرض عمالا منهمكين في طلاء مدرّجات مطار لعيون استعدادا لهبوط الطائرات.

ولدى مشاهدتي لصور المدرجات انقدحت في ذهني فكرة. فاتصلت فورا بالمكتب 16[1] وطلبت من المأمور أن يصلني بالسيد الوزير. فجاءني الصوت على الطرف الآخر: "نعم، حرمة الله. ما ذا جرى؟". – "السيد الوزير، الأمر مستعجل ! علي أن ألتقي بكم فورا". فطلب أن ألتحق به في منزله.

 

لأول وهلة، دخلت في صلب الموضوع. –"السيد الوزير، أنتم تدركون جيدا أن جدران التأمين لم تكتمل كلها وأن بعض عناصر البوليساريو ربما لا يزالون في النواحي فضلا عن أن الجميع على علم بالزيارة الملكية. ولا شك أن البوليساريو قد وجد الوقت الكافي لتحضير عمل يكون له صدى واسع. لذا لا يمكن للملك أن يذهب إلى العيون جوا، فحياته ستكون في خطر".

 

ولعل الوزير ظن أني أتحدث عن هجوم بري فأجابني بنبرة الواثق: "القوات الملكية المغربية تمسك بزمام الأمور والميدان مسيطر عليه، فليس هناك أي خطر".

لكن عندما أوضحت له أن الأمر لا يتعلق بهجوم بري ولكن بهجوم جوي ربما بصاروخ سام 7 الذي قد يحول الهدف أي البوينغ الملكي إلى كتلة نارية، امتقع وجهه وبدت ملامحه كمن شاخ لعدة سنوات.

واصلت شرحي: "صاروخ سام 7 جهاز محمول بحجم البندقية، وهو مصمم ليحمله المشاة على ظهورهم. ولصغر حجم هذا الصاروخ يمكن أن يُخبّأ في رصيف أو صندوق أية سيارة".

 

إن سام 7 هو أصغر مكونات فصيلة صواريخ سام. ويعادل سترينغر الخطير وهو الصاروخ الأمريكي الصغير المقابل له. ويمكن لسام 7 أن يصل إلى أي طائرة على ارتفاع 300 (ثلاثمائة) متر. ولا يحتاج المهاجم أن يكون على مقربة من المطار، بل قد يقف على بعد عشرات الكيلومترات من المطار. وهكذا يترصّد الطائرة عندما تبدأ في الهبوط تأهّبا للنزول.

كما أن الطائرة عند إقلاعها تكون أيضا في مرمى سام 7 لمدة 3 دقائق.

وبهذا لا يكون على المهاجم إلا أن يكمن على بعد بضع كيلومترات من خط هبوط أو إقلاع الطائرة المستهدفة. وما إن يرتكب جريمته حتى يتوارى عن الأنظار.

ويتم توجيه صاروخ سام 7 بواسطة الأشعة تحت الحمراء المنبعثة من ماسورة الطائرة، ويمكن حمله على الكتف لأنه صاروخ خفيف لا يتجاوز وزنه خمسة عشر كيلوغراما. فهو إذن سهل حمله ولا يمكن اكتشافه إلا بعد إطلاقه. والبوليساريو الذي يتوفر على ترسانة من صواريخ سام لديه على الخصوص كميات من سام 7".

 

كان الوزير مشدودا إلى حديثي في حالة ذهول تام. فيم كان يفكر؟ لست أدري. لكن ما من ريب في أنه كانت تراوده عدة تساؤلات. ولعله كان يعي الخطورة القصوى للموقف الذي كنت أشرحه.

غير أنه رغم نفوذه الواسع لم يكن بوسعه القيام بأي شيء. فما عساه أن يعمل لإلغاء عملية بُذلت فيها وسائل مادية وبشرية هائلة؟ وكيف سيكون وقع هذا الإلغاء نفسيا وإعلاميا على الرأي العام الوطني والدولي؟ وأدهى ما في الأمر أن عليه ألا يجرح شعور العسكريين الذين هم سدنة هذه الزيارة الملكية ويُفترض أنهم، في هذه المنطقة بالذات، المسؤولون في المقام الأول عن أمن الملك ...

 

أمر الوزير المكتب 16 ألا يحيل إليه أي مكالمة. وبعد ما بدا لي أنه تفكير معمّق، سألني البصري بصوت متحطم: "ما ذا تقترح؟".

أجبته أنه ينبغي – من وجهة نظري – الاستمرار في الزيارة الملكية على أن تجري بطريق البر. وسيكون في ذلك فرصة لجلالة الملك لكي يزور جميع رعايا الجنوب المغربي.

لكني أضفت أن هذه الزيارة يتحتم أن تتم في ظل إجراءات حماية صارمة، دون أن نغفل كون الطريق البرية قد تشهد هجوما من قبل البوليساريو على مستوى اكليميم أو الطنطان.

ومن غير الدخول في تفاصيل فنية لم أكن مؤهلا لها، دار في ذهني بديل كنت أعتقد أنه موثوق به. وما على العسكريين والمصالح الأمنية إلا أن يجسدوه على أرض الواقع.

شرحت لمحاوري أن الموكب الملكي ينبغي أن تتقدمه مفرزات من القوات المسلحة الملكية للاستطلاع ولتمشيط الميدان.

