حديث "القلب" و"العقل" في رئاسيات 2019
(الليلة الثالثة: 16 فبراير 2019)
من تولبير وتايلور إلى المرشح بيرام (2)
محمد الأمين ولد أبتي - كاتب وباحث - leminebety@yahoo.fr
من الحلقة الأولى:
خلاصة الأطروحة التي توصلنا إليها. تقوم على اعتبار الوثيقة المعنونة بـ"ميثاق من أجل الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية للحراطين ضمن موريتانيا موحدة عادلة ومتصالحة مع نفسها" الصادرة يوم 30 إبريل 2013 خطوة متقدمة على درب الجهد الوطني الداخلي للقضاء على العبودية ومعالجة آثارها، والجمع بين البعدين الحقوقي والتنموي. كما تقوم بالمقابل على اعتبار تأسيس "مبادرة انبعاث الحركة الانعتاقية" يوم 15 نوفنبر 2008 إطلاقا لمسار التدويل والمتاجرة الخارجية بهذا الملف وتحويله إلى آلية للابتزاز السياسي الخارجي للبلد، مع فتح مجال للتعامل السري والسمسرة غير الشفافة مع الأجهزة الأمنية وأجنحة السلطة، ومنح الأولوية المطلقة للبعد الحقوقي مع التسييس والشحن الفئوي، وتحويل الأنظار عن هموم التنمية المحلية للشريحة و لـ"آدواب" وروابط التنمية المحلية فيها.
-------------------------
إعلان "الانعتاق" من منظمة أسسها من عرف "الانعتاقية" اجتماعيا وسياسيا منذ نعومة أظافره، وتسفيه ماضي "حركة الحر" أم الحركات المناضلة في هذا الملف، من طرف شخص لا يشهد له ماضيه بالانعتاقية الاجتماعية ولا السياسية، لأشبه ما يكون بـ"التجنبير على التجنبير". وهذا الخيار لا يمكن أن يقود إلى شيء آخر غير العودة إلى إقطاعية الأسياد أو تغيير الأسياد بأسياد جدد، وكلها خيارات معروفة في العهود الإقطاعية. نوع من "التغيير في ظل الاستقرار" و"الخروج من عبودية إلى عبودية أخرى" (قد نجد إضاءة لبعض هذه المفاهيم في الجزء الثاني من هذا المقال).
الحلقة الثانية :
خصصت الصحفية الفرنسية المقتدرة "فاليري نيفلون" Valérie Nivelon حلقة الأحد 3 فبراير 2019 من برنامجها "مسار العالم" La marche du monde في إذاعة فرنسا الدولية، لـ"ليبيريا، حلم السلم والحرية المثخن بجراح سنوات الحرب والعبودية". وكان ضيف الحلقة الخبير الفرنسي"تييري بولي" Thierry Paulais، المختص في شؤون التنمية المحلية والتنمية في إفريقيا بصفة عامة، وهو مؤلف كتاب "ليبيريا تاريخ فريد". وقد أعادتني هذه الحلقة إلى الذكريات الحزينة لسنوات المجازر والحروب الأهلية التي هيمنت في هذه المنطقة من القارة في تسعينيات القرن الماضي، منطلقة من "مونروفيا" و"كيبتاون" ناشرة الرعب والدمار في "كيغالي" و"كنشاسا"، ومختلف مناطق القارة.
وإذا كانت ليبيريا قد عرفت العنف والتصفية العرقية كممارسات داخلة في أس وجوها كدولة، فإن من تولى كبر إشعال فتيل هذا العنف المعمم كان الرقيب "صمويل دووي" قائد الانقلاب الدموي لليبيريين الأصليين عام 1980، عندما قتل ليلة الانقلاب الرئيس "تولبير" وقائد الحرس الرئاسي، ليلحقهما بعد أيام بجميع أعضاء الحكومة الذين أعدموا رميا بالرصاص في حفل جماهيري نظم على شاطئ مونروفيا. بعدها حمل "تايلور" قائد المتمردين المنحدرين من أصول السود الأمريكيين المشعل وقتل "صمويل دووي" ثم أعلن نفسه فائزا بالانتخابات التي نظمها عام 1987، ليعمل على تحويل الحرب الأهلية الليبيرية إلى حرب إقليمية طحنت السيراليون مع ليبيريا، وذلك قبل أن ينتهي به المطاف في محكمة الجنايات الدولية محكوما بالمؤبد. وهو الحكم الذي ما يزال يقضيه في سجن بريطاني.
