تروي النُّكتة المصرية أن أديبا كبيرا كان واقفا على كُبري أكتوبر رفقة صديقه وكان الاثنان في حالة إفلاس ـ وليس ذلك غريبا عليهما ـ فجأة مرّت سيارة فاخرة تقلُّ الراقصة الشهيرة فيفي عبدُ فنفثَ الأديب غيمةَ دخان وقال لصاحبه في طرافةٍ وحَسْرة أترى حالنا يا صديقي هكذا الفرقَ بين الأدب وقلة الأدب
وفي مدينة أثريّةٍ في قلب موريتانيا التهمتْ الرّمالُ نصف بيوتاتها وطمَرَ التصحّرُ العقولَ تقدّم مُهرّجٌ برُتبةِ شاعرٍ إلى المنصة وتقيّأَ جُمَلاً يدّعي أنها قصيدةٌ باللغة الهندية في مدح الرئيس صفّقَ الرئيسُ ووزيرُ الثقافة والسّاسة والعامّةُ مع ألاّ أحد فهمَ حرفًا ممّا قيل لا أحد عرف هل امتُدحَ الرئيس أم هُجِيّ لا أحد طلب ترجمةً، لكنهم صفقوا بمن فيهم الرئيس، نعم صفّقوا للفكرة لا للوسيلة
هنا في بلدي موريتانيا يمثّل الشعر سيد الفنون الإبداعية حسب تصنيف الذّائقة الوطنية على فطرتها البدويّة ، وفي اعتقادي أن هذا التصنيف "اللإرادي" كان له دور مُؤسف في تحييد ألوان فنية أكثر تأثيرا في مسيرة التطور المجتمعي كالسينما والمسرح والفن التشكيلي، و لست هنا في صدد الحديث عن مكانة الشعر وارتباطه باسم البلد كصناعة محليّة وحيدة .
ومن الضروري الانتباه هنا لعبارة موريتانيا التي أستخدمها هنا فالفرق كبير بين الشعر الموريتاني والشنقيطي
أمْسَى الشعرُ للأسف موّظّفا رسميّا بدوامٍ كامل لدى الحكومات الموريتانية منذ الاستقلال وكذلك أمسى الشعراءُ ، لهذا لا يجود شاعر موريتاني لم يمتدح رئيسا أو يساهم "بشعر بلاستيكي" في حملات حكومية سِوى : سُميْدع وفاضل أمين والشيخ ولد بلّعمش عليهم جميعا شآبيبُ الرحمة والشاعر د/أدي ولد آدب أطال الله عمره
ربمّا أضيف لاحقا أسماء أخرى لقائمة الشّرف هذه فمن المؤكد أني حفظتُ شيئا وغابت عني أشياء
وأعرفُ أن الدخول في متاهة الأسماء مَدعاةٌ للتّعثّر في أخاديدِ الخواطرِ ولكن تتبُّعَ الخواطر هو ما أوصلنا لهذا الانحطاط الشعري والأخلاقي
بالفعل لا نستطيعُ إدراك الشعور اللّحظي لكل شاعر وهو يرتكب جريمة اغتصاب الورق وتدنيس شرف المفردات إلا إذا تمكنّا من تحنيط الزمن وهذا شيء مستحيل ومع ذلك نلتمسُ قليلَ عُذرٍ لمن تفرضُ أخلاقُهم مثلَها ولَهُمْ في الشعر سابقةٌ ، فالإبداعُ شفيعٌ والتّوبةُ الشعرية تجبُّ ما قبلَها وفي تاريخِ القصيدة الموريتانية ِ كما في تاريخ الدعوةِ سابقون غُفِر لهم ما تقدّم وما تأخر.. ولاحقونَ أدركوا ما فات من تقصير فأحسنوا... وطُلقاءُ لا تثريبَ عليهم وهم كُثر.
يقول العمّ نزار قباني بالحرف في كتابه قصتي مع الشعر في جزء "سقوط الوثنية الشعرية" :
"وبرغم أن الإسلام اقتلع الوثنية وصفى قواعدها إلا أن الوثنية الشعرية بقيت صامدة وبقي الوثنيون يحكمون اللسان العربي ويسيطرون على حركته بقوة الاستمرار والوراثة".
وإذا كانت الوثنية الشعرية التي يتحدث عنها نزار تعني التراكيب اللغوية المُكررّة الجامدة خصوصا فإنني أعني بالوثنية هنا تأليه السلطة ممثلة في شخص الحاكم من خلال حفل ديني/شعري يلعب فيه الشعراء دور كهنَة المعبد والكلماتُ القرابين والعطايا والهِباتُ صكوك الغُفران.
