من المؤسف بالنسبة لي أن أتحدث في هذا المقال عن "داء العُقم" الذي يجتاح حركاتنا وأحزابنا السياسية، وهنا لا أتحدث عن أحزاب "الحقائب" والأشخاص، وإنما عن الأحزاب والتيارات التي خرجت من رحم حركات سياسية مارست العمل السياسي قبل عقود، وامتهنت العمل السري كوسيلة لإنضاج أفكارها وعملها السياسي والفكري بعيدا عن أعين المتربصين والمراقبين.
لكنه وبعد أعوام مديدة لم تستطع هذه الحركات التي أصبح أغلبها فيما بعد أحزابا سياسية وطنية إنتاج قادة سياسيين قادرين على قيادة الدولة وإدارتها، وهذا ما جعلنا اليوم لا نكاد نجد سياسيا خارجا من صلب هذه الحركات والأحزاب قادرا على المنافسة في رئاسيات 2019 المرتقبة، بل إن الأحزاب الرئيسية ذات الجذور الإيديولوجية العميقة لا تخفي عدم رغبتها في أن لا ترشح من داخلها لهذا السباق الرئاسي المصيري بالنسبة للبلد، ولقواه السياسية والديمقراطية الطامحة للتغيير.
وأعتقد أن هذه الظاهرة جديرة بالنظر والتأمل؛ فكيف لحركات تمتلك رصيدا مهما من تراكم العمل السياسي والتفاعل داخل البلد أن تكون عاجزة عن تقديم مرشح من داخلها يمتلك من المؤهلات والقدرات ما يجعله قادرا على أن يدير دولة صغيرة من حيث التعداد السكاني وقليلة المشكلات من ناحية التركيبة الثقافية والإثنية؟
وإذا عدنا إلى الوراء قليلا، نجد أن هذه الحركات عانت من نفس المشكلة قبل عقود، ووقعت فيها خلال تجارب سابقة، ففي رئاسيات يناير 1992، التفت القوى السياسية المعارضة لنظام معاوية ولد الطائع خلف مرشح لم ينتمِ لأي حركة سياسية في السابق (أحمد ولد داداه) بل إنه في تلك الفترة أقرب للتكنوقراط بعد أن خدم كوزير ومحافظ للبنك المركزي في ظل حكم أخيه المختار، فجاء من العمل في الخارج لتوفر له الحركات والقوى المدنية السند والدعم ويقفز على قادة ومؤسسي تلك الحركات ونشطائها السياسيين. وبذلك الدعم استطاع المرشح أحمد وداعموه التعبئة ضد معاوية وتحقيق الفوز الذي يقولون إن نظام ولد الطائع سرقه ليذوب بذلك أمل التغيير وتحييد العسكر عن السلطة.
وتكررت تجارب مماثلة في الانتخابات الرئاسية التالية، ومن أكثرها إثارة ولفتا للانتباه انتخابات 2007 الرئاسية، فمن بين تسعة عشر مرشحا للرئاسيات من بينهم قادة تاريخيون في حركات سياسية، ومرشحون دعمتهم تيارات فكرية لم يصل للشوط الثاني سوى مرشحيْن ليس لهما انتماء إيديولوجي سابق ولا تجربة في التنظيمات الحركية (أحمد داداه وسيدي الشيخ عبد الله)، وهذا ما لاحظه بعمق الصحفي والكاتب محمد فال ولد عمير في حلقة من برنامج "في الصميم" بثّت قبل أسابيع.
وفي رئاسيات 2009، ورغم تقدم مرشحين يمثلون حركات سياسية وفكرية، لم يكن من بينهم من هو قادر على منافسة الرئيس الحالي أو بالأحرى مزاحمته، فنجح ولد عبد العزيز في الشوط الأول بنسبة بلغت 52.58%، في حين حل في الرتبة الثانية مسعود ولد بلخير وفي الرتبة الثالثة أحمد داداه، وهكذا نجد أن مرشحي الحركات السياسية والفكرية جاءوا في رتب متأخرة إذا استثنينا مسعود المدعوم من طرف بعض الناصريين المنضوين في حزب التحالف الشعبي التقدمي.
