لا جدال في أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية – دستوريا - في موريتانيا، وأن الولفية والبولارية والسنونكية هي اللغات الوطنية، بالإضافة طبعا إلى اللغة العربية، لأنها لا تكون رسمية حتى تكون وطنية، ولا جدال في أن هذه هي الوضعية الدستورية في كل دول العالم التي تختار لغة من لغاتها الوطنية لتمنحها صفة الرسمية.
وبطبيعة الحال لكل قاعدة قانونية آثار ترتبها، وجزاءات تترتب على مخالفتها، إذ الجزاء القانوني هو الذي يمنح القانون إلزاميته التي هي خاصية من أهم خصائصه.
وربما يفوت على كثيرين ما لقاعدة رسمية اللغة العربية من آثار تمس المراكز القانونية، وتؤثر في الحقوق والالتزامات، وهو ما سنحاول هنا عرضه بكثير من الإيجاز:
1 - المسار الدستوري:
لقد أخذت اللغة العربية في موريتانيا مسارا طويلا قبل أن تصل الى الرسمية، فقد نصت المادة: 3 من أول دستور لموريتانيا وهو دستور 22 مارس 1959 على أن (اللغة الوطنية هي العربية، واللغة الرسمية هي الفرنسية)، وهو نفس ما انتهجه دستور 20 مايو 1961 حيث احتفظ بنفس المقتضى دون تغيير.
ولم تهتم المواثيق الدستورية إبان الأنظمة العسكرية الاستثنائية بمسألة اللغة وبقي الحال على ما هو عليه إلى غاية صدور دستور 20 يوليو 1991 الذي نص في المادة: 6 على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية، وأن اللغات الوطنية هي (الولفية والبولارية والسونونكية).
هذا التدرج الذي أخذته اللغة العربية في طريقها إلى الرسمية والذي بموجبه ظلت اللغة الفرنسية لغة رسمية في البلد أكثر من 30 سنة بعد الاستقلال، رتب آثارا كثيرة وعقبات عديدة حالت دون تبوئ اللغة العربية لمكانتها الجديدة.
2 - لغة التشريع:
لقد ظلت الجريدة الرسمية في البلد – وهي الجريدة المعنية بنشر القوانين، فلا تكون نافذة قبل نشرها بها - ظلت تصدر باللغة الفرنسية فقط الى غاية سنة 1989، حيث أصبحت القوانين تنشر باللغتين العربية والفرنسية.
ورغم أن أول أثر قانوني لدسترة اللغة الرسمية هو جعلها لغة القانون، فأي قانون لا يصدر بها لا يكون دستوريا، بدءا بالقوانين النظامية ثم العادية، ومرورا بالمراسيم وانتهاء بالقرارات والمقررات والتعميمات، غير أنه لاشيء يمنع من نشرها بلغة أخرى.
لذلك نصت القوانين الموضوعية الرئيسية على أن كل غموض في النص الفرنسي يرجع في معناه إلى النص باللغة العربية، نجد ذلك في المادة: 1465 من المدونة التجارية، والمادة: 1179 من قانون الالتزامات والعقود، والمادة: 449 من القانون الجنائي.
ولعل ذلك مجرد أثر من آثار الثنائية التي كانت قائمة قبل دستور 91 التي تجعل من العربية لغة وطنية وتجعل الفرنسية لغة رسمية، والأولى الآن في ظل دستور 91 أن تنشر الجريدة الرسمية باللغة العربية واللغات الوطنية الأخرى، لأن ذلك أدعى لحماية الحقوق الثقافية للناطقين بهذه اللغات، وضمان علمهم بالنصوص القانونية التي لا يعذر بجهلها.
3 - لغة القضاء:
يعتبر الحق في التقاضي من أهم وآكد الحقوق الدستورية، وما دامت اللغة العربية هي لغة القوانين - كما رأينا - فبديهي أن تكون هي لغة القضاء، لكن مع ضمان حقوق الناطقين بغيرها، لذلك نصت المواد: 255 و314 و366 من قانون الإجراءات الجنائية على أن المحاكم ملزمة بالاستعانة بمترجم في حالة ما إذا كان المتهم لا يتكلم العربية - اللغة الرسمية - أو في حالة وجود وثائق مكتوبة بلغة أجنبية.
وقد أصدرت المحكمة العليا في موريتانيا قرارا في عهد الرئيس الأسبق للمحكمة المرحوم القاضي محفوظ ولد لمرابط، وهو القرار رقم: 34/2001 بتاريخ: 23/09/2001 في الملف رقم: 44/2001 قضى بأن اللغة العربية هي لغة التقاضي في موريتانيا، وأنه تلزم ترجمة الوثائق غير المكتوبة بها.
