حديث "القلب" و "العقل" في رئاسيات 2019 (الليلة الرابعة 24 فبراير 2019)
الجيش الأكاديمية الأفضل لتخريج الرؤساء
أسس أفلاطون عام 387 قبل الميلاد "الأكاديمية" لتخريج الفلاسفة الذين يتم إعدادهم باعتبارهم حكام المستقبل، وكان من أبرز تلامذتها أرسطو معلم الإسكندر الأكبر أعظم ملوك اليونان. وفي عام 2002 بادر"باتريك آواه" PatrickAwuah إلى تأسيس "جامعة أشيسي" Université Ashesi في ضاحية "أكرا" بغانا، بهدف تخريج جيل من القادة والمسيرين والمبدعين في حل مشاكل التنمية في إفريقيا، يفترض به أن يكون نموذجيا في الخلقية والنزاهة في الميدان السياسي، وقيادة قطار التنمية في إفريقيا بسرعة قياسية نحو أهدافه القصوى. وبين هذين التاريخين تراكمت تجارب كثيرة، وتكون تراث ضخم عبر القرون وعبر القارات، في هذا المجال المتعلق بتكوين واختيار القادة والملوك والرؤساء. وضمن هذا التراث قدم مفكرو وفلاسفة الإسلام مساهمات مميزة في الفلسفة السياسية وفقه الأحكام السلطانية والاجتماع السياسي وقواعد العمران البشري.
ونذكر اليوم بهذا المستوى المجرد من الفكر السياسي لتخفيف ضغط الحالمين وآمالهم العريضة المعلقة على لجنة اختيار المرشح التوافقي للمعارضة، والمساهمة في إنصاف أحزاب المعارضة التي تواجه اليوم ألف مشكلة ومشكلة في اختيار مرشح مناسب للرئاسة، إثر تخليها نهائيا عن حلم المرشح المثالي. ليس الأمر سهلا ولا بديهيا على الإطلاق. وأغلب الظن أن القوم لن ينجحوا في العثور على ضالة المرشح التوافقي بالحد الأدنى من الشروط، في هذا الوقت القياسي المتبقي أمامهم. وهي قضية لن نطيل فيها لأن لنا عودا إليها، والأيام بيننا.
لكننا سنقدم في النقاش الدائر حول اختيار المرشحين للرئاسة اليوم قبل التداول للاختيار فيما بينهم في الحملة الانتخابية والاقتراع، بأطروحة يمكن أن تساهم في إنارة الرأي العام. تقول الأطروحة: "إن القائد في أي نظام سياسي - بما في ذلك النظام الديمقراطي التعددي - لا تنتجه المؤسسة ولا الجماعة، ولا يمكن أن يكون نتاجا لمداولة من طرف لجنة أو مجموعة لجان. ونذهب أبعد من ذلك لنقول إنه لا يمكن أن يكون إفرازا لحزب سياسي. أو قل بالعكس إن الحزب السياسي هو الذي يتشكل بمناسبة بروز قائد أو زعيم ما وليس العكس. وبالاستقراء مما نجده في التاريخ السياسي العالمي وما نلحظه من طبائع العمران البشري يصعب أن تتوفر لبلد ما في نفس الزمان رفاهية الاختيار بين قادة مختلفين. نعرف بالطبع أن المقتضيات الدستورية للنظام الديمقراطي تفتح المجال أمام الكثيرين للترشح، لكن معظم تلك الترشحات خالية من الدلالة السياسية ولا تحرك أية أمواج حقيقية في تيارات الرأي العام، وبالتالي فهي - وإن كانت قانونيا ودستوريا مقبولة - تعتبر سياسيا واجتماعيا وأخلاقيا عبثية وغير مبررة. وفيما يخصنا نحن على أتم القناعة بأن هذا النوع من الترشحات مرفوض ومدان ويعكس فسادا واستغلالا يناقض مبادئ المروءة والخلق لدائرة المباح القانوني. وفي أغلب الحالات لا يثبت هذا النوع من المترشحين إلا بوسائل خداع جمهور ضيق يحشرونه في الزوايا الضيقة للقبيلة أو العرق أو الفئة. ويكونون منه جيش المهزومين الأبديين، الذي يستيقظ كعادته صبيحة يوم الاقتراع على أصفار وفواصل مخزية، ليدرك أن دوره كان محصورا في ظهور أسماء وصور أولئك المترشحين المسرحيين على بطاقات التصويت".