أما الموكب ذاته فينبغي أن يتجزّأ إلى ثلاثة أقسام: كوكبتيْن من المرافقات العسكرية إحداهما أمام الموكب والثانية خلفه على أن يبقى الموكب نفسه في الوسط على الدوام. ويلزم ألا تتميز السيارة التي تقل الملك بأي شارة.

وستكون السيارة التي تحمل العلم الوطني وتحيط بها الدراجات النارية مجرد تكتيك للتمويه.

وينبغي أن تحلق ثلاث مروحيات فوق الموكب طيلة سيره، على أن تخصص إحدى المروحيات لانسحاب الملك عند الاقتضاء.

ويلزم بطبيعة الحال أن تظل جميع قوات الأمن في حالة استنفار دائم على مدى أيام الزيارة على أن يتعزز التواصل فيما بينها باستمرار.

طلب مني الوزير أن أوافيه ببطاقة مفصلة عن كل هذه الأمور. وما إن وصلت إلى منزلي حتى شرعت في تحرير هذه البطاقة مبرزا أهم النقاط فيها.

 

ثم هاتفت المكتب 16 ليرسل إلي شرطيا على دراجة نارية ليسلم الظرف المختوم إلى الوزير. لكن هاجسا بقي يؤرّقني: ما ذا لو أن الوزير لم يبلغ المعني بالأمر خشية جرح مشاعر العسكريين أو لأي سبب آخر؟ ما العمل في هذه الحالة؟

بما أني كنت على قناعة تامة بأن حياة الملك معرّضة للخطر، لم يكن بوسعي أن أقتصر على هذه القناة وحدها للإبلاغ بالأمر.

طفقت أستعرض ذهنيا المسؤولين المقربين من العاهل الذين لديهم الشجاعة لأن يشرحوا له دون مواربة خطورة الموقف ومدى إلحاحه.

وبعد لأْيٍ صممت العزم، رغم المخاطر، على أن أحرر بطاقة أخرى موجهة شخصيا إلى محمد مديوري رئيس الأمن المباشر للملك.

لم تكن لي معرفة شخصية بالسيد مديوري رغم أني ألتقيه من حين لآخر في المناسبات التي تعقد بالقصر الملكي. غير أن الوقت يمر ولا بد من التصرّف بسرعة.

أمرت سائقي بأن يسلم هذا الظرف المختوم إلى القصر الملكي. كان يحمل عبارة: "لا يفتحه إلا السيد محمد مديوري".

ولا تسأل كم كان ارتياحي عندما تم التخلي عن الطريق الجوية لصالح الطريق البرية. لكني إلى اليوم لم أعرف هل جرى ذلك بواسطة إدريس البصري أم بواسطة محمد مديوري.

هل أسهمت في إنقاذ حياة الملك؟ لست أدري. ما هو مؤكد أن ذلك كان هو مقصدي.

كل ما أوردته آنفا يمكن التأكد منه بسهولة لأن البطاقتيْن محفوظتان في أرشيف وزارة الداخلية وفي أرشيف الأمن الملكي.

الجنرال الدليمي ومحاولة ا لانقلاب الفاشلة ضد ولد هيداله (16 مارس 1981)

كان التوتر في العلاقات ما بين المغرب وموريتانيا قد بلغ أوجه. فلم يتم قطع العلاقات فحسب وإنما ذهب ولد هيداله الرئيس الموريتاني إلى حد كتابة هذه العبارة المهينة على جوازات سفر مواطنيه: "يحظر السفر إلى إسرائيل، وإفريقيا الجنوبية، والمغرب".

وعلى سبيل الانتقام، احتضن المغرب على أراضيه التحالف الديمقراطي الموريتاني وهو حزب معارض قريب من الرئيس الموريتاني الأسبق المختار ولد داداه. وكان هذا الحزب يدعو صراحة إلى الإطاحة بولد هيداله.

 

كان هذا التحالف مؤلفا من جناح سياسي ومن جناح عسكري. ويبلغ مجموع هذين الجناحين قرابة عشرين شخصا تتكفل بهم المديرية العامة للدراسات والتوثيق التي يقودها الجنرال القوي الديلمي.

قرر هذا الجنرال، متجاهلا لأبسط القواعد التي تدرس في الأكاديميات العسكرية، أن يهاجم في وضح النهار بكوماندوس من 8 رجال مدينة نواكشوط التي هي عاصمة تؤوي أزيد من مليون شخص.

وكظرف مشدّد، كان الجميع في نواكشوط يترقبون هجوما وشيكا انطلاقا من المغرب. فالإذاعة الوطنية ووسائل الإعلام الموريتانية لا تنفك تتناقل هذه المعلومة التي أصبحت حديث صالونات العاصمة.

قبل ثلاثة أشهر من هذه العملية وبينما كانت تدبّر في سرية تامة، أبلغت عنها إدريس البصري في نادي الغولف الملكي دار السلام بالرباط.

شرحت له أن الأمر يتعلق بعمل خطير وله مفعول عكسي في آن معا. ظهر لي حينها أن الوزير لم يسبق له أي علم بذلك. بدا مستغربا ومتخوفا. أقول "متخوفا" لأن علامات الخوف كانت ظاهرة على محيّاه.