أعتبرُ شخصيّا أن الرئيس السابق معاوية ولد الطايع كان المُجرم الثقافيَ الأهم في تاريخ القصيدة المحلية فعلى مدى أكثر من عشرين عاما كانت الرّتب والنياشين "الشعرية" تُمنح على قدر البلاء في المديح والابتلاء في الكرامة ، كان أميريًّا موغلاً في الاقتداء بوصايا الأب ميكافيلّي ، وظلّ تدجينُ الشعراء والتلاعب بالخارطة الجينيّة للقصيدة وسيلة ترفيهِه الأكثر إثارة
فعندما أطاح العقيد معاوية بسيده هيدالة في "لعبة العروش" كانت أغلبُ الأسماء الكبيرة شعريّا حينها في السجون أو تحت الرقابة الأمنية، "أخْرَجَ العقيدُ الكلمةَ من السجن وألقاها في الجُبّ".
ثم جاء الجنرالُ فجعلَ أهلَها شِيّعًا يستضعِفُ طائفةً منهم ويُدْني أخرى ثُمّ ألقاها في التابوتِ وقذَفها في اليّم ولا تزال تتقاذفُها الأمواجُ ولا فنارَ يُريهَا مرفأ وتوشكُ أن تخرِقه الرّطوبة والملح .
حين كان يوسف عليه السلام في الجُبِّ كان أقصى طموحه الخروج للحياة فخرج "وبِيعَ بثمنٍ بخْسٍ" فكانوا فيه من الزاهدين ،
وحين كان في السجن ولبثَ بِضع سنين وجاءَه رسول الملك لإخراجه مكافأة على تفسير رؤياه كانت تجربة يوسف صارت أكثر نضجًا وصار طموحهُ أكبر من مجرد الحرية فطلب حكم استئناف في قضيته مع زليخة حتى تُعلنَ براءَتُه أولاّ ثم طلب فوق ذلك أن يُجعلَ على قمة القوّة الناعمة للدولة وهي الخزائن، حينها قوبِلَ الطّلبان بالإعجاب والتنفيذ الفوري
أنا أتحدث عن التجربة اليوسفيّة لا عن القصيدة الموريتانية.
هناك "شيءٌ" يُدعَى اتحادَ الأدباء والكتاب الموريتانيين استبْسلَ في ترسيخِ الوثنيّة أعلاه من خلال تصفيةَ الحروف اليانعة والاغتيال النفسي "لأولي العزم من الشعراء" إنهم يكسرون أيّ قانون قد يعزف لحنًا منفردًا يُحْدِثُ نشازًا في جوقةِ العُميان
نصفُ شعراء الداخلية برتبة "ضابط إيقاع"
إنها مؤسسةٌ رسمية تتمتّع بحسن السيرة والسلوك، غايةُ طموحها أن يظلّ لها كرسي محجوز على موائد الرئاسة في الحفلات التنكرّية التي تقام من حين لآخر ،الاتحاد جنديٌ مطيع يكتفي ببدلةٍ للصيف وأخرى للشتاء بألوانٍ تمويهِيّةٍ مناسبةٍ "للميادين القتالية التي يرابط فيها " ومرتّب هزيل في نهاية الشهر ،
وهذا أحد الأسباب التي جعلت العشرات من الأسماء الشعرية المعروفة محليّا وعربيا من كل أجيال القصيدة الموريتانية لا تنتسب لهذا الاتحاد وربّما كانت عبارة الجمعيّة أنسبَ لهذا الشيء
وعند نداكِ نُلبّي أجَلْ .. تكتفي مؤسسة الاتحاد بتوفيرِ المُنعشينَ للسهرات الرسمية للضيوف ، والمهرجانات الشعبية الترفيهية ففي هذه الأخيرة قد يُحسّ الجمهور بالملل من توالي الفِرق الفنيّة لذلك لا بأس أن يُملاَ الفراغُ بين الفَقرتَيْن بــ"شاعرٍ" في انتظار أن تجهزَ الفقرةُ المواليّة ، هكذا يُكرّرُ مُقدّمو الحفل .. والتّكرارُ يُنافي الخطأَ والنسيانَ .. إلاّ من أُكرِهَ وقلبُه مطمئنّ بخلاف ذلك
يتسلّقُ المهرّجون منصّات الشعر كما يدخلُ سائق التاكسي قمرة قيادة طائرة ايرباص 380 العملاقة و لكَ أن تتصوّر حجم متعته وفزعه ومنسوب الأدرينالين وحتميّة موت الركاب ، إنه انتحار له واغتيال لهم هكذا بالضبط