وبناء عليه يكون التقاضي في موريتانيا بلغة أجنبية خرق للقانون يرتب النقض، طبقا للمادة: 204 من قانون الإجراءات المدنية، والمادة: 529 من قانون الإجراءات الجنائية.
وبطبيعة الحال عمليا لغة القضاء في موريتانيا هي اللغة العربية، فبها تحرر العرائض والمذكرات وتقدم المرافعات، وإليها تترجم الوثائق، وبها تصدر الأحكام، فلا إشكال.
4 - لغة الإدارة:
أما بالنسبة للغة الإدارة فالأمر يختلف تماما، لأنه كما تعرفون يقع انفصام تام بين اللغة التي يفرض القانون واللغة التي تستخدم الإدارة.
ولأن اللغة العربية هي اللغة الرسمية كما أسلفنا، فإن القرارات الإدارية الصادرة في موريتانيا والمكتوبة بلغة أجنبية معرضة للإبطال قانونا، لأن عيب الشّكل سبب من أسباب إلغاء القرار الإداري، وذلك عند تجاوز السلطة الإدارية الشكل الذي أوجب القانون.
وهو من وجهة نظر القانون ليس مجرد عقبة أو شكل لا قيمة له، ولكنه ضمانة للأفراد وحرياتهم وحقوقهم، فوصول فحوى القرار الإداري إلى المعنيين به بلغتهم الرسمية التي يفهمون، أو يفترض قانونا أنهم يفهمونها – بحكم الدستور - هو ضمانة أكيدة من ضمانات الحقوق والحريات.
ولكن عيب الشّكل هذا لا يتعلق بالنظام العام - بخلاف عيب الاختصاص مثلا - لأنه إنما قرر لمصلحة المخاطبين بالقرار الإداري، لذلك لا يمكن للمحكمة أن تتصدى له من تلقاء نفسها، بل يلزم أن يثار أمامها من الطرف الطاعن بالإلغاء، وحينها يتعين إلغاؤه.
وقد استقر الاجتهاد القضائي في الأنظمة القضائية المشابهة على اعتبار القرار الإداري الصادر بلغة غير اللغة الرسمية معيبا بعيب شكلي يكفي لإبطاله.
من ذلك مثلا قرار مجلس الدولة الجزائري رقم: 005951 المؤرخ في 11- 02- 2002 عن الغرفة الثالثة، حيث جاء في القرار: (الأصل أن القانون متى ألزم الإدارة بتحرير قراراتها بلغة معينة وجب التقيد بمضمون القانون وإصدار القرارات الإدارية بذات اللغة المقننة، وبما أن الدستور أقر بصريح النص أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية، وحيث إن القرار الطعين صدر بلغة أجنبية...، وبالنتيجة صادق مجلس الدولة على قرار الدرجة الأولى والقاضي بإلغاء القرار الإداري...).
وأيضا قرار محكمة العدل العليا الأردنية رقم: 28/79 الذي تضمن: (إن كتابة أصل القرار المشكو منه بلغة أجنبية يجعله باطلاً، إلا إذا بلغ للمعني باللغة العربية).
ومؤخرا أصدرت المحكمة الإدارية بالرباط حكما بعدم مشروعية استعمال اللغة الفرنسية من قبل الإدارة المغربية وهو الحكم الصادر في 2 يونيو 2017، المؤيد من محكمة الاستئناف الإدارية بموجب القرار رقم: 256 المؤرخ في 31 يناير 2018.
وبالرجوع إلى النظام القانوني للغة الرسمية في فرنسا مثلا، - التي هي المصدر التاريخي لنظمنا القانونية - نجد أن الأمر محسوم قانونيا وقضائيا، ومؤخرا صدر في فرنسا قانون شهير هو القانون رقم: 665 لسنة 1994 يؤكد على سيادة اللغة الفرنسية وإجبارية التعامل بها، باعتبارها لغة التعليم والعمل والمعاملات والخدمات العامة.
بل أكثر من ذلك منع هذا القانون استخدام أي مصطلح أجنبي في المعاملات الإدارية طالما يوجد مصطلح أو لفظ فرنسي يحمل نفس المعنى.
والغريب أن هذا القانون بعد أن تحدث عن إلزامية التعامل الرسمي بالفرنسية، نص على أنها – أي الفرنسية - هي اللغة الرئيسية في دول منظمة لفرانكفونية!! وبطبيعة الحال موريتانيا من الدول المنتمية للمنظمة لفرانكفونية.
ومعنى هذا أن الإدارة في موريتانيا تستجيب لنص قانوني داخلي فرنسي - على الأقل واقعيا - ولا تستجيب للدستور الموريتاني، ما يعرض كل القرارات الإدارية للإلغاء قضائيا متى ما أثير صدورها بغير اللغة الرسمية.
