تستعد بلادنا خلال السنوات القليلة القادمة، للدخول في مرحلة إنتاج الغاز، حيث سيصبح ريعه أهم مورد للخزينة العمومية، ولا شك أننا أمام تحديات جسام، تفرض علينا إدارة تلك المرحلة بشكل يُحقق النمو والرفاه ويُجنبنا المخاطر التي غالبا ما تنجم عن سوء إدارة الموارد الطبيعية، وبالأخص النفط والغاز.
من حسن حظنا، أن اكتشاف الغاز في بلادنا، جاء بعد اكتسابنا لخبرة كبيرة، ناجمة عن استغلال موارد مشابهة، مثل الحديد والذهب والنفط، مما قد يساهم إن تم تثمين الدروس المستقاة منه في إدارة فضلى لثروة الغاز.
أهم الأخطاء السابقة
لقد وقعت بلادنا خلال عقود من استخراج الموارد المعدنية في أخطاء وزلات، على غرار معظم دول العالم الثالث نُوجزها فيما يلي:
سوء تقدير الموارد المعدنية الكامنة
إن عدم امتلاك صناع القرار لتقدير موثوق لحجم ونوع الموارد المعدنية، يُقلل من القدرة على التفاوض مع الشركات، هذا فضلا عن الوقوع في فخ القوانين المشجعة للاستثمار، حيث ترجح كفة الشركات لاحتكارها للمعلومات من جهة، واستفادتها من التسهيلات والامتيازات المعطاة من جهة أخرى، إن تجاربنا في إسناد الحقوق المتصلة باستغلال الموارد لا زالت دون المستوى، ولعل منجم كينروس تازيازت أفضل مثال على ذلك.
عدم تعزيز المحتوى المحلي
يقصد بالمحتوى المحلي القيمة التي يُحققها المشروع المعدني للاقتصاد الوطني، بعيدا عن الإيرادات المتوقعة، فمثلا الحرص على استفادة الموردين المحلين واليد العاملة الوطنية تعتبر خير مثال، وغالبا ما تسعى الدول لتعزيزه، مما قد يجعله يتخطى أحيانا الموارد الريعية المتوقعة، وللأسف لم تستطع بلادنا تثمينه بالشكل المطلوب، فمثلا تكتفي الحكومة بالقوانين التي تفرض على الشركات توظيف العمالة الوطنية، لكن تتذرع الأخيرة بأن اليد العاملة الوطنية غير مدربة، وأن الموردين قليلو الخبرة، وأن المنتجات المحلية قليلة الجودة، وفي النهاية يستورد المنجم تقريبا كل شيء، ويمكن الاستفادة من تجربتي أندنوسيا وغانا في تعزيز المحتوى المحلي.
ضعف الاستفادة من سلسلة القيمة
إن الاستفادة القصوى من الصناعات الاستخراجية، تفرض على الحكومات بلورة سياسة ناجعة على طول سلسلة القيمة من المنبع إلى المصب، وللأسف فخلال عقود من استغلال خام الحديد المركز، لم نتجاوز المنبع، فالاكتفاء بتصدير الخام، يعتبر من الأخطاء الجسيمة، أما بالنسبة للذهب والغاز فلم نستفد أصلا بالشكل المطلوب من أهم مراحل المنبع وهي عمليات الاستكشاف، ناهيك عن ضبابية ما بعد الإنتاج.
الرهان على القدرة التشغيلية للصناعات الاستخراجية
تتميز الصناعات الاستخراجية بأنها كثيفة رأس المال قليلة القدرة على التشغيل، فغالبا ما تعول الحكومات على تلك المشاريع وترفع سقف التوقعات، مما يسبب الإحباط لدى الرأي العام، بينما كان على الحكومات أن تستعد لتدريب اليد العاملة لاستغلال الفرص القليلة نسبيا بالمقارنة مع قطاعات أخرى كثيفة التشغيل.
لعنة الموارد (المعروفة أیضًا بمفارقة الوفرة)
يمكن اعتبار لعنة الموارد أحد الأمراض الشائعة في مجال الصناعات الاستخراجية، ونحمد الله، أننا لم نُصب إلا بالصورة الحميدة لهذا المرض، لكن علينا تجنب الأعراض الحادة خصوصا أننا مقدمون على استغلال الغاز وهو مورد كثيف.
