كان العام الفارط عاما فارقا في حياة الأمة الماليزية العظيمة، كان عام انتخابات رئاسية بدت في مبتدإ الأمر انتخابات عادية لا تحمل في طياتها الكثير من المفاجآت، لكنه ومع انبلاج خيوط فجر ثاني أيام تلك الانتخابات تكشفت غيوم سماء كوالا لمبور الحبلى دوما بالمفارقات والمفاجآت عن ما لم يخطر ببال أكثر الحالمين تفاؤلا ولا أكثر المنظرين علما وبصيرة...
مع اقتراب موعد الإنتخابات الرئاسية يومها كان الفرق بين معسكري الحكم والمعارضة يبدو بينا واضحا فالمعارضة وعلى مدى الستين سنة الماضية من حكم الدولة الماليزية خسرت الاستحقاقات الأربع عشرة التي تقدمت لها جميعها كما شهدت انسحابات وخلافات حادة أثرت في بنيتها خلال العامين 2016 و2017 م، وعانت من غياب شخصية محورية كاريزمية تقودها في ظل استمرار اعتقال د. أنور إبراهيم، أما في معسكر الداتو نجيب عبد الرزاق رئيس البلاد وقائد حزبها الذي يحكمها منذو الاستقلال فقد اصطف كل رجال المال والأعمال والوجهاء وقادة المؤسسات الأمنية والعسكرية والمؤسسات الإعلامية الكبرى...
كان رصيد المعارضة الأكبر وقتها هو إصرارها على تغيير النظام وإيمانها بهشاشة تلك القوة التي تبدو - من بعيد - للناظر كما لو كانت متماسكة قوية مؤثرة بل وطاغية مكتسحة...
بعد نقاشات مستفيضة كادت تعصف بما تبقى من المعارضة "جَرٌ" الفريق الأكبر في تحالف المعارضة "الإسلاميون" أو حزب عدالة الشعب بقيادة د. أنور إبراهيم المعارضة إلى التنازل عن ترشيح أي من قادتها والقبول بترشيح شخص من خارج المعارضة... وبعد أخذ ورد وممانعة وتصريحات نارية متبادلة تقرر ترشيح د. مهاتير محمد الخارج لتوه من الحزب الحاكم...
بدا الأمر كما لوكان نكتة سمجة أو سقطة مدوية فالرجل الذي لم يتذوق طعم المعارضة في حياته السياسية التي تمتد لأزيد من نصف قرن سيقود المعارضة للفوز بالانتخابات الرئاسية الأخطر في تاريخ البلاد...!
احتج كثيرون بأن الرجل الذي يراد ترشيحه اليوم على رأس المعارضة هو نفسه الذي عزل وظلم وعذب قادة المعارضة ورمى بهم في السجون، فكيف للمعارضة التي ظلت على مدى عقود من الزمن تناضل ضد هذ النظام وتتغنى بكرهه ومحاربته كيف لها أن تقدم أحد أبرز قادته ليكون قائد سفينها للتغيير القادم، ثم زاد آخرون بالتساؤل: اليس في المعارضة كلها رجل رشيد يصلح لقيادة المعارضة في هذ الظرف الزمني العصيب؟ وكيف لرجل عاش كل عمره في الحكم أن يسرق نضالات قادة المعارضة ويتربع على رأس لائحة لا يعرف كيف "يهجي مفردات خطابها المعارض"...
رد الفريق المقتنع بأن المعارضة يجب أن ترشح من خارجها وبأن الوقت ليس وقت البحث عن المكاسب أو المغانم وأن الأولوية يجب أن تكون هي إزالة هذ النظام الحاكم بأي طريقة مشروعة كانت، وبأن الوافد الجديد وإن لم يكن يوما من المعارضة فإنه اليوم قبل بتبني برنامجها والعمل على تحقيقه، لكن الرد الذي قوبل به ذاك الفريق كان ردا واضحا وصريحا: ستفقد المعارضة كل رصيدها وسيهجرها حتى مناضلوها وأطرها التقليديون فـ د. مهاتير رجل منتهي الصلاحية ظل جزءا من المنظومة التي حكمت ماليزيا خلال العقود الستة الأخيرة وناخبو المعارضة بحاجة لدم جديد ويريدون بكل إصرار رؤية بعض القيادات التاريخية لهم في المقدمة والمبتدأ من أمر الرئاسيات...
خاض الفصيل المقتنع بالترشيح من خارج المعارضة يومها حربا شرسة لتمرير القرار داخل مؤسسات المعارضة نفسها وواجه العديد من النقد والسخرية والتحامل من بعض مناضلي ائتلاف أحزاب المعارضة وبخاصة مناضلي حزب الأمانة الوطنية وحزب العمل الديمقراطي العريق، وأخيرا وبعد أن أصبح ترشيح د. مهاتير أمرا واقعا تبددت كل خلافات المعارضة وغاب النقد الداخلي وشمر الجميع بالفعل عن سواعد الجد والعمل والاستماتة في سبيل إنجاح الوافد الجديد...
كان الوضع في المعسكر المقابل يبدو مختلفا تماما فـ"التنكيت" على المعارضة التي لم تستطع حتى أن تجد مرشحا منها هو سيد الموقف فيما كانت المعطيات على الأرض توحي بنجاح مريح للرئيس ابن الرئيس نجيب عبد الرزاق (ينحدر نجيب من أسرة علم وسياسة وقيادة في المجتمع المالوي وأبوه هو رئيس الوزراء الماليزي السابق الداتو عبد الرزاق)، فيما كانت المبادرات الداعمة للرجل وكذا الهدايا والهبات تتقاطر عليه كتقاطر حبات المطر من سماء عاصمة الملايو التي لا ينقطع عنها المطر إلا ليعود إليها قريبا...
وعلى وقع هذ الإيقاع دخل الماليزيون إلى صناديق الاقتراع فريق يحدوه الأمل بالتغيير ويتربع علي رأس أرصدته إيمانه بقضيته وثقته في شعب مل النظام القائم ثمة وفريق يمتلك كل وسائل الحسم الظاهرة ويجمع بين المال والسلطة والقوة، ويشاء ربك أن تغلب قوة الضمير وقوة الإيمان بالقضية كل ركام المال والسلطة والإعلام والمجتمع التقليدي وينتصر "تحالف الأمل" بقيادة الرجل القوي الوافد الجديد إلى المعارضة د. مهاتير محمد وتشرئب أعناق عدة إلى حزب عدالة الشعب وإلى قائده العظيم يقولون: استعفر لنا إنا كنا ظالمين، بينما يردد كثرٌ آخرون في معسكر أمنو... إنا كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين... فهل يتكرر الدرس الماليزي في بقاع أُخَرَمن العالم... أم أن الأمر ليس قابلا للتكرار ولا الحدوث مرة أخرى... ربي وربك أعلم.