5 - لغة العقود الرسمية:
أما بالنسبة للعقود الموثقة توثيقا رسميا، فقد نص قانون الموثقين في المادة: 45 على أنه (يجب في كل الحالات التي يكون فيها أحد الأطراف أو الشهود لا يتكلم اللغة الرسمية –التي تحرر بها الوثيقة- أن يوجد إلى جانب الموثق مترجم محلف يشرح العمل الذي يجري تحريره، ويترجمه حرفيا، ويوقع بوصفه شاهدا إضافيا، والتوقيعات التي قد تكتب بحروف أجنبية يشهد المترجم ويوقع على صحة كتابتها في نهاية الوثيقة)، وهذا النص مطابق للمادة: 11 من اللائحة التنفيذية لقانون التوثيق بمصر، التي جاء في مذكرتها الإيضاحية أنه: (وبما أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية فقد تضمنت هذه المادة أن يكون توثيق المحررات بهذه اللغة، فإذا كان من المتعاقدين من يجهلها لزم أن يستعين بمترجم).
وتوجد أيضا مقتضيات مشابهة في المغرب والجزائر وتونس وفرنسا وغيرهم، والسبب في ذلك هو أن الموثقين يعطون العقود الصفة الرسمية المميزة لأعمال السلطة العمومية، طبقا للمادة الأولى من قانون الموثقين، وبديهي أن أولى عناصر هذه الصفة الرسمية هي صدور العقود باللغة الرسمية التي أوجب الدستور صدور أعمال السلطة العمومية بها.
وتبعا لذلك لا تكون الورقة الرسمية المحررة بغير اللغة الرسمية صالحة لأن تكون رسمية، بسبب عيب الشكل هذا، وقد نصت المادة: 420 من ق ا ع على أن (الورقة التي لا تصلح لأن تكون رسمية، بسبب عيب في الشكل، تصلح لاعتبارها محررا عرفيا، إذا كان موقعا عليها من الأطراف الذين يلزم رضاهم لصحة الورقة)، ما يفقد العقود الرسمية التي تخلف فيها الشرط الشكلي المتعلق بالصدور باللغة الرسمية حجيتها، لتصبح مجرد عقود عرفية، شرط احتوائها على توقيعات أطرافها، وهو ما استقرت عليه محاكم النقض في الأنظمة المشابهة.
6 - لغة العقود غير الرسمية:
أما بالنسبة للمعاملات والعقود الخاصة غير الرسمية، فالأصل أنها تخضع لمبدأ سلطان الإرادة، ومؤداه خضوع كل عناصر العقد لإرادة أطرافه بما في ذلك لغة العقد.
لكن هذا المبدأ يخضع لاستثنائين:
الأول: أن القانون ألزم في بعض الحالات بكتابة العقود باللغة العربية، كما هو الحال في الاتفاقيات الجماعية للشغل، فقد نصت المادة: 71 من قانون الشغل على أنه (يجب أن تكتب الاتفاقية الجماعية لزوما باللغة العربية).
أما الثاني: فيتعلق بالأثر القانوني لجهل اللغة على العقود، ومن هنا تبرز إشكالية حماية حقوق المتعاقد عندما يكون العقد مكتوبا بلغة لا يفهمها، ويبرز الأمر أساسا في عقود الإذعان التي تكتبها الشركات عندنا باللغة الفرنسية (القروض التي تمنحها البنوك، وعقود فتح الحسابات المصرفية، وعقود الاشتراك في خدمات الماء والكهرباء...الخ)، فيوقع عليها أشخاص أميون في هذه اللغة.
ذلك أن قانون الالتزامات والعقود نص في المادة: 424 على أن: (المحررات المتضمنة لالتزامات أشخاص أميين لا تكون لها قيمة إلا إذا أصدرها موثقون أو موظفون عموميون مأذون لهم في ذلك)، وهو نص مطابق للفصل 427 من قانون الالتزامات والعقود المغربي، والمادة: 454 من قانون الالتزامات والعقود التونسي، ويوجد مثيل له في القانون والجزائري والمصري والفرنسي.
وبالعودة إلى الاجتهاد القضائي في هذا المجال نجد المجلس الأعلى المغربي في قراره رقم: 1908 لسنة 2006 يقرر أن: (الأمي هو الذي لا يحسن القراءة والكتابة باللغة التي حرر بها العقد، ومناط الحماية القانونية المنصوص عليها في هذا الفصل هو جهل الشخص لمضمون الورقة).
وهو تقريبا نفس ما ذهبت اليه المحكمة العليا بتونس (محكمة النقض) في الطعن المدني عدد: 8809 مؤرخ في 20/06/2006 حيث قررت أنه (لا يكون التصريح برضا من يجهل لغة العقد معتبرا، وبالتالي يكون العقد فاقدا لأحد أركانه فيكون باطلا بذلك).
