اللائق أن تكون مقرات المحاكم قصورا شامخة تجسد هيبة العدالة، وليس من المناسب ما نلاحظ من وجود بعض محاكمنا وحتى مجلسنا الدستوري اليتيم في منازل خصوصية مؤجرة يستخدم صالونها قاعة للجلسات، وغرف نومها مكاتب لرؤساء تشكيلات الحكم، وقد لا تجد كتابة الضبط إلا التربص في الممر.. هذا وضع غير لائق وإذا جاز داخل البلاد فلا قائل بتقبله في العاصمة حيث واجهة الدولة وأغلب مقرات البعثات والهيئات الأجنبية ولذلك يتعين التركيز على هذا الخلل وحمل السلطات على تغييره ببناء دور مناسبة.
- 1 -
ولا أزال أذكر كيف شعرت شخصيا بالخجل والحرج، منذ سنوات، عندما رافقني موكل ألماني إلى محكمة استئناف نواذيبو التي كانت في منزل قديم وكيف تردد قبل دخول المبنى.. وأقدر أن نفس الشعور ينتاب اليوم المواطنين في نواكشوط خاصة بوجود الأجانب "البرانيين" الذين يمكن أن يحفر في ذاكرتهم مشهد بيت متواضع وقد كتب عليه قصر العدالة!! ألا يكفي، توخيا للصدق وكي لا نعرض أنفسنا للتهكم أن نكتب كعنوان: محكمة نواكشوط..؟.
- 2 -
وبيانا لأهمية المبادرات الشخصية في تغيير الواقع نحو الأفضل وللتاريخ أكتب عن مواقف شخصية قديمة ذات صلة بالموضوع.
في تسعينات القرن العشرين واعتبارا لعدم اتساع قاعة جلسات محكمة نواذيبو تقرر عقد دورة جنائية في دار الشباب، وكنت آنذاك محاميا شابا ومواظبا على حضور الجلسات.. عندما افتتحت الدورة وجلست الهيئة على المنصة المرتفعة فوق مستوى الحضور ساءتني رؤية أرجل القضاة من تحت الطاولة التي يجلسون عليها، وعندما رفعت الجلسة سارعت للسوق واشتريت أمتارا معدودة من قماش أحمر اللون وعلبة من المسامير وقمت، بعد إذن المحكمة، بتثبيت القماش على حافة الطاولة الخشبية مما مكن من ستر أرجل القضاة وأسبغ هيبة على المشهد وبدى متماشيا مع ألوان المحكمة الجنائية.. وأذكر كيف سر رئيس المحكمة بذلك ومع أني لم ألتق ذلك القاضي منذ سنوات إلا أن التصرف بقي محفورا في ذاكرته حيث حدثني مسؤول قضائي سام أنه ذكره له على وجه الاستحسان.
وفي موقف آخر لاحظنا نقص تجهيز قاعة الجلسات وتكسر نوافذها لدرجة أنها أصبحت لا تقي من البرد إن لم نقل إن من يجلس فيها يكون في مهب الريح، فبادرت مع زملائي المحامين في نواذيبو بجمع مبلغ مالي والتعامل مع نجار لصناعة الكراسي وتثبيتها على الأرضية وإصلاح النوافذ والأبواب وطلائها.. حتى أصبحت مقبولة.
- 3 -
وحفاظا على هيبة السلطة ينبغي أن تشيد مقرات العدالة على نفقة الدولة، وعلى أساس نمط عمراني موحد، وأن تسن نصوص تحدد تنظيم قاعة الجلسات ومقاعد قضاتها الجالسين ووضعية وكيل النيابة العامة وكتابة الضبط.
وفي طفرة الحديث عن الإنجازات المبالغ فيها في البنى التحتية (وأقول المبالغ فيها لأن البعض لا يخجل من اتخاذها مبررا للقضاء على الثوابت المدنية في النظام الدستوري) يتعين التنبيه على هذا النقص الكبير.
ومع نهاية سنة وبداية أخرى يجوز لنا التساؤل عما إذا كانت ميزانية سنة 2019 قد بوبت على بناء مقر للمجلس الدستوري وقصور للعدالة في نواكشوط؟