عرفت المستشفى الوطني بانواكشوط ـ مركز الاستطباب حاليا ـ منذ السبعينيات، وفي أطوار وأنظمة مختلفة.
وأشهد أنني لم أره أسوأ خدمات ولا أشد إرهاقا وخيبة منه هذه الأيام!
صحيح أن مستوى النظافة والمناظر، قد تحسن، وتوسعت البنايات، وازدادت الأجهزة وتطورت...
لكن حين ينزع الله البركة من البحر يصبح سبخة جرداء، وحين يسوء التسيير ويستشري الفساد... لا ينفع شيء!
*
جلبة وزحام عند باب "المستعجلات". وفي الداخل لا ترى ممرضا إلا شاردا معانقا هاتفه أو ملجوما بحباله، أصم أبكم أعمى... كأنما يطلب ثأرا من أحد ما!
أما الطبيب فيذكر ولا يرى! وحين يبرز يطارده المنتظرون المكلومون بآلام أحبتهم، فلا يستقر في مكان؛ وهم ينوشونه:
... أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر!
وإذا جلس إلى ما يسمى ـ مجازا ـ مكتبه، فهو في فقر مدقع لا يملك وسيلة غير قلم سريع إلى خزائن الصيدليات (إلا صيدلية المستشفى فهي خاوية ليس فيها إلا متكآت للنوم) يكتب في وجوم، حتى لا أقول عبوس ـ دون "هدر" دقيقة في معاينة المريض وتقصي إصابته... فيوقر ظهر المُعاني بتكاليف ما يلزم وما لا يلزم: من القفاز إلى سكانير؛ وما أدراك ما اسكانير ثم ما أدراك ما اسكانير!
سمعت يوما ظريفا يقول إننا في "جمهورية سكانير"، لأن أهل السياسة يقولون إن هذا النظام لم يجد لدى الدولة جهاز اسكانير واحد، فأغرقها بأجهزة سكانير!
لكنه على ما يبدو غرق في العرق... من أجل الحصول على كشف بهذا الجهاز... الذي في كثير من الأحيان إما عاطل وإما معطل!
*
أما أمس في الحالات المستعجلة، فقسم الأشعة وسكانير خال، موصد الأبواب...
يقول الفني: من أراد الكشف المحوري، فعليه التوجه إلى سكانير الآخر داخل المستشفى.
ولأن "المدير" أغلق أبواب الخدمة بين قسم الطوارئ والمستشفى، ووضع المفاتيح في جيبه ـ على حد تعبير كبير الحراس وبشهادة الطبيب ـ فإنه على المريض الملقي أن يخرج محمولا إلى سيارة الأجرة لتنقله إلى المستشفى عبر البوابة الرئيسية، ثم يعود بنفس الطريقة إلى الطوارئ إذا حالفه الحظ وحصل على كشف "اسكانير" أو حتى الأشعة السينية!
*
أغرب شيء رأيته هنا هو طريقة نقل قوارير عينات الفحص من الدم أو غيره بين أقسام الحجز المؤقت أو الدائم وبين المختبر... حيث يُكلف ذوو المريض بنقلها بأنفسهم، معرضينها في زحمة السير والدخول والشمس... للتلف والسقوط والفتح...
وباستغراب يقول فني المختبر، عند العثور عليه: هذا خطأ وقد أخبرناهم بذلك، لكنهم لا يسمعون!
*
بالمختصر، هناك مستشفى كبير، ونظيف؛ ولكنه خال من الإنسانية والعناية بالمهنة الطبية، ومن الأدوات البسيطة...
والأطباء واقعون بين سندان إدارة لا تعرف الرحمة ولا الشفقة، وجمهور فوضوي لا يعرف كيف يتصرف إزاء آلامه وأمراضه، والإيغال في احتقاره وتفاهته وهوانه على سلطاته.
مع هذا كل شيء هنا لا بد أن يدفع ثمنه مقدما نقدا وعدا، وبأسعار إن كانت أقل من أسعار العيادات الخصوصية، فهي باهظة ومرهقة، بل ومعجِزة لمعظم المواطنين الفقراء... وهم وحدهم "زبائن"، أو رهائن، الطب العمومي!
*
بعد ذلك يستغرب البعض وقوع الأخطاء الطبية القاتلة، ويستنكر لجوء الناس إلى الخارج طلبا لعلاج أمراض بسيطة!
*
أخيرا لا تخطئ العين أعمال إنشاء أو صيانة، صغيرة أو كبيرة، هنا وهناك تسهم في الإزعاج، وتظهر "العناية" بالمرفق... لغير العارفين بعالم الصفقات...!!