يقصد بلعنة الموارد التحدیات الاجتماعیة والاقتصادیة والسیاسیة الكبیرة التي تتفرّد بها البلدان الغنیة بالنفط والغاز والمعادن، فمن الملاحظ أن تلك البلدان غالبا ما تفشل بالرغم من توفر ريوع كبيرة، في تحقيق النمو المستدام والاستقرار السياسي، ويعود ذلك أساسا إلى طبيعة الصناعات الاستخراجية، والتي تزيد من أطماع القوي الخارجية، كما أن سهولة استشراء الفساد تخلق طبقة من المنتفعين تنحو نحو السلطوية، واحتكار المنافع، مما يؤدي إلي تراجع الديمقراطية، وزيادة الهزات الاجتماعية، كما أن طبيعة تمركز تلك الموارد في مناطق محددة يخلق تفاوتا من حيث توزيع الثروة من جهة وتحمل الانعكاسات البيئية من جهة أخرى، وهذا يزيد من حجم الاحتقان الاجتماعي.
تتميز المعادن عموما بالتذبذب في الأسعار، مما يربك الحكومات، خصوصا عندما لا تأخذ بعين الاعتبار للطبيعة الخاصة لتلك الموارد، فكثيرا ما تلجا للإسراف في الإنفاق على المشاريع غير الإنتاجية، حيث تقوم الحكومات مغترة بالريوع الكبيرة بزيادة العلاوات والرواتب والإنفاق العام، وتشييد البني التحتية كالمطارات والملاعب والطرق والتي غالبا ما تعجز عن إكمالها أو حتى إدارتها، وعند تراجع الطفرة تتحول تلك البني التحتية إلى أعباء، فلو أن الاستثمارات في الطاقة مثلا انعكست على سعر الكهرباء لساهم ذلك في دوران العجلة الاقتصادية وكان الاستثمار عندها إنتاجيا؛
يُعد الداء الهولندي أحد الأمراض الشائعة، وقد أصاب اقتصادنا للأسف ولا زلنا في مرحلة النقاهة منه، فازدهار الحوض المنجمي الأخير 2009 - 2015 شكل مصدر جذب للرساميل ولليد العاملة المدربة وتأثرت تلك غير المدربة، مما سبّب تفريغ القطاعات الإنتاجية وأصابها بالركود، نتيجة عزوف الكثير من العمالة عن تلك القطاعات، نظرا لضعف المزايا التي تقدمها مقارنة بهذا القطاع، كما أن التضخم يساهم أيضا في إرباك القطاعات الإنتاجية، وقد تأثرات بشكل كبير قطاعات الأشغال العامة والزراعة والإنتاج الحيواني، مما سبب لاحقا تراجع النمو بسبب ضعف مساهمة تلك القطاعات.
تُعد التحديات البيئية أكثر المشاكل شيوعا عند استخراج الموارد المعدنية، وتنجم عن غياب إدراج البعد البيئي بشكل جدي كمكون أساسي في استغلال تلك الموارد، فمن غير المقبول أن يسبب استغلال مورد نابض ضررا بالغا، ولعل استغلال الغاز في منطقة من أغنى البيئات البحرية في العالم يطرح من التحديات ما يكفي لبلورة سياسية بيئية تنسجم مع حجم التحديات.
تثمين مورد الغاز
لتجنب أخطائنا السابقة، وللاستفادة من تجارب الشعوب والأمم على مدى قرن من الزمن، من المفيد إتباع ما يلي:
- جرد مواطن الشغل المتوقعة وتصميم برامج تدريب ملائمة؛
- تعزيز قدرات الموردين المحلين؛
- الاستفادة من خبرات الدول الرائدة في استغلال الغاز البحري خصوصا في المجال البيئي؛
- إنشاء صندوق سيادي للاستثمار الخارجي؛
- توجيه معظم الريوع للاستثمار في القطاعات الإنتاجية المستدامة ، كتمويل مركبات صناعية زراعية كزراعة قصب السكر مثلا، وخلق قطب لزراعة القطن، حيث يوفر أساس لصناعات النسيج وأعلاف الحيوان، مما سيخلق فرص عمل كثيرة؛
- خلق برامج للدعم الاجتماعي للفئات الهشة؛
- تجسيد مقولة إن الشمس هي أفضل المطهرات، فالشفافية تساعد في حسن تدبير العوائد وإشراك المجتمع في اتخاذ القرارات، مما يقلل من ضغط المطالبات الاجتماعية غير المبررة؛
- تدعيم الاستثمار في مجالي الصحة والتعليم.
إن إتباع سياسة ناجعة لتدبير ثروة الغاز قد يعني ببساطة الفرق بين النعمة والنقمة.