تتطور الأحداث السياسية في البلاد بشكل متسارع، مما يجعل فهم الأحداث الجارية من الصعوبة بمكان، خصوصا وأن ثمة الكثير من العوامل الفاعلة في المشهد يكتنفها غموض كبير، لم أجد ما يفسر غضب الرئيس محمد ولد عبد العزيز، كلما تحدث عن المعارضة، يجف الريق في حلق الرجل، ويظهر ضيق صدره، بما يحمل من هموم، لا يمكن الإفصاح عنها، فيلجأ للإفصاح عن نتيجتها: "مجرمون" "مخربون" في سياق يدعوا فيه للتسامح، ومعالجة الكراهية، موقف محرج، ليس للرئيس وحده ولكن لكامل البلاد.
"غلاف" وديباجة: "أخلاقية" تناقض محتوى مكتنزا في النفس، من جنس الأسرار المضنون بها على غير أهلها: (الإشارة هنا تتعلق بسياق يحق للرئيس فيه وصف من هم في ذهنه ضالعون في حدث ما وقع في تاريخ البلاد، مُوِّهَ وتم تجاوزه، ظاهرا لكنه لا يزال، بحكم معايير البلاط وحتمياته التاريخية، فاعلا مؤثرا مانعا من نفاذ الكثير من الاستحقاقات، المنطقية والطبيعية، داخل النظام، في نظر من يتابع عن بــُـعد، ولكنها بالنسبة للناظر عن قرب في المآلات والمفتش في أحاسيس الصانع الأوحد للقرار، تبقى بالمنطق الموضوعي والتاريخي، من عاشر المستحيلات) الأحداث الجارية لها ارتكاز من هذا القبيل، الأمر مرتبط بالمخاوف الرئاسية حاليا، من خيارات التحالف الانتخابي المعارض الأخيرة بخصوص ترشيح رجل الأعمال محمد ولد بوعماتو.
إن أي لحظة يتخيل فيها الرئيس تحولا من هذا القبيل يجعله مستعدا لمسح الأرض بالبلد وبكل شيء فيه، فضلا عن مقربيه وخلصائه، ويضعه تحت تأثيرِ شُحنٍ من الغيظ المفرط، لا شك أن من يتخذ القرار تحت تأثيرها قد يفعل أي شيء، ولذلك تأملوا الرجل وهو يتحدث عن لحظة افتراق ذهني، تحصل ما بين المتكلم والمخاطب، عندما يستخدم الرئيس "الـ" العهدية (الــــ"معارضة الإجرامية") فالمعهود عندنا ليس ما يقصده الرئيس حصرا وإنما تتسع الذهنية الرئاسية لمعهودات (Focus فـوكيس بلغة التصوير) لا تغيب في سياق المعارضة، في السنوات الأخيرة.
ومع جملة المتغيرات المتواترة بشكل متسارع لا يمكن فهم أي حدث بعيدا عن "المأموريات المقبلة" فإننا لا نستبعد أن فكرة طرح ترشيح بوعماتو من طرف المعارضة، هو جزء من مشروع المأموريات، الذي يُعد أبرز شاغلِ رغم تأكيد الرئيس أكثر من مرة رفضه خرق الدستور والترشح للمأمورية الثالثة.
كما أن موضوع الكراهية الذي زُج به مؤخرا في سياق سياسي لا يتحملهُ يبقى من مُشَـفًّـرات المرحلة فــ"الكراهية" هنا لا تعني معهوده المرتبط بالعنصرية وإنما له تفسير آخر ستفك الأحداث اللاحقة شيفرته للعامة، قبل الخاصة، إن كل ما يجري في البلاد الآن مرتبط بشكل ســُريِّ بالمأموريات، ومبادراتها، وعند الحديث عن المأموريات يمكنك أن تتخيل الرئيس محمد ولد عبد العزيز مفكرا في شأن خياره في الترشيحات مستعرضا مختلف الخيارات، لا يكاد يجد في أحدها مقنعا، له غير بقاء ذاته، فالسلطة من أخص أجناس المكتسبات والممتلكات التي تلاصق النفس وتلابسها بلا انفكاك، وقد قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: "إن أعظم اللذات لذة الأمر والتأمر" أي قيادة السلطة، فهيهات أن تنسل نفسية الرئيس أو تنزع دون ضاغط قوي من داخل المنظومة، تصل درجة ضغطه مستوى الخوف المحقق على النفس ذاتها.
ذكرني ذلك بمضمون تعليق بعض المفسرين على إشارة الآية التي ربطت التأمير والعزل (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ..) فعبرت عن العزل بالنزع كنزع الروح، لتشابههما.
إن مخاوف الرئيس، من تحكم شخص يمكن أن ينقلب عليه، أمر قائم ولا يمكن تقدير قيامه في نفسه إلا من عرف طبيعة السلطة، ومغرياتها ونفوذها وتنافسيتها وغدرها المستكن في نفسيات أصحاب البلاط.
إذا ما أمكن للشخص أن يتصور عبر المونولوج الداخلي للرئيس ولد عبد العزيز فإنه من جنس ما صور شوقي في رائعته عن نبش قبر الفرعون الشاب (توت عنخ أمون) قال:
لَقَد كانَ الَّذي حَذِرَ الأَوالي *** وَخافَ بَنو زَمانِكَ أَن يَكونا
يُحِبُّ المَرءُ نَبشَ أَخيهِ حَيّاً *** وَيَنبُشُهُ وَلَو في الهالِكينا
وفي آخر القصيدة يخاطب شوقي الفرعون الأثير مذكرا بالقوانين الجديدة للشعوب، قائلا:
زَمانُ الفَردِ يا فِرعَونُ وَلّى *** وَدالَت دَولَةُ المُتَجَبِّرينا
وَأَصبَحَتِ الرُعاةُ بِكُلِّ أَرضٍ *** عَلى حُكمِ الرَعِيَّةِ نازِلينا
غير أن التجربة أثبتت بعد شوقي أن للجنوب الواقع خارج الدورة الحضارية لا يزال رهينا لقوانين رمسيس ولم يلج عصر الحداثة والديمقراطية إلا من ناحية القشور.
إن خيار المغادرة في السياق الراهن، إنجاز تاريخي، لأي حاكم ينجزه، لكن المحيطين بالرجل يشدونه لرغبة جامحة، مستولية ينهرها صوت العقل، بزئير كان قويا قبل أكثر من عام ثم ذبل بفعل انكماش عوامل الضغط، المحفزة ولا يستبعد أن يسكن ذلك الصوت ويتوارى نهائيا ثم تستيقظ رمال نواكشوط ذات صباح على أزمة جديدة ربما تطوي صفحة الفريق الحاكم حاليا وإلى الأبد فكثيرا ما طوت مفاجئات التاريخ في لحظة ما رجالا صدقوا ظنونهم ودفنوا عقولهم في الرمال.