تلوح في الأفق بوادر ستشكل عالما جديدا فمن: حركة السترات الصفر في فرنسا معقل الديمقراطية.. إلى تقهقر أمريكا عن قيادة العالم.. فظهور دولا صاعدة كاسرة بذلك حاجز القطب الأوحد الذي ظل محتكرا لهذه المكانة طيلة العقود الماضية...
إذا رجوعنا إلى الواقع العالمي الذي تشكل بعد الحرب الباردة فإننا نجد أن سقوط الإتحاد السوفياتي لم يكن يعني مجرد سقوط نظام في الحكم معين، ولا مجرد انحلال تكتل بين دول، ولا مجرد تفتت معسكر يتحدد بكونه يشكل حلفا بين دول، ضد حلف آخر يتشكل من دول أخرى، بل لقد كان سقوط الاتحاد السوفياتي يعني أيضا، وربما في الدرجة الأولى سقوط نظام اجتماعي واقتصادي وفكري، نظام كان يطرح نفسه كمشروع ضروري للمستقبل:
بمشروع حضاري جديد، هو ما عبر عنه بـ((النظام الاشتراكي العالمي)، وقد كان يبشر بعلاقات إنتاج جديدة، وبنظام سياسي محلي ودولي جديد، وبإيديولوجيا جديدة، بمعنى تاريخ جديد للإنسانية...
وقد دخل كما هو معروف في صراع مع النظام الرأسمالي، القائم آنذاك...
وكان الصراع بين النظامين يشمل الاقتصاد والسياسة، والقيم والفكر والعلاقات الدولية.. إلخ وبما أن هذا الصراع لم يتطور إلى صدام مسلح على غرار الحربين العالميتين، بسبب الرادع النووي لدى الطرفين، فقد اكتسى صيغة صراع حول المناطق الإستراتيجية ومواطن الثروة، وأيضا صيغة صراع إيديولوجي استعمل فيه الدين والعلم والثقافة بصورة عامة..
إن سقوط أحد طرفي هذا الصراع، كان بدون شك (انتصارا) للطرف الآخر، ولما كان المعسكر الرأسمالي هو المنتصر فإنه لم ينظر إلى هذا الانتصار على أنه انتصار من نوع خاص، فهو لم يكن نتيجة مواجهة يتحمل فيها كل طرف نسبة من الخسارة، ولا نتيجة معاناة تحمل كل طرف على التكيف مع مجريات المعركة ونتائجها، مما كان لا بد أن ينتج عنه تغيير على هذه الدرجة أو تلك في كيانهما ورؤاهما وأساليب عملهما، كلا !
لقد كان انتصار مجانيا، بدون ثمن...
كان في الحقيقة إلغاء للمباراة قبل إجرائها، بسبب انسحاب غير متوقع لأحدى الفريقين لقد انهار الاتحاد السوفياتي ومعه المعسكر الشيوعي..
أما المعسكر الآخر فقد بقي كما هو بكل عدته العسكرية والاقتصادية والإستراتيجية والعلمية والفكرية، وأيضا بقي في حالة تعبئة وتجنيد، ولكن بدون عدو.
لقد خلت له الأرض وخلا بها، فصار وحده يطلب الطعن والنزال.. ولكن مع من؟ بمعنى أن أمريكا أصبحت تبحث عن عدو يحفظ لها توازنها وتأتي أحداث الحادي عشر من سبتمبر والأحداث اللاحقة لتجد فيها أمريكا ضالتها المنشودة كذريعة لمحاربة لإسلام وإن اختلفت التسميات التي تتخفي وراءها: إرهاب، تشدد، اعتدال...
فبما أننا قضينا على الشيوعية أو كما يسمى الخطر الأحمر، فقد آن الأوان للقضاء على الإسلام الخطر القادم.. وهذا ما يتكرر في كل مرة...