قصة ليبيريا - هذه الدولة الصغيرة بـ5 مليون نسمة كما قدمتها بشكل مركز نيفلون بمشاركة ضيوف حلقتها - بدت لي مهمة الاستدعاء في النقاش الذي يواجهنا نحن في موريتانيا، بفعل العلاقة الإشكالية لهذه الدولة بسؤال العبودية. هذه العلاقة التي يلخصها التقابل بين الرؤية الإيديولوجية النظرية التي يلخصها الشعار الوطني للدولة: "حب الحرية دفعنا إلى هنا"، وبين الممارسة العملية للمجتمع والدولة التي تتجلى في واقع كون هذا الـ"هنا" – أو الوطن المشار إليه في الشعار- كان فيه سكان أحرار تمت تصفيتهم ومنعوا من أبسط حقوق المواطنة والتصويت وتملك الأرض، من طرف أولئك المستوطنين الباحثين عن أرض "الميعاد" مع الحرية.
ليبيريا تهمنا، تلهمنا وتوجه إلينا رسائل بما هي مثال لحالة يكون فيها التحرر من العبودية مدخلا للاستعباد والتصفية العرقية بأبشع أشكالهما. بما هي مثال لحالة يكون فيها استعباد الأسود للأسود أسوأ أشكال الاستعباد، وتتجلى فيها الحرية والعبودية كما هما على حقيقتهما بدون لون، ويبدو فيها أن معركة الحرية والكرامة قد تكون مدخلا مباشرا للتضحية بمطالب التنمية والأمن والتعايش السلمي.
ولدت ليبيريا - التي قال عنها "تييري بولي" بأنها دولة فريدة وأنه لا توجد دولة في العالم تمكن مقارنتها بها - عام 1822 كمستوطنة - دولة أشبه ما تكون بنظام الإقطاعيات. وجاء قيامها تتويجا لجهود "جمعية الاستعمار الأمريكية" التي كان من بين الرؤساء الأكثر دعما لها الرئيس الأمريكي الخامس "جيمس مونرو"، الذي تم إطلاق اسمه على العاصمة مونروفيا. وفي أصل أهداف هذه الجمعية إيجاد وطن في إفريقيا للعبيد المحررين، لما يشكله بقاؤهم في أمريكا من خطر على استقرار النظام العبودي فيها، ونشر المسيحية في إفريقيا اعتمادا على قساوسة ومبشرين من السود. وذلك قبل أن ينضاف هدف آخر هو إيواء العبيد المحررين من السفن التي واصلت تجارة الرقيق باتجاه البرازيل ومناطق أخرى رغم الحظر الدولي لهذه التجارة، وهي المجموعة التي ستعرف فيما بعد بـ"القوندوز". وفي عام 1847 قامت المجموعات القيادية من السود الأمريكيين بإعلان استقلال الدولة وإقامة نظام جمهوري رئاسي بدستور مشابه للدستور الأمريكي.
لكن بداية القرن العشرين عرفت تطورا مهما، هو دخول "ماركيس كارفي" على الخط، وهو أحد أبرز رموز النضال التحرري للسود في أمريكا والعالم. وقد أسس عام 1917 "الجمعية العالمية لتحسين ظروف السود"، وتبنى خيار العودة إلى إفريقيا كحل وحيد لمشكلة السود الأمريكيين، وذلك في مواجهة قيادات أمريكية سوداء أخرى تعارض ذلك وتعتبر النضال من أجل المساواة والاندماج في المجتمع الأمريكي هي الحل الوحيد. وتجسيدا لحلم العودة قام "كارفي" بجولة في مختلف الولايات لنشر أفكاره، وإعلان تأسيس "شركة خط النجم الأسود" التي ستفتح خطا بحريا لنفل العائدين إلى ليبيريا. وكانت تلك الجولة مناسبة لجمع الأموال من السود الأمريكيين تحت عنوان شراء أسهم والدخول كمساهمين في الشركة المذكورة.