التزم الصمت، وتشنج جسمه، وانبسطت أطرافه، وجحظت عيناه، وانقبضت أسارير وجهه. ولأول مرة، بعد احتكاكي به على مدى سنين عدة، أرى إدريس البصري في وضع حرج. واصلت حديثي، لكن مخاطبي كان مذهولا ...

كان أمام خيار صعب نابع من الخوف من أن يتدخل في شؤون الديلمي مع ما يقتضيه ذلك من مخاطر ومن غضب الملك عندما يعلم أن "الرجل الأكثر اطلاعا في المملكة" لم يكتشف الأمر.

فيما بعد، وإثر الهجمة الانتحارية على نواكشوط، تبيّن لي أنه لم يرفع إلى جلالة الملك أي إحاطة بذلك.

عندها تذكرت عرضا حادثة تافهة. فقد دأب المسؤولون المقربون من وزير الداخلية إبّان الأعياد الدينية أن يحضروا لديه لتقديم التهاني.

ذات يوم، وبعد عبارات التحية والسلام، طلب مني البصري أن أرافقه في سيارته. سرنا سويا دون أن أعرف إلى أين يتجه. بعد قليل وصلنا إلى منزل الديلمي في حي بير قاسم. كان الوزير يريد تهنئة الجنرال. حينها فهمت أن العلاقات في قمة الدولة تخضع لسلم هرمي، رغم المظاهر.

 

في اليوم الذي وقع فيه الانقلاب الفاشل بموريتانيا، تلقيت اتصالا من المكتب 16. كان علي أن أتجه فورا إلى وزارة الداخلية حيث يعتبرونني أخصائي شبه المنطقة.

ما إن فتحت الباب حتى لاحظت أن جميع المعنيين تقريبا حاضرون. وحتى قبل أن أغلق الباب خلفي نادوني قائلين: "إذن، يا حرمة الله، ما ذا يجري في موريتانيا؟".

أجبت: "لو كان لي شرف المثول أمام جلالة الملك لطلبت منه أن يحاكم الجنرال الدليمي في محكمة عسكرية بتهمة الخيانة العظمى".

كان لهذا الكلام وقع الصاعقة على الحضور. صمت الجميع لبرهة طويلة. وفي أعقاب الاجتماع، سارّني أحد الزملاء على انفراد قائلا: "حرمة الله، لا تنم في منزلك هذه الليلة".

لربما يلمح هذا الشخص إلى أن الجنرال الديلمي سيحاول تصفيتي جسديا. لقد كان للديلمي آذان في كل مكان. وقد يكون وصله ما قلته بشأنه.

كنت أسكن في تلك الفترة بعمارة "الأميرات" (مبنى قرطبة) قرب سينما الزهوة.

اتجهت فورا إلى آغدال، شارع فال عمير حيث يسكن محمد ولد جدو (وهو سفير سابق) ورجل ثقة تعود أصوله مثلي إلى مدينة بوتلميت.

حدثته عما جرى وعن احتمال تهديد بتصفية جسدية. كنت أريد أن أترك تفسيرا لما قد يحدث.

إني باتهامي قبيْل ذلك للدليمي بالخيانة العظمى في أثناء الاجتماع كان في ذهني سابقة أوفقير عند توقيعه لمعاهدة الحدود فيما بين المغرب والجزائر. فبدفعه إلى توقيع هذه المعاهدة التي كانت في غير صالح المملكة كان أوفقير وفقا للتكتيكات الميكيافلية التي يعرف أسرارها يضرب بحجر عدة عصافير:

تشويه سمعة المملكة؛

زعزعة استقرار البلاد بتحريض المغاربة على الملك؛

حث المعارضة على إحداث مزيد من القلاقل؛

وفي التحليل النهائي، تهيئة الأرضية للقيام بانقلاب على الدولة.

لكن الحسن الثاني – وهو الخبير الإستراتيجي الماهر – قد فطن لكل ذلك. واستطاع بدهاء أن يقلب الوضع لصالحه بالتظاهر بقبول اللعبة، فاستثمر الفوائد العائدة من التنازلات خاصة فيما يتعلق بموقف الجزائر من الصحراء قبل أن يغلق المسار في مرحلته النهائية وهي مرحلة المصادقة على المعاهدة من طرف البرلمان المغربي، والأهم من ذلك عدم إصدار المعاهدة حتى لا تدخل حيز التنفيذ.

 

من المحتمل أن الدليمي قد تصرف بنفس الروح عندما أرسل الكوماندوس إلى نواكشوط.

غير أن أيا كان لم يعقد هذه المقارنة، إذ نادرا ما ينظر الناس إلى الخلف لاستخلاص العبر، بل حاول بعضهم أن ينفي التهمة عن المدير السابق للمديرية العامة للدراسات والتوثيق.

ومع ذلك فإن إدريس البصري وهو من علم مني شخصيا قبل عدة أشهر مسبقا نوايا الديليمي، صرح أمام الجميع في اليوم الذي جرى فيه الانقلاب الفاشل بموريتانيا، قائلا بنبرة تخلو من الاقتناع: "الجنرال ليس له صلة بالموضوع".

وستثبت الأحداث لاحقا أن الجنرال، على العكس من ذلك، كان العقل المدبر للانقلاب.