كنت قد كتبت مقالا حول هذا الموضوع بعنوان: هل يقود ترامب العالم إلى الهلاك؟
والآن بعد إعلانها عن القضاء على داعش التي اخترعتها لتحفظ لها توازنها فأين ستتجه أمريكا؟
لم تعد الساحة العالمية كما كانت تتصور أمريكا فقد ظهرت مؤشرات لقوى جديدة أصبحت تغض من مضاجع الأمريكان وهي القوة الصينية القادمة التي ستتخذ مكانتها بلا منازع في القرن الواحد والعشرين...
وكما قيل سابقا إذا كان القرن التاسع عشر أوروبيا، والقرن العشرين أمريكيا، فإنه بلا منازع سيكون القرن الحالي صينيا، وخاصة أن مؤشرات الديمقراطية الأمريكية في انحسار مستمر، وتراجع حقيقي للدور الأمريكي على المستوى العالمي كسياسة خارجية وبدأت تفقد دورها الفعلي...
في مؤتمر ميونيخ الأخير الأحد، 17 فبراير 2019 م تكلم مايك بانس نائب الرئيس الأمريكي على هيمنة الولايات المتحدة السياسية والاقتصادية وقيادتها للعالم..
وقد اعتبرت مجلة دير اشبيكل الألمانية أن الواقع مختلفا كليا عن ما قاله نائب الرئيس الأمريكي حيث أصبح لروسيا والصين تأثير كبير على الساحة الدولية من خلال السياسة والاقتصاد، مضيفة أن أمريكا لم تعد وحيدة على الساحة الدولية بل هناك دول مؤثرة مثل روسيا والصين وإيران..
وحسب المجلة فان العلاقات الأطلسية تعاني من أزمة وجود وهو ما يؤثر على الولايات المتحدة وهيمنتها على العالم.. في خطوة من شأنها زيادة التوترات بين البلدين وبعد 32 عاماً من التوافق على معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى بين كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي سابقاً، أعلن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، في الأول من فبراير الجاري، تعليق واشنطن العمل بالاتفاقية، وإمهال موسكو 6 أشهر لإثبات تمسكها بها أو انسحاب الولايات المتحدة من المعاهدة...
وجاء الرد الروسي سريعا على لسان وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف الذي أعلن تعليق روسيا للعمل بالمعاهدة، وإمهال واشنطن المدة نفسها...
وفي ظل الاتهامات بين الدولتين النوويتين ظهرت بوادر سباق تسلح جديد وذالك بتصريح الرئيس بوتن بأن روسيا تسعى لتطوير صواريخ متوسطة المدى رداًّ على ما وصفها بأنها مشاريع مشابهة في الولايات المتحدة...
هذه التطورات الدراماتيكية المتسارعة، دقت ناقوس الخطر الفعلي، ودفعت بالقادة الأوروبيين إلى التعبير عن قلقهم من تداعيات انهيار المعاهدة...
ومما يعقد الأمور أن اتفاقية "ستارت" التي تحدد عدد الرؤوس النووية لواشنطن وموسكو من المفترض أن تنتهي عام 2021 م..
وهنا لا يمكن التنبؤ بالعواقب ذات الصلة لتقويض هيكل الأمن الدولي العالمي...
في أول رد فعل أوروبي على تعليق المعاهدة نفذت فرنسا محاكاة نادرة لمهمة ردع نووي على مدى 11 ساعة، اختبرت المهمة عملية هجومية بطائرة رافال...
ويعكس الإجراء الفرنسي حجم القلق الذي تواجهه القارة الأوروبية جراء المواقف الأميركية والروسية إزاء المعاهدة النووية، وكانت فرنسا أوقفت اختبار أسلحتها النووية عام 1996 بعدما أثارت غضباً عالمياً، وصارت منذ ذلك العام أحد الأطراف الموقعة على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية...
فهل بات العالم على وشك سباق تسلح غير مسبوق؟ وأن هذا السباق سيصبح مدمرا خاصة ما يشاع الآن من احتمال حرب عالمية ثالثة ستحرق الأخضر واليابس... وقد تعزز هذا الاحتمال في ظل غياب دور أساسي لهيمنة قوة معينة؟ وزيادة الكم الهائل من البشر وانهيار الاقتصاد العالمي... فهل أصبح العالم على كف عفريت؟