وبطبيعة الحال العقد الباطل لا يرتب أي أثر إلا استرداد ما دفع بغير حق تنفيذا له طبقا للمادة: 319 من قانون الالتزامات والعقود.
7 - إحدى المكونات الأساسية للهوية الوطنية:
إن التعددية اللغوية التي نص عليها الدستور، تعتبر مرآة دستورية للهوية الوطنية، ومحددا قانونيا حاسما من محدداتها، وغالبا ما تشترط القوانين في الحصول على الجنسية المكتسبة إتقان إحدى اللغات المحددة للهوية الوطنية، حتى يتأتى الانسجام بين مكونات الشعب الواحد لذلك كان قانون الجنسية الموريتاني الصادر سنة 61 في ظل دستور 61 الذي يجعل العربية لغة وطنية ويجعل الفرنسية لغة رسمية ينص في المادة: 19 على أنه: (لا يستفيد من التجنيس: من لا يتكلم بطلاقة إحدى اللغات التالية: التكرورية والسوننكية والولفية والبمبارية والحسانية والعربية والفرنسية).
غير أنه بموجب تعديل سنة 2010 لقانون الجنسية - في ظل دستور 91 - أصبحت هذه المادة تنص على أنه: (لا يستفيد من التجنيس من لا يتكلم بطلاقة إحدى اللغات الوطنية (العربية والبولارية والسونونكية والولفية).
8 - المكانة القانونية الدولية للغة العربية:
قبل أن نختم لا بد أن نعرج سريعا على المكانة القانونية الدولية للغة العربية، إذ عادة ما تنال اللغات مكانتها القانونية الدولية من منطلق الحماية الدولية للحقوق الثقافية للشعوب، فبقدر انتشار لغة ما في عدة شعوب، واستقرار العمل الرسمي بها، بقدر ماتنال مكانتها في المنظومة الدولية، ومعلوم أنه يتحدث اللغة العربية في العالم حوالي 250 مليون نسمة، وهي لغة الشعائر الدينية لأكثر من مليار مسلم، بالإضافة الى كونها اللغة الرسمية في كل بلدان العالم العربي.
من هنا جاء اعتماد اللغة العربية في الجمعية العامة للأمم المتحدة كلغة عمل رسمية بموجب القرار رقم: 3190 الصادر في الثامن عشر من شهر ديسمبر سنة 1973 لتكون بذلك إحدى اللغات الست التي تعمل بها الأمم المتحدة، وتطبيقا لهذا القرار أصدر مجلس الأمن في 21 دجمبر 1982 قراره رقم: 528 الذي جعل العربية لغة رسمية ولغة عمل بالمجلس.
وفي نفس الإطار تم اعتماد اللغة العربية لغة رسمية في عديد من المنظمات الدولية والإقليمية، فهي لغة رسمية في المحكمة الجنائية الدولية طبقا للمادة: 50 من نظام المحكمة، لكن دون أن تكون من لغات الترافع التي هي الفرنسية والإنكليزية فقط.
وكذلك هي لغة رسمية في كل من الجمعية العامة والأمانة العامة للمنظمة الدولية للشرطة الجنائية (الأنتربول) طبقا للمادة: 58 من نظام المنظمة، هذا بالإضافة إلى كونها لغة رسمية في منظمة التعاون الإسلامي، والاتحاد الافريقي الذي قرر رسمية اللغة العربية في البند الخامس من المادة: 33 من ميثاق الاتحاد.
ومن الغريب حقا أن موريتانيا احتفظت باللغة الفرنسية في تعاملاتها مع المنظمات الدولية بالرغم من أن مسألة اللغة اختيارية بالنسبة للدول!
والخلاصة أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية في موريتانيا بموجب الدستور، ويترتب على هذه الرسمية أن اللغة العربية هي لغة التشريعات تحت طائلة عدم الدستورية، ولغة القضاء تحت طائلة النقض، ولغة القرارات الإدارية تحت طائلة الإلغاء، ولغة العقود الرسمية تحت طائلة فقدان حجيتها وتحولها إلى عقود عرفية، ولغة العقود غير الرسمية بالنسبة لمن لا يفهمون غيرها تحت طائلة البطلان، فضلا عن كونها إحدى اللغات المكونة للهوية الوطنية التي لا يصح اكتساب الجنسية الموريتانية دون إتقان إحداها، كما أن لها مكانة دولية تساعد على الرفع من شأنها.
لكن تفعيل هذه المكانة وترتيب هذه الآثار يتطلب وعيا بها أولا، وممارسة ما أتاحه القانون بشأنها من دعاوى وطعون ثانيا، بالإضافة الى ترقية استعمالها في مجالي الإدارة والاعمال.