تلك قواعد شبه كونية - بالمعنى الذي يمكن أن يكون لكلمة كوني في المجال السياسي - ونحن مستعدون للمنازلة بصددها أمام أي كان. لكننا نضيف إليها فيما يخص موريتانيا، أن تجربة 27 سنة من التعددية السياسية بما عرفته من تشكل وإعادة تشكل للخريطة السياسية الحزبية، في علاقة بالقبلية والعنصرية والجهوية والفئوية والمال السياسي الحرام قضت نهائيا على مصداقية جميع الأحزاب السياسية، في المعارضة كما في الموالاة. وقضت بالذات على شرعية هذين المفهومين ذاتهما: "الموالاة" و"المعارضة".
وأشدد على أن فقدان المصداقية السياسية هنا ينطبق على الجميع ولا يوجد أي استثناء. وسأذهب أبعد من ذلك للقول إن ما يسمى في عرفنا بـ"الأحزاب الكرتونية" و"أحزاب الحقائب" ليست سوى النموذج الوحيد القائم لدى الجميع في الموالاة كما في المعارضة. وعندما تطلبون مني دليلا واحدا سأقدم لكم بخصوص جميع أحزاب المعارضة والموالاة عشرات الأدلة الحية على اعتماد ذات التقنيات "الكرتونية" و"الحقائبية" في عقد المؤتمرات والمكاتب التنفيذية واتخاذ القرارات الهزلية و"الكاريكاتورية".
تلك قضية لن نطيل فيها الآن لأننا سنكون مضطرين للعودة إليها مرات في الشهور القادمة، في ظل واقع كون أفسد المفسدين وأقلهم حياء في العقود الماضية سيعلنون لنا أنفسهم اليوم رهبانا في صومعة المعارضة، ومتعبدين في محراب التعفف عن المال العام. وسيقضون على صبرنا وهم يتجرأون على الوقوف بقامات منتصبة أمام شعب يعرفهم بالصوت والصورة، الأبعد عن المعارضة والأشد هجوما عليها، والأقل عفة عن المال العام والأكثر جرأة عليه.
لكن والحال أنه لم يعد ثمة مبرر لتعليق الأمل على الأحزاب السياسية في تخريج الرئيس الذي يحلم به الموريتانيون في الشهور القادمة، فهل يقتضي ذلك أن يتخلى الموريتانيون عن الحلم المشروع؟! هل ينبغي أن نعلن موت السياسة ونوقف قطار التنمية ويقاطع الجميع الانتخابات لمجرد أن حفنة من غير المأسوف عليهم لم يكونوا على مستوى الآمال التي علقت عليهم؟! هل عقمت أرحام الموريتانيات عن أن تلد خلفاء لنخبة احتكرت زمنا بصورة غير شرعية موقع النخبة؟! هل المطلوب من الموريتانيين - وهم من يتعلق ماؤه ومرعاه وكهرباؤه وبيعه وشراؤه وصحته وتعليمه بهذا الاستحقاق الرئاسي القادم - أن يغضوا الطرف عنه لأن لجنة اختيار المرشح التوافقي للمعارضة فشلت في التوصل إلى مرشح توافقي مناسب أو لأن الموضوع أيقظ ما كان مغطى عليه من ضغائن شخصية بين قادة هذا الحزب أو ذاك من المعارضة؟!
ليس ذلك هو الحل. ولا أعتقد أن المريدين المتصوفين من أتباع قادة المعارضة ما يزالون بالكثرة المؤثرة على الرأي العام الوطني. وعليه فإن قافلة الموريتانيين الذين قرروا أن يشاركوا في توجيه مسار حياتهم العامة بغض النظر عن الأحزاب - هذه القافلة - ستتابع السير ولن تلتفت إلى نباح أولئك الذين استنفدوا رصيدهم من الثقة. سواء ممن باعوا الشعب أوهام انتصارات انتخابية يعرفون أنها لن تحصل وربيع رحيل عربي يعرفون أنه لن يصل البلاد، وسواء من أولئك الذين لفظهم النظام الحالي من مصفقيه أو مصفقي الأنظمة السابقة عليه.
