تقول القاعدة اللغوية أن الصفة تنتفى بضدها فقط، لكن المرحلة السياسية التي تمر بها البلاد أوجدت قاعدة جديدة أن الصفة قد تنتفى بجنسها أيضا، على الأقل عندما يتعلق الأمر بفن الممكن.
فقد أظهرت إرهاصات ما بعد المأمورية الثالثة أن أقطاب العملية السياسية وفقا للعبة الديمقراطية باتت على النقيض مما يفترض أن تكون عليه أو ما تنتظره منها قواعدها الشعبية سواء المعارضة منها أو الموالية.
فقد ظهرت في الأغلبية أغلبية ليست عددية لكنها تمتلك نفوذا داخل الكتلة يكفى لفرض ما تراه مناسبا وتقرر نيابة عن البقية من سينافس باسمها على حكم البلاد، وعلى الجميع الالتزام بما تقرره هذه "الأغلبية".
تماما كما هو الحال في المعارضة التي تبين أنها تحتضن ضمنها معارضة تعارضها وتجعلها في تناقض حتى مع أبسط قيمها ليس فقط في البعد السياسي للكتلة وإنما في البعد اللغوي للكلمة، حين تفرض على المعارضة أن ترشح من خارج الطيف المعارض.
الأغلبية التي ترى في ترشيح الجنرال محمد ولد الشيخ محمد أحمد استمرارا لنهج الرئيس الحالي، اضطرت - عبر أكبر أحزابها حزب الاتحاد من أجل الجمهورية - إلى إعلان تبني ترشيحه بعد أن أعلن عنه مستقلا، ومستغلا ثغرة توقيت ما يعيشه الحزب من تصدعات بعد تأكيد رحيل مؤسسه عن السلطة، وما يعنيه ذلك من تقوقع حسب تجربة من سبقوه من أحزاب تلاشت مع رحيل مؤسيسها.
هذا فضلا عن محاولة الرجل استغلال ما تعيشه المعارضة من خلافات فاسحا المجال لنفسه بأن يكون مرشح إجماع وطني حتى وإن كان ذلك بعيد المنال.
لكن الأغلبية التي تحاول جاهدة الالتحاق بركب من يفترض أنه مرشحها للرئاسيات المقبلة، تعانى في الداخل من تصدعات قد تفرضها لاحقا إلى الدفع بمن ينافسه على الرئاسة.
فحتى تأجيل انتخاب هيئات الحزب الحاكم والإبقاء على مؤتمره منعقدا حتى ما بعد الانتخابات الرئاسية لن يكون كافيا فيما يبدو لتهدئة وامتصاص امتعاض المغاضبين داخل الحزب، فقد تشهد الأيام القليلة المقبلة إعلان ترشيح الوزير الأول السابق مولاي ولد محمد الأغظف.
فبحسب ما يصدر من أخبار فالرجل مصر على الترشح والمنافسة في الاستحقاقات القادمة وهو يعتمد في ذلك دون شك على أقطاب في الأغلبية الحاكمة بعد استبعاد ترشيح المعارضة له.
هذا السيناريو سيجعل الأغلبية المتحكمة في صراع مع أغلبيتها القاعدية، وحتما سيشتت جهود ناخبيها ويضعف حظوظ مرشحها الأول من حسم النزال دون الحاجة إلى شوط ثاني.
لكن هذا السيناريو إن حدث فقد يحمل عدة قراءات:
إما أن الأغلبية شعرت بتذمر بعض ناخيبيها وعدم رضاهم عن المرشح المقترح وأرادت أن تدفع بآخر تتجه إليه تلك الأصوات المغاضبة بدل أن تتجه للمعارضة.
أو أنها أدركت مع تعدد الأسماء المنافسة، صعوبة الحسم من الشوط الأول وأرادت أن تدفع بمرشح آخر يتحالف مع مرشحها في الشوط الثاني بدل أن تتحالف ضده البقية.
أما على الجانب الآخر فقد بدت المعارضة أكثر تفكك وانخراما، فبعد عشر سنوات من السعي بين "صفا" دار الشباب الجديدة و"مروة" ساحة ابن عباس، خرجت لمناضليها بتوقيع اتفاق مرشح موحد انخرم فيما بعد إلى عدة مرشحين وصلوا لحد الساعة إلى ثلاثة مرشحين للرئاسة وما زال العدد قابلا للزيادة.
لكن المشكلة ليست في الانخرام وحده - فالإجماع يصمد فقط قبل الخضوع للاختبارات المصيرية - بل المشكلة أن معارضة داخل المعارضة فرضت أن يكون مرشح المعارضة غير معارض واعتمدت الوزير الأول السابق سيد محمد ولد بوبكر مرشحها في الاستحقاقات المقبلة، في تكرار لسيناريو 2003، حينما دعمت المعارضة الرئيس السابق محمد خونه ولد هيدالة على حساب أبرز زعاماتها حينها، أحمد ولد داداه ومسعود ولد بلخير.
وكما كانت الحركة الإسلامية حينها أبرز الداعمين لولد هيدالة، كان حزب تواصل اليوم أبرز المندفعين والمدافعين عن ترشيح ولد بوبكر، الوزير الأول في الحقبة الطائعية والسفير في نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز الذي يعارضونه ويعارضون مرشحه للرئاسيات المقبلة!.
وكما أعاد التاريخ نفسه مرة ثانية قد يعيد نفسه أيضا للمرة الثالثة ونرى المعارضة في استحقاقات 2024 تدفع بيحي ولد حدمين مرشحا لها أو ربما الرئيس السابق حينها محمد ولد عبد العزيز! !!
كل هذه التطورات تجعل المتتبع للمشهد السياسي يخرج بخلاصة مفادها أن نخبنا السياسية ما زالت بعيدة كل البعد عن الالتزام بقيمها الديمقراطية وأنها غير مكترثة بقواعدها الشعبية التي تتفرج على ما يحدث دون أن يكون لها لا حول اقتراح ولا قوة اعتراض.