لكن الرجل فقد السيطرة على المبادرة التي تحولت إلى وقود إيديولوجي لتبرير أعمال الترحيل القسرية لكل السود الذين يشكلون خطرا على استقرار النظام العبودي الأمريكي. وبالمقابل أفلس المشروع تجاريا وتورط "كارفي" مع المساهمين، وانتهى به المطاف إلى الترحيل إلى جمايكا بلده الأصلي بعد الحكم عليه بالسجن في قضايا مالية. والغريب أن الرجل اتهم من طرف قيادات كثيرة من السود الأمريكيين بالتورط مع منظمات البيض العنصرية، بما فيها الـK.K.KKa Klux Klan - أكثرها دموية وعنصرية.
بكل الأحوال اكتملت على الضفة الأخرى أركان الجمهورية بعد الحرب العالمية الأولى، عندما ضخت الولايات المتحدة الأمريكية أموالا أكثر لدعمها لأسباب متعددة، وقوي فيها نزوع الكنيسة لتدعيم الجهود التبشيرية، واعتمدت أكثر فأكثر على الخطاب الإيديولوجي القومي الإفريقي. هنا بدأ النسيج المجتمعي يتشكل في ظرفية غاية في التعقيد. ذلك أن السؤال الاجتماعي كان غائبا أو مغيبا في مجموع هذه الإرادات المتعارضة، التي تضافرت - رغم كل تناقضاتها - حتى خرج إلى الوجود هذا المولود السياسي الشائه الغريب.
القائمون على الجمعيات الاستعمارية والاستعبادية الأمريكية ما كانوا ليسألوا عن طبيعة المجتمع القائم في المنطقة قبل وصول المستوطنين السود العائدين من أمريكا أو من ظهور سفن تجار الرقيق، بعد أن وصلوا إليها من مكان ما في إفريقيا لا يعرفونه ولا تهمهم معرفته. أما المنظمات التنصيرية، فهي تعرف فحسب أن المجتمعات الأصلية مجتمعات مسلمة أو وثنية غير مسيحية وحقها إن لم تدخل المسيحية هو الجحيم. وما بالنسبة للمناضلين القوميين السود فالمهم هو ابتعاد السود عن المجتمع العبودي الأمريكي وحطهم الرحال في مكان ما في إفريقيا. وبالطبع فإن هذه الزعامات القومية السوداء متأثرة بالمدنية الغربية ومسكونة هي الأخرى بالخطاب الديني المسيحي، ولذا كان من السهل عليها اعتبار ذلك الوطن الموعود كما لو كان أرضا بلا سكان، ما دام سكانه شعوبا غير مسيحية وغير متحضرة.
النتيجة التلقائية كانت حصر حق المواطنة في حدود السود ذوي الأصول الأمريكية ومعهم المحررين من سفن تجارة الرقيق المعترضة بعد تنصيرهم ودمجهم، ليتعايش على نفس الأرض مجتمعان متجاوران يقوم كل منهما على اعتبار الآخر غير موجود. هنا المجتمع الساحلي المكون من الوافدين ونظامهم الحديث وديانتهم المسيحية وهناك في المناطق الداخلية السكان الأصليون ومؤسستهم التقليدية وتنظيمهم الديني والتربوي الخاص.
لكن تنامي حاجة الطرفين إلى بعضهما فتح المجال لديناميكية من الانفتاح المتبادل، تناولها بالشرح البرنامج الإذاعي المنوه عنه. فمن جهة السود الأمريكيين الوافدين قاموا بفتح المجال أمام السكان الأصليين للحصول على وثائق المواطنة والتملك والتصويت بمجرد الحصول على مباركة الكنيسة وحمل اسم مسيحي. وكان ذلك يقدم تحت عنوان التأهيل والتمدين. وهنا بدأت أمواج المهاجرين من السكان الأصليين تتدفق نحو مونروفيا ومدن الساحل الأخرى بعد أن كانت محظورة عليهم دون الحصول على تأشيرة دخول.
بالمقابل بدأ يتطور اتجاه لدى السود الوافدين يحاول الحصول على مباركة نظام التربية والدمج الاجتماعي الخاص بالمجتمع التقليدي. ومن أبرز تجليات هذه الديناميكية أن "البورو" - وهي المؤسسة السرية الرئيسية المتحكمة منذ القرن الخامس عشر في النسيج الاجتماعي لمعظم دول المنطقة - قد عرفت إقبالا من القادة السياسيين الجدد على طلب مباركتها، سعيا إلى قطف ثمار ذلك من جهة الدعم الشعبي والانتصارات السياسية.