خلال اجتماع خلية الأزمة المنعقد بوزارة الداخلية بشأن الانقلاب الفاشل في موريتانيا، كررت للمرة الألف النقطتين البارزتين اللتين يجب أن تحكما، من وجهة نظري، العلاقات ما بين المغرب وموريتانيا:

موريتانيا دولة مستقلة وذات سيادة وعضو في منظمة الأمم المتحدة. وعلى هذا الأساس وحده يلزم التعامل معها لا سيما أن موريتانيا حلقة أساسية في أي تسوية لقضية الصحراء وتعتبر مؤازرتها في هذا الصدد أمرا في غاية الأهمية.

التخلي نهائيا عن "أحلام" الماضي الذي كان يروم "تشكيل المغرب الكبير"، إذ إن الحسن الثاني نفسه بوصفه نصيرا للواقعية السياسية قد أعلن في خطاب شهير له على شاشات التلفاز أن "من المستحيل إدارة مدينة النعمة انطلاقا من الرباط".

 

كتاب الملك الحسن الثاني الصادر بعد وفاته والمعنون بـ "الحسن الثاني: عبقرية الوسطية"

اتصل بي ذات يوم السيد محمد علال سي ناصر مستشار جلالته عن طريق صديق مشترك (هو الشيخ بنسيدا) المكلف بمهمة في الإدارة عينها.

كان سي ناصر يودّ مقابلتي. وقبلت بطبيعة الحال دعوته وذهبت إليه في مكتبه.

اكتشفت وجها لوجه رجلا رزينا، موطّأ الأكناف وذا ثقافة موسوعية. لكنه بدا لي أكثر نحافة مما يظهر عليه في التلفاز.

بعد حديث ذي شجون، قال لي إنه يقرأ بانتظام كتاباتي في الصحافة المغربية. ثم أضاف: "لديك قلم سيّال". وبينما كنت أصغي إلى مستشار الملك، تساءلت في سرّي ألا يكون هذا الإطراء وليد المناسبة. ومع ذلك شكرته على تعابيره اللطيفة تجاهي، لكني لفت انتباهه إلى أن مثقفا من طينته فضلا عن أنه مبرّز في الآداب يظل قدوة في مجال الكتابة.

 

وفي مقابلة ثانية معه – وقد تلتها مقابلات أخرى – أسرّ إلي أنه بصدد تأليف كتاب عن المرحوم الملك الثاني سيرى النور قريبا.

وأردف أنه سيكون سعيدا لو أني قبلت مساعدته في هذه المهمة. أجبته بأن ذلك يشرفني وأني سأقدم بكل سرور مساهمتي المتواضعة في هذا المصنّف.

وبعد ذلك أرسل بانتظام، عن طريق رسول من الديوان الملكي، الفصول تباعا إلي في منزلي الواقع بشارع جبالا بحي السفراء في السويسي.

وقد سمحت لنفسي بأن أبدي بعض الملاحظات الشكلية معربا عن رأيي في الطابع الأكاديمي الذي يتعالى على القارئ المتوسط. كما أبديت له ملاحظة مضمونية تتعلق بالسياسة هذه المرة.

أذكر أني ركزت بوجه الخصوص على نقطتيْن. النقطة الأولى تتعلق بموريتانيا. كانت هنالك فقرة قصيرة بدت لي غير مجدية وتتناقض تماما مع السياق السياسي المستتبّ حينها.

بعد النقاش اقتنع برأيي وأعدنا صياغة الفقرة.

أما النقطة الثانية فتتعلق بإيران، وتحديدا بالخوميني، والثورة الإسلامية، والمذهب الشيعي. لاحظت عليه بهذا الصدد أن العبارات النارية ينبغي تلطيفها لأنها في غاية الفظاظة وقد تؤدّي إلى إرساء عداء مستكنٍّ مع طهران، وأن هذا إرث على مستوى المشهد السياسي الدولي قد يكون الملك الجديد جلالة محمد السادس في غنى عنه.

وهنا تصلب موقفه، وأجابني: "هذه هي العبارات التي نطق بها جلالة الملك الحسن الثاني ولا يمكنني تغييرها ...".

وعندما أشرف المصنَّف على الاكتمال، أنبأني أنه اقترح على جلالة الملك محمد السادس عدة عناوين للكتاب منها: "الحسن الثاني، عبقرية الوسطية". ثم أضاف بشيء من المرارة: "أُمرت بالتخلي عن الكتاب، وأُسند إلى حسن عوريد ...".

الملك: "مناصرة مفصّلة للغاية دفاعا عن العاهل" بحسب الوكالة الفرنسية للأنباء

غداة اعتلاء جلالة الملك محمد السادس للعرش كتبت مقالا بعنوان: "الملك". كانت كتابة هذا المقال ردا على حملة شعواء من التجريح للعاهل أطلقتها بعض الأوساط المناهضة للملكية.

وقد تناقلت وسائل الإعلام هذه الورقة على نطاق واسع وطنيا ودوليا وبالأخص الوكالة الفرنسية للأنباء (برقية بتاريخ 18 ديسمبر 2002).

تحدث البعض عن برق أضاء سماء الفضاء الإعلامي المغربي. فهناك لأول مرة من يتجرّأ على مواجهة الأقلام الرهيبة لليسار المغربي حينها من أمثال بوبكر جامع، والمرابط وغيرهما ممن يبثون الذعر في أعمدة الصحف المغربية.