وفي هذا السياق وعكسا لما يروج له العاجزون عن المنازلة الانتخابية المفتوحة، ليس التخرج من الجيش عيبا في القائد إذا انتخبه الشعب. أو قل إن الجيش كان في الماضي الأكاديمية التي خرجت عظماء القادة في الديمقراطية كما في النظم السياسية الأخرى. وفي موريتانيا اليوم تشير المعطيات الموضوعية إلى أن الجيش هو المؤسسة الوطنية الوحيدة القادرة على تخريج الرئيس المناسب للعشرية القادمة.
بالفعل هنالك عقدة من النظم العسكرية تولدت بفعل تتالي الانقلابات العسكرية في إفريقيا والعالم العربي وبلدان القارتين الأمريكية اللاتينية وآسيا، وكون العسكريين - في الكثير من الحالات - حولوا الأوطان إلى إقطاعيات يتقاسمون فيها الأرض والثروة. وكون الكثير منهم تخلوا عن قيم العسكرية وما فيها من بساطة وتضحية وانضباط واحترام للقواعد المؤسسية العامة. وكون بعض العسكريين بنى استقرار حكمه على المجازر والسجون والحديد والنار. وهذا ما جعل من السهل على الذين يمتلكون عقلية تبسيطية غير قادرة على تحليل المعطيات المركبة وتفكيكها أن يتجهوا إلى شيطنة المؤسسة العسكرية.
لكننا عند التأمل سنجد أنه لم يقم انقلاب واحد إلا بالتخطيط والمشاركة النشطة من طرف القوى المدنية الحزبية. كل الانقلابات تأسست قبليا أو بعديا على الإيديولوجيات الاشتراكية أو القومية العربية أو القومية الإفريقية أو الإسلام السياسي. وكانت زعامات سياسية مدنية كثيرة في بلادنا كما في معظم بلدان العالم الأخرى وزراء وفاعلين سياسيين نشطين في دعم الحكومات الانقلابية، وكان لها نصيب الأسد في أحيان كثيرة من الإقطاعيات والغنائم. والكثير منها كان الأكثر نشاطا في مباحث أمن الدولة وأذرع الوشاية والتجسس. فمن فضلكم لا تحرجونا ولا تدفعونا - بالهجوم غير المنصف على الجيش ومحاولات شيطنته - إلى فتح ملفات الماضي القريب والبعيد، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى التطلع نحو المستقبل.
في هذه الأيام وأمام ضعف المرشحين المعلنين والمخفيين المحضرين للظهور في أية لحظة، لا يجد البعض من وسيلة لتبرير التقدم لهذا الأمر الذي ليس كفؤا له أو لا تتوفر له الشروط الكاملة للتصدي له، سوى الهجوم على "الجبل الصامت" محمد ولد الشيخ محمد ولد الغزواني. وإذ فشلوا في الحصول على مغامز شخصية في سيرته، وإذ لم يجدوا في ماضي الرجل أية كلمة سوء وجهها إلى أي منهم أو إلى أي من قيادات البلد وعامة أهله في الماضي، لم يجدوا إلا القول، الرجل عسكري وقد آن لموريتانيا أن يقودها مدني.
لهؤلاء أقول: لقد دخلتم ميدانا من البلاغة في المدح يسمى "المدح بما يشبه الذم". ووقع قولكم وقوع الحافر على الحافر، على ما قاله النابغة الذبياني:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب
أن الجيش حاليا هو المؤسسة الوحيدة القادرة على تخريج رئيس موريتانيا في العشرية القادمة، ريثما تتمكن الطبقة السياسية المدنية من القيام بالمراجعات الفكرية والهيكلية، وتحقق القطيعة المطلوبة في طرق ممارستها للسياسة، وتعاطيها مع الشأن العام لتتأهل للفوز في رئاسيات 2029
لماذا؟! ما المبررات المعقولة لمثل هذه الأطروحة الشاذة؟!
كثيرة أكتفي منها بثلاث:
1. الجيش يمثل نموذجا مصغرا للوطن، وتسييره عملية أكبر من مجرد إدارة معركة وتوزيع قطع عسكرية. إنه إدارة للمعلومات في أدق تفاصيلها حول البلد بمختلف قطاعات حياته، وحول الإقليم بكل ما يدور فيه من تحديات أمنية وجيو- إستراتيجية. إنه إدارة للهندسة العسكرية بكل ما تقوم به اليوم من أدوار حيوية على امتداد مساحة البلاد. إنه إدارة لمستشفيات، لمستوصفات ولمدارس وكليات. إن الجيش الموريتاني اليوم يضم نخبة من الكوادر في جميع التخصصات. وعليه فإن قائد الجيوش ليس مجرد جندي بسيط. وإن كنت أعرف أن الجندي البسيط أكثر تفانيا في عمله وأكثر تضحية من عدد كبير من شبابنا ممن يتخرجون من الجامعة والمدارس المهنية ويتغيبون في معظم الحالات عن "الثغر" في المستوصف أو المدرسة أو المكتب، بينما لا يتغيبون أبدا عن البنك يوم تحويل الرواتب.