والفكرة الأساسية في ثقافة "البورو" تقوم على أن القوة والنفوذ تصدر عن تأثير قوى العالم اللا مرئي، الذي يفعل فعله دوما من خلال طقوس ومواضيع رمزية مرئية وملموسة. والتربية المجتمعية الممتدة على فترات طويلة من عمر الفرد هي وحدها الكفيلة بالرقي به من حالة الطفل إلى حالة الراشد ورتبة الشيخ المزود بعوامل القوة والقدرة الغيبية. وبدون ذلك يظل الشخص طفلا مهما تقدم في السن، ولا يستطيع النفاذ إلى دائرة الأسرار الخاصة بالراشدين والشيوخ. وفي بعض الحالات تتطلب الطقوس التقليدية لـ"البورو" تقديم قرابين لقوى العالم السري يعتبر الدم البشري هو الأكثر قوة وفعالية فيما بينها.
وقد تطور بتسارع ابتداء من أعوام 1930 و1940 توجه نحو اندماج المترشحين في الانتخابات في نظام التربية الخاص بمجتمع "البورو" التقليدي. وبما أن هذا النظام التقليدي يفترض المرور بمسار طقوسي يحتاج إلى سنوات طويلة، وهو وقت لا يتناسب مع المتطلبات المستعجلة للذين يريدون السلطة الآن وفورا، فإن الاتجاه كان هو حرق مراحل التربية والنفاذ مباشرة إلى القوى العليا في العالم الغيبي بواسطة القرابين، وأعمال السحر التي يستخدم فيها الدم البشري. ووفقا لما توصل إليه الباحثون من معطيات في أرشيف منروفيا والأرشيف الأمريكي، كانت مختلف الدورات الانتخابية تترافق مع اختفاء بعض الأشخاص من الرجال والأطفال والنساء يعتقد أنهم يقتلون، وأن دماءهم تصنع منها أدوية وتستخدم للتواصل مع قوى العالم الغيبي واستجلاب تأثيرها لصالح بعض السياسيين.
ويعتقد أن مباركة الكنيسة ومباركة شيوخ "البورو" كانت تعضدهما ديناميكية موازية بينها تقاطعات كبيرة مع هذا النظام السري لـ"البورو" تتمثل في التنظيم الماسوني العالمي. وقد يكون الرئيس "تولبير" المقتول من طرف "صمويل دووي" - أحد أطول الرؤساء الليبيريين حكما - نموذجا للحالة الأكثر تقدما في مسار هذه الديناميكية المسرعة للدمج الاجتماعي للنخبة السياسية عبر حقنها بحقن من مختلف مصادر الشرعية السرية المنوه عنها. لقد كان تولبير قسا ورئيسا لكنيسة، صاحب مقام سام في المحفل الماسوني إضافة إلى كون أخيه برتبة أستاذ في المحفل المذكور ومن جهة أخرى كان يحظى بأعلى الرتب في النظام التراتبي للبورو. ما يعني وصول السلطة إلى أعلى درجات التركيز في يد الحاكم.
هذا الإقصاء المؤسس للدولة في ليبيريا عندما وصل إلى الدرجة العليا من التحكم والمركزة، كان السود الأصليون قد أصبحوا حاضرين في الجيش وفي بعض مفاصل الحكم، وبالتالي لم يكن غريبا أن يحدث ما حدث عام 1980 من مبادرة عسكري من الرتب الدنيا إلى الانقلاب على السلطة، والتصفية الانتقامية البشعة للرئيس تولبير وأعضاء حكومته. وأن تشتعل أجواء مونروفيا بالرصاص احتفالا بنجاح الانقلاب من قبل السود الأصليين. احتفالات لم تدم طويلا لأن البلاد دخلت مباشرة الحلقة المفرغة لـ"حرب الكل ضد الكل"، التي استمرت إلى حين تدخل القوات الأممية وتنظيم الانتخابات التي حملت إلى السلطة الرئيسة "جونسون سيرليف" عام 2005.