كان هؤلاء "الصحافيون" المأجورون يتناولون بألفاظ أقل ما توصف به أنها "جارحة" الذات الملكية المقدسة.

ما إن صدر هذا المقال حتى تهاطلت التهاني – الصادقة حينا والمجاملة تارة – من كل حدب وصوب. كان الابتهاج على أشده في وزارة الداخلية. وكان السؤال الذي يتردد في أروقة الوزارة هو: "هل قرأت "الملك"؟

تولد لديَّ الانطباع بأني أحظى بالاحتفاء كما لو أني نلت جائزة دولية ... اتصلت بي سكرتيرة آندري أزولاي التي أخبرتني بأن مستشار جلالة الملك يود مقابلتي.

لم أكن قد التقيت السيد آزولاي من قبل. كنت فقط أراه من حين لآخر أثناء المناسبات المنظمة في القصر الملكي. استقبلني مبتسما عند مدخل مكتبه.

أثار إعجابي هدوءه ونظافة مكتبه. وبما أن معرفة بعضنا لبعض لم تكن حميمية فلم يكن هناك مجال للممازحة.

 

ما إن جلست حتى بادرني بالقول: "لقد قرأنا هنا مقالك. إنه رائع شكلا ومضمونا ! نادرا ما أقرأ ورقة بمثل هذا الإقناع فضلا عن جودة الأسلوب. سنعيد الاتصال بكم". ثم ودعني.

في منتصف النهار تلقيت مكالمة أخرى من الدار البيضاء. كان السيد شفيق لعبي، رئيس القلم السياسي لصحيفة عالم الأعمال المغربي "الحياة الاقتصادية" على الخط وهو يقول: "ألست فلانا؟". أجبت: "أجل. أنا هو بالذات". عندها أضاف: "سننظم حوارا وطنيا حول المقال الذي نشرته".

كانت هذه المبادرة مصدر فخر لي لكني كنت أريد المزيد من الإيضاح. فرد علي مخاطبي بنبرة حاسمة: "لقد تلقينا تعليمات "عليا". واتصلنا لهذا الغرض بمؤرخيْن (محمد العيادي ومحمد الناجي)، ومتخصصين في القانون الدستوري (نجيب با محمد وعمر بندورو) وخبير في السياسة (محمد توزي) ومناضل في المجتمع المدني (صلاح الودي)".

وقد جرى تنظيم النقاش المذكور بالفعل مع مشاركة الأساتذة الذين وردت أسماؤهم أعلاه (انظر صحيفة الحياة الاقتصادية الصادرة يوم الجمعة 19 يناير 2003، الصفحات 1، و4، و5، و6، و7).

وفيما يلي مدخل المقال الذي يرى البعض أنه جدير بالتخليد والتوريث للأجيال القادمة:

"منذ بعض الوقت تُشن حملة تنديد مكشوفة ومغرضة وأقل ما توصف به أنها لا تحترم جناب الذات الملكية المقدسة.

وقد تكشفت هذه الحملة التي بدأت ملتبسة، ومدسوسة بخبث لتفضي إلى مآلات لا يعلم إلا الله مدى عواقبها الوخيمة.

وعلى مر الأيام لا تنفك تتصاعد وتتفاقم متخذة منحى ينزع في اتجاه الظهور الصريح.

وفي ظل المساعي الهدامة التي تغذيها على نحو ارتطام الأمواج بجدار السد، فإنها تهدف تحت غطاء مبادئ سليمة ومحمودة إلى أن تشجب – باسم المصلحة العامة – أوجه التقصير والتجاوزات التي قد ترتكبها السلطات العمومية لتهدم، بوعي أو عن غير وعي، أسس ومقومات الأمة المغربية بحد ذاتها.

والآن وقد بلغ السيل الزبى وتجاوزت هذه الحملة حدود اللباقة وفروض الاحترام المستحقة لأي رئيس دولة ناهيك عما إذا كان ملكا بل أميرا للمؤمنين، فقد أصبح الأمر خطبا جللا لا نظير له في سجلات التاريخ السياسي المغربي.

إن الهدف المنشود من هذه الحملة هو سحب الأبّهة عن العاهل حتى يصير مجرد عنصر في المعادلة وتسطيح شخصه والغض من مكانته. بتعبير آخر: محاولة شطب الشرعية الشعبية، والوطنية، والدينية التي ظلت على مدى أكثر من ألف عام مصدر فخر واعتزاز للمغاربة.

وقد أصبح من المقزز تراكم التلميحات، والتعريض، والكنايات المتزايدة التي وصلت حد التصريح بالمساس بالذات الملكية. ومن هذا المنطلق، لا يمكن لأي مغربي أن يبقى مكتوف اليدين في وجه هذه الوقاحة.

ولا نكير أن هذه الحملة التي تستغل الاستياء المتولد من الحرمان والحيف الذي قد يعود في جانب منه إلى بعض التصرفات العرجاء لجهاز الدولة، تمثل حقيقة اعتداء على كرامة وشرف كل مواطن مغربي.

ذلك أنها تمس أغلى وأقدس ما لدى المغاربة وأكثره تحصينا ومنعة ألا وهو قائدهم المفدّى، الضامن لوحدتهم الوطنية وتماسكهم الاجتماعي، وهو ما بذلوا في سبيله عبر القرون تضحيات جساما من الدم والعرق ...".