واليوم، ومع تهيؤِ الساحة السياسية الوطنية لاستحقاق رئاسي يختلف عن الاستحقاقات السابقة بحكم ما يفرضه الدستور من تناوب على كرسي الرئاسة، بعد مأموريتين متتاليتين للرئيس، وفي ظل تأكيد محمد ولد عبد العزيز على عدم السعي لتعديل المواد الدستورية المحصنة، يجدر بالأحزاب السياسية المعارضة أن تكون على الاستعداد المناسب للّحظة، وتحاول فرض التغيير من خلال المنافسة في هذا الاستحقاق بمرشح قادر على كسب الرهان.
لكن يبدو -للأسف- أنها تتجه لترشيح من خارجها، وهذا ما يؤكد ما قلناه بداية من التباس "داء العُقم" بهذه الأحزاب والحركات، واتجاهها نحو قتل الأمل في نفوس جماهيرها المتعطشة للتغيير منذ أمد طويل، كلما حانت فرصة مناسبة.
وبالنظرفيما يسوّغه رموز هذه الأحزاب وقادتها من أن "المعارضة ستكون في وضع أحسن إذا اختارت مرشحا من خارج أحزابها تنضاف إليه قوة هذه الأحزاب ويكون ميزان القوة الانتخابي في النهاية قادراعلى تحقيق النصر للمعارضة"، كما أشار لذلك رئيس منتدى المعارضة الدكتور محمد ولد مولود في مقابلة له مع موقع الأخبار. فإن المرشح المحتمل للمعارضة (سيدي محمد ولد بوبكر) لا يحقق في نظري ما يفيد هذه الأحزاب، من قاعدة كبيرة وعلاقات واسعة وعمق اجتماعي له وزن انتخابي يفيد المرشح المنحدر منه، بالإضافة إلى أنه حسب متابعين غير قادر على إحداث اختراق في صفوف الدولة العميقة يُظهر انقسامها، هذا إلى جانب سابقته كوزير أول في نظام سيئ عانى الموريتانيون من حكمه، وتعرضت فيه بعض الحركات والأحزاب المعارضة الآن لكثير من القمع والتضييق وتزوير نتائج الانتخابات في ظل وزارة مرشحهم المحتمل -إن لم أقل بمشاركة مباشرة منه-!.ومن الغباء ترشيحه الآن، وتقديمه لجمهور المعارضة وعموم الشعب الموريتاني وكأنه صاحب سجل نظيف، يستحق أصوات المغبونين المنتظرين بلهف للحظة التغيير في عام 2019.
إن هذا الترشيح المتوقّع، تريد المعارضة من خلاله تأكيد عدم جدارتها بالثقة التي مُنحت إياها منذ أمد، وبذلك تحكم على نفسها بالموت البطيء بعد "العُقم" المحقّق، وهذا ما جعل بعض المتندّرين ينصحونها بدعم مرشح النظام الجنرال محمد ولد الغزواني.
بل إن بعض الجادّين كتبوا ناصحين قوى المعارضة بالتفاهم مع غزْواني، وسموْه مرشح التناوب وتساءلوا لماذا لا تجعله المعارضة مرشح إجماع؟.
وهي دعوة -إن كانت بحسن نية ووعي- فإنها ستقتل الأمل في نفوس المؤمنين بضرورة التخلص من قبضة العسكر، أما إذا كانت بهدف خلق اليَأس والإحباط في صفوف المعارضة فالطامة أكبر.
فأي معنى لأن تهرول قوى المعارضة خلف مرشح المؤسسة العسكرية والشريك الأساسي لمحمد ولد العزيز طيلة عقد ونصف في الحكم، وتتغاضى عن تاريخ الرجل، وكأنه كان معارضا شرسا للنظام القائم، قدم لتوّه من المنفى.
إن التفاهم مع غزْواني-أو التحالف معه بالنسبة لبعض أحزاب المعارضة-مستساغ بعد الانتخابات إذا كسب المعركة، وتُوّج رئيسا لموريتانيا في انتخابات يونيو القادمة، أما الآن فلا معنى لشيء آخر سوى مزاحمته بمرشح قوي وبعمل سياسي مدروس ومثمر النتائج. فهل تعي المعارضة المقال؟!