فقط من المهم التشديد على أن هذا المسار التحرري للسود من العبودية في أمريكا ومن القيود على ظهور السفن العابرة نحو البرازيل، وبالرغم مما قاد إليه من استيطان لأرض سود آخرين ومن استغلال واستعباد لهم، لم يتخل أصحابه يوما عن هذه القومية التحررية الرومانسية، الممزوجة بالخطاب الديني المسيحي. ها هو "تايلور" - أبرز "القتلة والقناصة المهنيين" وزعماء الحرب الأهلية - يقول في خطابه بمناسبة الفوز في انتخابات 1987، ناسجا على منوال "مارتن لوثر كنغ": "الليبيريون ينبغي أن يروا ما هو أكبر وأكبر.. ينبغي أن يناضلوا ويثقوا .. الحد الوحيد هو السماء".
لحسن الحظ فإن الشعب المطحون في أتون هذا الجحيم من العنف الأهلي ومن الخطابات المتطرفة التي تسد كل أفق للخروج من دوامة العنف أخذ يتحرك. والغريب أن النساء كن في غرفة قيادة السفينة إلى بر الأمان. وفي هذا السياق تستحق واحدة بعينها تحية خاصة. نقصد "ليما بووي" Leymah gbowee رئيسة حركة النساء الليبيريات من أجل السلم، التي قادت نشاطا مكثفا لوضع حد للحرب الأهلية عام 2003، مع العلم أنها من الليبيريين الأصليين. ومن أقوى النشاطات التي قادتها "الإضراب عن الرجال" عام 2002 الذي شاركت فيه النساء الليبيريات من جميع الأديان، وكان مصحوبا بنشاط مكثف من الاعتصامات في الشوارع والأسواق، وامتنعن خلاله عن معاشرة الرجال لحين توقف الأعمال القتالية. وهذا ما دفع تايلور إلى استدعائها للمشاركة في المفاوضات الممهدة لاتفاق السلام النهائي.
وقد أوردت "نيفلون" في برنامجها فقرات ذات دلالة خاصة من تصريحات لـ"ليما بووي"، تتبنى فيها أطروحة مقتضاها أن القادة العسكريين والسياسيين هم الذين يقسمون المجتمع، وينشرون فيه خطابات البغضاء والكراهية التي لا يعرفها. تقول: "عندما وقع الانقلاب كان عمري 13 سنة.. الانقلاب لم يكن سببه الصراع بين ليبيريين من أصول مختلفة، وإنما واقع كون النظام كان قد أصبح قاسيا على الشعب.. لحين قيام الحرب الأهلية لم أكن أحس بالصراع بين ليبيريين من أصول أمريكية أو ليبيريين من أصول محلية.. فعلا كان هنالك أشخاص أكثر ثراء من آخرين في بعض الفئات.. لكنني كنت أعتبرهم أشخاصا ذوي علاقات ووسائل أكثر من أسرتي". وتقول: "ما يحز في نفسي أكثر هو أننا يوم كنا صغارا كانت أسرنا تحمينا من الخطاب العنصري.. بينما اليوم تجد الناس يفخرون بوضع الأطفال، أصغر ما يكونون، في مواجهة بعضهم بعضا.. لقد كنت من مجموعة علمتني تقاليد التعايش السلمي والتضامني، وربتني على فكر الوحدة ورفض التقسيم".
هذه الكلمات أهديها للمناضل الحقوقي، السائر على درب "مانديلا" و"مارتن لوثركنغ"، بيرام ولد الداه ولد اعبيدي. إنها لسيدة سوداء، كان قبيلها ضحية الظلم والقهر، لا من طرف بيض غربيين ولا بيظان بيض بل من طرف سود آخرين، يدعون مثل "بيرام" أنهم يسيرون على خطى لوثركنغ. سيدة لا تطالب بأي انتقام من المظالم التي وقعت على أهلها، وتكتفي بالمطالبة بالتعايش السلمي، وتربية الأجيال على ذلك. والتوجه بمواطني بلدها مجتمعين نحو العمل المشترك لتحقيق التنمية والسلم الأهلي. وبعد أن قادت بلدها بنجاح إلى اتفاق السلام، اكتفت بمنصب منسقة الحوار الوطني.