 

الملك محمد السادس أو أمل الأمة

 

بعد صدور هذا المقال اقتُرح علي أن أؤلف كتابا عن الملك محمد السادس. فوافقت فورا على هذا الاقتراح، وبدأت في الحين مباشرة هذه المهمة. وكان عنوان المصنف جاهزا: " الملك محمد السادس أو أمل الأمة".

 

وبعد مسار طويل من العمل والبحث استطعت على مدى عامين أن أحصّل مدونة من الوثائق من شتى الأصناف، وبدأت في تحرير المصنف الذي صادف ذكرى سعيدة ألا وهي إكمال جلالة محمد السادس السنة الخامسة بعد اعتلائه العرش.

 

كانت المقادير مواتية. فهذا الكتاب الذي ضم بين دفتيْه 500 صفحة يرصد من بين أمور أخرى حصيلة السنوات الخمس ويبرز الإصلاحات الهامة والمنجزات الضخمة التي حققها الملك على الأصعدة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية في ظرف وجيز.

 

يتألف الكتاب من جزأيْن: الأول منهما بعنوان: المؤسسات والنقاشات. والثاني بعنوان: الجواهر الأولى في التاج.

قرر الناشر المغربي – ربما بناء على تعليمات – أن ينشر الكتاب في ميلانو بإيطاليا في مطبعة سيلفيو برليسكوني بطبعة فاخرة. وعند صدور الكتاب أثار العديد من ردود الفعل.

فتحدث البروفيسور عبد الله سعف عن "عمل مدهش". أما البروفيسور خالد ناصري أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية فكتب في تقديمه للكتاب ما يلي: "يشكل "الملك" بادئ ذي بدء تعبيرا عن رد فعل عاطفي من لدن مواطن يحب بلده ويثور ضد انحراف فكرة "سياسية" غير ناضجة تطلق النار، باسم حرية التعبير، على كل ما يمر أمامها ... لاسيما إن كان يسير في الاتجاه الصحيح. ومع ذلك، لا يتعلق الأمر إطلاقا بسيرة مستعارة. فلا ينبغي أن نخدع أنفسنا، فكتاب "الملك" قد يمثل أي شيء سوى أن يكون تمرينا في اللغة الخشبية المتعارف عليها. إنه بناء فكري ممنهج وقائم على غائية وخط توجيهي. وهذا ما يجعلنا نتطرق إلى منهجه الموضوعي (...)".

 

وبدوره كتب البروفسور محمد بنعلال أستاذ العلاقات الدولية والإستراتيجيات على صفحة الغلاف الأخير: "إن المؤلف بحكم السنوات العديدة التي قضاها كأستاذ في المدرسة الوطنية للإدارة اعتمد نهجا تربويا، وكان محقا في ذلك: فلجأ إلى التبحّر الموسوعي من جهة، وإلى استدعاء التاريخ من جهة أخرى. وكان بمقدوره أن يقتصر على السرد الوصفي لكنه آثر أن يحلل الأحداث. لم يكتف بالتبحر والتساؤل ولا بالحماس لأننا كنا شهودا كلنا على وقوع تحوّل سياسي، واقتصادي، واجتماعي تجديدي. فحرمة الله قانوني يمارس النضال السياسي، لكنه مناضل سياسي ذكي".

 

ولدى صدور الكتاب اتصل بي هاتفيا السيد شرايبي مدير ديوان جلالة الملك محمد السادس ليبلغني تهاني العاهل. ومن ناحية أخرى، طلب مني أن أتصل بوزارة الداخلية لأن تعليمات ملكية تخصني قد أعطيت لمسؤولي هذا القطاع.

 

وهكذا تم استقبالي تباعا من لدن وزير الداخلية ثم من لدن الأمين العام، فأبلغتهما بفحوى مكالمتي مع السيد شرايبي. لكن كم كان استغرابي عندما علمت أن مخاطبي كليهما لم يكن لهما علم بالموضوع. وحتى اليوم ظلت تلك التعليمات حبرا على ورق.

 

فيما بعد اطلعت من خلال شبكة الإنترنت على أن الكتاب يُباع في الولايات المتحدة بثمن 95 دولارا (أقول خمسة وتسعين دولارا). فهذا الكتاب عرّف الأمريكيين، وبالأخص الدوائر الرسمية والخاصة، بالمغرب وبملكه الشاب (الوثيقة مرفقة).

 

وبالمناسبة، أنبه إلى أن الناشر لم يدفع لي سنتيما واحدا من مبيعات الكتاب في الولايات المتحدة. صحيح أن الكسب المادي لم يكن هو هدفي من تأليف الكتاب.

إني بهذا الكتاب قد اشتبكتُ – في وقت نكص الكثيرون على أعقابهم - مع ثلة من مناوئي الملك الذين يحاولون عبثا أن يثبّطوا تصميمه على النهوض المبارك بالمغرب.

لقد برهنت على أن المواجهة مع ملك يوصد حسابات الماضي، ويحرر الطاقات وفضاءات التعبير، محكوم عليها بالإخفاق سلفا.