الجيش أكاديمية تدرب على إدارة الوطن وتزرع خلقيات المرابطة والصبر على أداء المصالح العامة ومتاعب المرفق العمومي. أضف إلى ذلك أن القيادة في النظام العسكري غالبا ما تمر عبر تراكم وتدرج طويل المدى، بخلاف الصعود في المراكز المدنية الذي يطبعه في أحيان كثيرة طابع القفز السريع والترشح الإستعجالي للمناصب من طرف الوصوليين. ويسود في الإدارة - كما يعرف الكثيرون - نظام الإنزال المظلي، عندما يأتيك رضيع كان في عالم آخر ليقود جماعة من القدماء في قطاعهم.
2. نفس السبب الذي دفع أحزاب المعارضة إلى التخلي عن التقدم بمرشح من داخلها، ينبغي أن يبرر التقدم بمرشح للتوافق الوطني من خارج الأحزاب جميعها، بمعارضتها وموالاتها. ولا توجد جهة أصلح لتمثيل هذا الحياد من المؤسسة العسكرية. وقد يقول قائلهم إن الأغلبية قدمت صاحبكم باعتباره مرشحها، فكيف تقولون عنه إنه يرمز للحياد. الجواب بسيط: من جهة الرجل، هو مترشح وكل من يعلن دعمه له فسيرحب به، رغم أن الكل يعرفون أنه لم يكن خيار اللوبيات النافذة في الأغلبية والحكومة، وذهب بعضهم إلى حد المطالبة بخرق الدستور خوفا من أن يضطروا لدعم هذا القائد الذي، فرض نفسه كخيار وحيد.
لماذا يا إخوتي قادة المعارضة التقليدية، بدلا من أن تضطروا للدخول في صفقات خاسرة مع هذا الوزير الأول السابق أو السمسرة مع ذلك التاجر الآخر، لا تتجهون إلى هذا الرجل القادم من خارج الأحزاب وتقدموا له دعمكم دون صفقات ولا شروط، وحري بمثلكم التعامل دون صفقات وعطايا من تحت الطاولة. ثم بعد الانتخابات ويوم يبادر إلى التعامل كرئيس لحزب أو مجموعة واحدة لا رئيس لكل الموريتانيين، تعودون إلى حالكم كمعارضة. عندها سيدرك الشعب أنكم لستم مجرد باحثين عن مآرب شخصية. وفي الحالتين أنتم تمنحون أصواتكم لمرشح من خارجكم، ولا شك عندي أن غزواني القادم من قيادة أركان الجيوش أقربهم جميعا إلى الحياد والاستقلالية.
3. يعتبر ملف الأمن الإقليمي حاليا الملف الأول المطروح على مكتب رئيس الجمهورية القادم. والتنمية والاستقرار في موريتانيا مرهونة بتصفية الملف الأمني الخاص بالجماعات الجهادية والجريمة العابرة للحدود والهجرة السرية في دول الإقليم. والجميع يعرفون أن هذا الملف هو ملف عسكري بامتياز، والرئيس المدني الذي ليست له خلفية عسكرية سيكون تابعا في هذا الملف للعسكريين، ولن تكون قدرته على اتخاذ القرار الشجاع والسريع والذكي مكافئة لقدرة رئيس يحفظ عن ظهر قلب تفاصيل الملف، تماما كما يحفظ خريطة مجابات الصحراء الكبرى في دول الساحل الخمسة. ولن يكون تواصل هذا مع المختصين في الملف داخل مفاصل القرار الدولي كتواصل ذاك.
والمشكلة الأصعب أن الخيار هو بين قائد جاهز تعرفه موريتانيا كلها كما يعرفها هو كلها، وقائد آخر تبحث عنه لجان أعضاؤها أنفسهم مسكونون بحرص مرضي على الترشح، وآخر ما يزال توقيع شهادة تبريزه سابع المستحيلات.
يتواصل أسبوعيا بإذن الله.