في عالم الحيوان .. وهو بالمناسبة عالَمٌ مشابهٌ لعالمنا حدّ التطابق ، يُخطّطُ الفهدُ الصيّادُ ويقوم بحسابات معقدة للمسافة من الفريسة وزاوية الانقضاض ومدى الرؤية فالطريدة غزالة تستحق، ثم ينفذ عمليته بنجاح وعندما يمسك بها ويبدأُ في تناولها تأتي مجموعة الضباع الخبيثة لتأكل معه فتنشب معارك كرّ وفرّ بين الطرفين على الفريسة وأثناء ذلك الانشغال تنقرُ طيور اللّقلَق ما استطاعتْ من لحمٍ لإطعام صغارها ليسَ إلاّ
وليس لهذه المعلومة أيّةُ علاقةٍ بمهرجان المُدن القديمة ولا مشاركات "الشعراء" فيها
لقد أعدتُ قراءَة كتاب طبائع الاستبداد ومصارع العباد للمفكر العظيم الكواكبي أكثر من مرة لروعته ولا زلتُ استغرب كيف فاتَه أن يُدرجَ فصلا في الكتاب تحت عنوان : الاستبداد والشعر، وهو الذي فصّل سبعة فصول كلها ثنائيات يشكل الاستبداد طرفَها الأول الثابتُ فكتب : الاستبداد و.. /الدين/العلم/المجد/المال/الأخلاق/التربية//الترقي,
إن الشعر الموريتاني يشبه الشركة الوطنية للصناعة والمناجم "سنيم" وَفْرةٌ في الخامات وفوضوية في الإنتاج وسوءُ تسيير، الفرقُ الأساسي بينهما يكمُن في أن الشركة تمّ تأميمُها منذ أربعين عاما ،
الشعرُ هو الآخر يحتاج تأميمًا
في كتابه مشكلاتُ الحضارة يتحدّث المفكر الجزائري العظيم مالك بن نبي عمّا سمّاه نظرية "القابلية للاستعمار" هذه القابلية واقع ملموس لدى الشاعر الموريتاني المُدجَنْ
رحم الله الدكتور عنترة ابن شداد حين قال
ولقد أبيتُ على الطّوى وأظلّه حتى أنال به كريم المأكل
تصوّرْ أن يكون عنترة قبل 1500 سنة أكثر ليبراليّة وشاعرية وحداثة من شاعر يلبسُ ربطة العنق ونظارات طبيّة ويُسوِّد القصائد على شاشة الآيفون ويعيش في 2018 ؟؟.
في اعتقادي أن اعتمادَ ديوان المتنبّي في مناهج التعليم المحظري منذ قرون وحفظ سيرتِه وتتبّع خطاه في قصور سيف الدولة وكافور الإخشيدي ومضارب سادة أسَدٍ وذبيان وطيْئ جعلت الشاعر الموريتاني يصنّف المديحَ المدفوع الأجر "مالاً أو تعيينًا" كلونٍ أدبي وربّما اعتمَده في حياته بينما هو في الحقيقة نوع من "التسوّل النّاعم" فقط
ماذا لو اهتمّ الموريتانيون بسيرة عنترة ابن شداد وثوريّته على نظام التراتبية القبَلية واعتداده بنفسه وفروسية وانتزاعه لحريته بذؤابة سيف تنفيذًا لوصيّة أمل دنقل في ملحمته لا تصالح حين قال في المقطع الخامس:
لا تصالح،
ولو توَّجوك بتاج الإمارة
إن عرشَك: سيفٌ
وسيفك: زيفٌ
إذا لم تزنْ -بذؤابته- لحظاتِ الشرفْ
واستطبت- الترفْ
نعَم ... يستطيع عنترةُ تفعيلَ خاصيّة السفر عبرَ الزمن عكس أغلب شعرائنا للأسف
الشّعر عملٌ فنيّ والأعمال الفنية بطبيعتها لا تقبل التّكلّف والتزييف ، والشاعرية لم تعد لَقبًا يخلعه الخليفة في قصره ودراهم ينثرها على الشاعر في النهار وتحت أقدام غانيّة بالليل ، المادّة الرمادية في الجماجم البشرية تغير تركيبها خلال القرون
الخلود للقصائدُ المالحةُ المكتوبة بالعَرَقْ لا للقصائد الطّوبيّة المكتوبة بالمَرَقْ