 

وبيّنت أن ملكا يحظى بالشعبية ويحقق النجاحات، فضلا عن أنه لا مَغْمَز فيه، يُربك ويحبط الكثير من الخطط المناوئة له. فمن الآن فصاعدا لم يعد بالإمكان أن يُساءل جلالة الملك محمد السادس إلا على صعيد الواقع الملموس. ذلك أن إنجازاته حقيقية وقابلة للقياس ومعبّر عنها بلغة الأرقام.

وأبرزت كيف يطوي الملك صفحة التقاليد المخزنية البالية لكي يُدلف بالمغرب إلى مصاف الحداثة.

 

ولئن كنت بتأليفي لكتاب "الملك" قد قدمت إسهامي المتواضع في ترسيخ دعائم الملكية، فإني لم أنس المسألة الوطنية الجوهرية الأخرى، أعني قضية الصحراء.

"وقائع صحراوية": كتاب مقرر في برنامج جامعة جورج تاون بواشنطن

قبل تأليفي لكتاب "الملك" سبق أن ألفت كتابا بعنوان "وقائع صحراوية / الرهانات الجيوسياسية والجيو- استراتيجية لنزاع الصحراء". وقد أصبح هذا الكتاب مرجعا عالميا في مسألة الصحراء. وسنرى لاحقا – بالوثائق – كيف تم ذلك.

ولكيلا نستفيض في التفاصيل دعونا نعط الكلمة أولا لثلاثة من كبار المثقفين المغاربة الذين لديهم معرفة جيدة بالكتاب لسبب وجيه هو أنهم قدموا له. ونورد فيما يلي مقتطفات موجزة من تقريظهم للكتاب:

في تقديمه كتب أحمد عصمان (الوزير الأول السابق): " (...) بحكم اطلاعه العميق على خفايا قضية الصحراء، يقدم السيد حرمة الله إضاءة كاشفة (وهذا هو اللفظ المناسب) لملف في مثل هذه الدرجة من التعقيد والتشابك (...). ففي تحليله للتطورات المستقبلية يستبق الأحداث ويدق ناقوس الخطر قبل فوات الأوان.

(...) إني لأهيب بالجميع إلى قراءة "وقائع صحراوية". فهو كتاب جيد التحرير، مدعّم بالوثائق، وموجّه بعزم صوْب المستقبل".

 

وعلى صفحة الغلاف الأخيرة كتب عبد الله سعف (أستاذ العلوم السياسية): "يجدر أن نحيي شجاعة وأريحية هذا المجهود الاستكشافي الإستراتيجي الذي نأى عن الطرق المعبّدة التي ما فتئت تأسِر عديد التحركات المتعلقة بالملف منذ أمد بعيد.

إن هذه الرؤية المستقبلية تشكل إجابة ملموسة ومحاولة مثلى لاستيعاب قضية الصحراء في مواجهة مخاطر المستقبل.

 

(...) إن المعرفة المعمّقة للرهانات الوطنية، والإقليمية، والدولية للملف، وكذا اتساقه مع التفاهمات المبدئية، والمفاوضات المرحلية، والتزامات المغرب، كل ذلك يدل على إتقان كبير لموضوع هذا البحث. فأسلوب الكتابة جلي واضح، والمنهجية المتبعة منطقية، والاستدلال مشوّق جذاب.

وفي توطئته كتب محمد معتصم (أستاذ العلاقات الدولية): "منذ قرابة ربع قرن وأنا أعرف الطالب المجتهد الذي سبق لي أن درّسته السيد موسى حرمة الله. ولولا خوف الادّعاء المتبجّح لقلت إنني نادرا ما أخطئ في التنبّؤ بمستقبل طلابي النابهين (...).

واليوم، أعتز وأتشرف بتقديم هذه الشهادة المتواضعة لتكون بمثابة توطئة للملف المحكم الذي صرف سنوات في تشكيله وتصوّره والذي يعرضه علينا الآن تحت عنوان بسيط لكنه في غاية العمق والتعبير "وقائع صحراوية".

 

تأتي "وقائع صحراوية" لتسدّ ثغرة تاريخية واستراتيجية وجيوسياسية في آن معا، وهي ثغرة طالما أغفلتها معالجات المشاكل المتشعّبة التي تنطوي عليها قضية الصحراء المغربية. والحال أن من بين المزايا الأساسية لبحث السيد حرمة الله هو فتح أعيننا، بعيدا عن النظرة التقليدية، على طرق جديدة لم يُسبق إليها في التعامل مع المقاربة المغربية للصحراء والمتمثلة في وضع الملف مستقبلا في صلب الرهان الإستراتيجي الأمريكي بكل أبعاده الأمنية، والإستراتيجية، وبالأخص الاقتصادية".

 

لقد شهد هذا المصنّف الذي كُتب دفاعا عن موقف المغرب في الصحراء رواجا فائقا. ففي المغرب، عرضه التلفزيون الوطني في الوقت الذي كان يسلمه فيه رئيس غرفة النواب لوفد بريطاني جاء للاستعلام حول قضية الصحراء.

وأوضح الصحفي في التلفزيون الوطني أن الأمر يتعلق بمصنف كتبه جامعي مغربي لتفصيل وتحليل موقف المملكة من هذه المسألة الوطنية.