ليت "إيرا" تتحول إلى حركة للدعوة إلى نبذ الكراهية والتعايش السلمي بين مكونات الشعب الموريتاني. وتتجه إلى التنمية المحلية لهذه الفئة التي تدافع عن حقوقها.
- لماذا يترك "بيرام" مساعدين له - من أمثال براهيم ولد بلال محمد فال ولد سيدي ميلة - ممن ليست لديهم تمويلات ولا هيئات دولية داعمة كتلك التي تقف وراءه هو - يستقيلون من حركته ليتفرغوا للعمل التنموي للحراطين، بينما يحبس هو نفسه في معارك سياسية وحقوقية ذات طبيعة صدامية وعنيفة، كان يمكن لما ينفق فيها من موارد أن يحل الكثير من مشاكل التنمية لفقراء لحراطين؟!
- لماذا يصر على الحديث عن "لحراطين" كعبيد سابقين ويحرص على سجنهم في هذا الماضي لتشريع نضال يتجلى يوما بعد يوم أنه نضال شخصي وذاتي له هو وحده. نضال بدل أن يقوده إلى التجول بين آدواب في موريتانيا الأعماق، ها هو يوفر لصاحبه سياحة مجانية بين روما وبروكسل والعواصم الغربية الأخرى؟!
- ألا يمكن القول إن الصعود السريع للظاهرة "البيرامية" على حساب "حركة الحر" و"نجدة العبيد" و"التحالف الشعبي التقدمي" و"ميثاق لحراطين" و"هيأة الساحل"، أقرب إلى صعود السود الأمريكيين المحمولين فوق السفن والممولين من الخارج على حساب سود الداخل ومناضليه الأصليين والتاريخيين؟!
- ألا يمكن اعتبار الزواج بين القومية الإفريقية "الفلامية" والقومية العربية "البعثية" داخل حركة بيرام وبين الخطاب الحقوقي الديمقراطي الإنساني لليسار الأوربي والأمريكي وبين الخطاب اليميني المسيحي واليهودي الماسوني في أوساط الداعمين الدوليين لهذه الحركة، شبيها بالالتقاء بين الجمعية الأمريكية للاستعمار والرؤية القومية الإفريقية لـ"لويس كارفي" والكنيسة المسيحية والمحفل الماسوني وشيوخ "البورو" في دعم وتأييد قيام واستقرار حكم السود ذوي الأصول الأمريكية في ليبيريا؟!
- أليست عمليات المجابهة العنيفة مع قوى الأمن حول دعاوى استرقاق - أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها مشكوك فيها - وهذا البذل لقصارى الجهد لدفع السلطات لتوقيف "بيرام" ومحاكمته في ظل تغطية إعلامية غير مسبوقة، حقنا و"رقى" لتسريع عملية صعود "الظاهرة البرامية" في خريطة نضالية لم يكن لها فيها وجود؟!
- أليست هذه الحركات التي بلغت قمتها في "المحرقة" أعمالا تنتمي إلى دائرة السحر وقرابين الدم السرية التي رأيناها مرافقة للانتخابات في ليبيريا؟!
في الختام نطالبك يا "بيرام" بإخماد هذه النار التي أشعلتها في الكتب، وتقديم أدلة جدية على أن المقصود لديك لم يكن إحراق المجتمع والدولة. لأن حرق الأفكار إنما يتم بأفكار أقوى منها، بحجج وأدلة نقدية ومن خلال بناء فكر بديل. وإذا كان ما تظهره من قدرات علمية على المجادلة في أصول الدين وأعمق مستويات الفكر النقدي التحليلي موجودا لديك بالفعل، فهيا بنا إلى النزال في تلك الساحة، ودعك من "علب الثقاب".
أما إذا كنت تحلم بالسلطة كي تعيدنا إلى عصر "محارق المرابطين والموحدين" التي اجتزأتها من التاريخ بعناية، غاضا الطرف عن محارق العلماء والمفكرين في ظل "محاكم التفتيش الكنسية"، وأنت المعمد اليوم في جامعة كاثوليكية، فتلك حكاية أخرى.
أم تريدنا أن نعود إلى سياسة الحرق والمصادرة للفكر الذي عاشتها الصين في ظل الثورة الثقافية، وبالكاد تمكنت بعض الدول العربية من التحرر منها. وما تزال الكثير من الدول إلى حد اليوم ترزح تحت ظلها.