بعد عامين من الصمت، بل وربما الإهمال أو بعبارة أقل حدة عدم وضع إفريقيا في خانة الأولويات، أعلنت الإدارة الأمريكية أخيرا إستراتيجية جديدة خاصة بإفريقيا. لكن هذه الإستراتيجية التي طال انتظارها ينطبق عليها بشكل كبير مثل "تمخض الجمل فولد فأرا"، فلم تحمل الإستراتيجية التي كشف عنها مستشار الأمن القومي جون بولتون إعلانات مهمة للقارة، فضلا عن كونها جاءت شبه مبهمة ولم تدخل في التفاصيل.
إلا أن المشكلة الكبرى في هذه الإستراتيجية، أنها صورت أفريقيا على أنها لا تستمد أهميتها لدى أمريكا إلا من خلال كونها مسرحا للتنافس مع قوى تخشى واشنطن توسع نفوذها في كل مسارح الصراع الاقتصادي والجيوسياسي الدولي. ركز بولتون أثناء تقديمه لهذه الإستراتيجية على الصين وروسيا موجها لهما انتقادات لاذعة، بدل أن يتوجه مباشرة إلى الأفارقة ويفصل لهم ما الذي ستقدمه بلاده لقارتهم.
ويبدو أن إدارة ترامب انتبهت، في وقت قد يكون متأخرا، إلى أن غيابها أو إهمالها لإفريقيا جعل منافستيها القويتين هناك (الصين وروسيا) تزيلان البساط من تحت أقدامها تدريجيا، فسارعت في تخبط إلى إعلام الأفارقة بأنهم ما زالوا ضمن حسابات البيت الأبيض. لذلك فقد جاء كلام بولتون على شكل هجوم مركز ينتقد "الممارسات المفترسة والفاسدة" التي قال إن الصين وروسيا تنهجها في القارة السمراء.
الإستراتيجية الجديدة جاءت، حسب اعتقادي، دون تطلعات الأفارقة. فالطريقة التي كان يتحدث بها بولتون تخلق الانطباع بأن ما يهم واشنطن هو أن تحصل الشركات والمستثمرون الأمريكيون على نصيبهم من الكعكة الإفريقية وعدم السماح للصينيين والروس بأخذ القطعة الأكبر.
وفي هذا السياق، فقد شدد بولتون على أن "الأولوية رقم 1" بالنسبة لواشنطن، ستكون تنمية الروابط الاقتصادية مع إفريقيا من أجل خلق فرص للشركات الأمريكية، قبل أن يذكر "الحفاظ على استقلالية البلدان الإفريقية" في إشارة إلى اتهامات واشنطن لبكين بأنها تجعل الدول الإفريقية رهينة لإملاءاتها ورغباتها من خلال ديون ضخمة تعجز الحكومات عن تسديدها أو تسددها بشق الأنفس. أما المحور الثالث في الأولوية رقم واحد بالنسبة لواشنطن فهو الأمن القومي الأمريكي. وهنا يظهر من جديد أن الولايات المتحدة ما زالت تركز بشكل كبير في تعاونها مع إفريقيا على الأمن بدل صب مزيد من التركيز على مجال الاستثمار والتبادل التجاري.
والملاحظ أن أمريكا قد ركزت كثيرا في السنوات الماضية، سيما منذ مجيء ترامب على موضوع الأمن، في وقت ظل التركيز الصيني منذ عقود على الاستثمار والبنى التحتية ومنح القروض التسهيلية لإفريقيا. وقد لخص وزير الخارجية الأمريكي السابق ريكس تيلرسون هذا التوجه قبل جولته في أفريقيا شهر مارس الماضي عندما قال بالحرف الواحد إن "الأمن في القارة يمثل شرطاً مسبقاً لتحقيق المزيد من الازدهار". وقبل جولته الإفريقية، ألقى تيلرسون خطابا في جامعة جورج مايسون بولاية فرجينيا القريبة من العاصمة واشنطن استعرض خلاله العلاقات بين بلاده والقارة السمراء، وخصص جزءا مهما منه للأمن بدل مواضيع التنمية والاستثمار والمبادلات التجارية، كما تحدث في نهاية الخطاب عن المنافسة الصينية، حتى لو كان ذلك بدرجة أقل بكثير من جون بولتون.
أعلن الرئيس الأمريكي الأسبق رئيس جيمي كارتر سنة 1978 أن "أمتنا قد تحولت الآن نحو أفريقيا بطريقة غير مسبوقة". وأكد تيلرسون العام الماضي أن "هذه الإدارة تسعى إلى تعميق شراكتنا مع إفريقيا"، لكن رغم كل ذلك، فقد استطاعت الصين أن تصبح سنة 2009 أول شريك تجاري لإفريقيا، بينما ظلت الولايات المتحدة منشغلة بموضوع الأمن على حساب الاستثمار وتعزيز العلاقات التجارية رغم أن إجمالي التجارة الأمريكية مع إفريقيا ارتفع في سنة 2017 إلى 38.5 مليار دولار، مقارنة بـ33 مليار دولار في العام 2016 حسب أرقام قدمها تيلرسون قبل جولته الأولى والأخيرة إلى القارة.
حسب موقع "bigthink.com" الأمريكي، فإن حجم الاستثمارات الصينية حاليا في إفريقيا يصل 40 مليار دولار، بينما تصل الاستثمارات الأمريكية 58 مليار دولار. إلا أن المستقبل يبدو لصالح الصين، فبينما أعلنت بكين سنة 2014 أنها سوف تستثمر175 مليار دولار خلال السنوات العشر الموالية لذلك التاريخ، تعهدت واشنطن بأن تستثمر فقط 14 مليار دولار.