وفي إطار سياسة معاوية ولد الطائع لترقية الكتاب في موريتانيا، تم شراء ألف (1000) نسخة من الكتاب دفعة واحدة. وبهذا استطاع القارئ الموريتاني أن يطلع على جوانب من تاريخ قضية النزاع في الصحراء لم يكن على بيّنة منها.

وقد جرى توزيع هذه الألف نسخة على مصالح رئاسة الجمهورية، وعلى الوزارات، وعلى أركان القوات المسلحة، وعلى الجامعات، وعلى سفارات موريتانيا في الخارج ...

وفي فرنسا تم تسويق الكتاب عن طريق FNAC شركة التوزيع الباريسية المرموقة. وظل لفترة طويلة من بين أعلى المبيعات في هذه الدار (انظر الوثيقة المرفقة).

وما من شك في أن هذا النوع من الكتب التي تعالج القضايا الجيوسياسية والجيو-استرتيجية تشتريه عادة الطبقة السياسية، والصحفيون، والجامعيون، ومراكز البحث في فرنسا ...

وللتذكير، فإني لم أتقاض سنتيما واحدا من ريع مبيعات الكتاب. وكما هو الحال بالنسبة لكتاب "الملك" لم يكن ذلك هو الهدف المتوخى.

لكن هذا الكتاب لقي أكبر رواج له في الولايات المتحدة.

فهو قد أسهم في تعريف الولايات المتحدة بوجاهة موقف المغرب بشأن الصحراء، كما كشف، على صعيد آخر، مناورات أعداء الوحدة الترابية الوطنية.

ومن أغرب الصدف أني علمت أن "وقائع صحراوية" مقرر ضمن برنامج جورج تاون الجامعة الشهيرة في واشنطون.

بالفعل، ذات ليلة بينما كانت ابنتي تتصفح الشبكة العنكبوتية نادتني بصوت عال: "بابا ! بابا ! إنهم يتحدثون عن كتابك في الولايات المتحدة !". فطلبت منها أن تسحب لي نسخا مما كُتب في هذا الصدد. لكني لم أقاوم الرغبة في مطالعة الموضوع على شاشة الكمبيوتر. كان هناك تصريح بأن الكتاب مقرر في برنامج جورج تاون: "المادة: الصحراء الغربية-تاريخها- 1975 – المؤلف: موسى حرمة الله" (وثائق مرفقة).

ومن المحتمل أن يكون كتاب "وقائع صحراوية" مقررا في جامعات أمريكية أخرى. ولعل من نافلة القول الإشارة إلى أن الكثير من مراكز القرار في الولايات المتحدة قد حصلت دون ريب على الكتاب وفي مقدمتها الوكالات الفيدرالية.

بتأليفي لذيْنك الكتابيْن ("الملك" و"وقائع صحراوية") أكون قد أدّيت واجبي من حيث تقديم مساهمة متواضعة في هاتيْن المسألتين اللتين تستحوذان على اهتمام المغاربة: الملكية والصحراء.

وفي سياق آخر، كتبت العديد من المصنفات منها على وجه الخصوص: العلاقات بين المغرب وموريتانيا: المحتوى الاجتماعي والاقتصادي، والمقتضيات الجيو-استراتيجية، الرباط 1987؛ والصحراء: ما العمل؟ الرباط 2000.

وقد أعددت كذلك كما غزيرا من الدراسات التي تناولت بعمق مشاكل مخصوصة ذات صلة بقضية الصحراء، نذكر منها: بيكر والصحراء: خفايا الأوراق المقدمة (ملف من 70 صفحة) الرباط 2000.

وكان السيد الهمة الأمين العام حينها في وزارة الداخلية من أول من وجهت إليهم هذه الدراسة. وقد اتصل بي هاتفيا ليهنئني ويقول لي إن جلالة الملك محمد السادس اطلع على هذه الوثيقة وأعرب عن رضاه التام عنها.

ثم طلب مني أن أرسل إليه 12 نسخة من الدراسة ربما بغرض إعطائها للوفد المغربي الذي كان بصدد التوجه إلى الأمم المتحدة.

تلك هي باختصار أهم الخدمات التي أسْديتُها للمغرب. غير أن من الجدير التنبيه إلى أن هذه الخدمات لم تُقابل دائما من طرف المملكة بالتقدير الذي تستحقه.

عزيزي ياسين، إني إذ أشكرك على كل هذا الوقت الذي تفضلت بتخصيصه لقراءة هذه الورقة لا يسعني إلا أن أزفّ إليك أحرّ تحياتي القلبية.

 

[1] المكتب 16 هو مركز الاتصال والمكالمات المؤمّنة الذي يعود إلى الفترة التي كان فيها الجنرال أوفقير وزيرا للداخلية.

وهذا المكتب يمكن أن يربط الاتصال على مدى أربع وعشرين بين مسؤوليْن أو أكثر من مسؤولي الوزارة: الوزير، أعضاء الديوان، الولاة، مديري المصالح المركزية كالإدارة العامة للأمن الوطني، وإدارة المراقبة الترابية، إلخ. سواء كانوا داخل المغرب أم خارجه. وهو نظام أكثر فاعلية من نظام الهاتف ذي الأرقام الثلاثة.

ويستطيع المكتب 16 كذلك أن يربط الاتصال فيما بين مسؤولي وزارة الداخلية وجميع المسؤولين الآخرين في المملكة.