على مدار الساعة

موريتانيا إلى أين (الحلقة الثالثة)

1 أبريل, 2019 - 10:03

كتاب: "موريتانيا إلى أين" للباحث د.بدي أبنو، يُنشر في حلقات أيام الإثنين والخميس.

الحلقة الثالثة: الدولــــــــــة المفـــــــــــــارِقة

واضح إيجازا، ممّا تقدّم، أن الدولة الموريتانية وُلِدتْ كمعطى فوقي خارجي مفارِق أيْ كنموذج حدّي أو أوْجي للدولة المابعد استعمارية. فُرضتْ على سياق لم يُنتجها، وبالتالي وُضعتْ فوق "المجتمع" وجاءت من خارجه. وبذلك فالهوة بين موريتانيا البلد وموريتانيا الدولة هي وجودياً هوةٌ يصعب تجاوزها بمستوى يفوق درجةً إن لم يكن نوعاً أغلبَ النماذج الشائعة للدولة المابعد استعمارية. 

   وُلِدتْ إذاً الدولة الموريتانية كشخصية اعتبارية قانونية وكجهاز إداري وأمني صدوراً عن مشاريع اقتصادية سياسية وتوازنات جيوسترايجية خارجية مستقلة، إلى حد كبير، عن الدينامية الداخلية وعن متطلباتها ومطالبها.

 

   وهو ما جعلها تزامنيا دولة شديدة القوة وشديدة الهشاشة. إنها في نفس الوقت، دولةٌ كليةٌ ودولة مع وقف التنفيذ. فهي قوية بما هي منفصلة عن "الشعب"، أو بعبارة أدقّ عن الحشود، جاثمة فوقها كقدر لا خيار لها فيه. وهي، وللسبب نفسه، هشّة بما هي صورة لا مادة لها. لا تستوعب الحشود وتتجاوزها، وإنما تنضاف إليها. 

   إنها تصدر في مشروعها ومشروعيتها عن الخارج لا الداخل. إنها الدولة الوسيط. هكذا كانت ذاتياً، وهكذا اعتُبِرت محليا. فهي وسيط بين الداخل والخارج وليست تعبيرا سياسيا عن "الشعب" الذي لم يوجد إلا كإمكان. 

   ولمْ يكن غريباً تبعاً لذلك أن الدولة وُلدتْ تقريباً خارج المجال الترابي الذي قُذفتْ فيه كاستمرار لمنطق الإدارة الاستعمارية كما تشكّلتْ وسادتْ. فالحياة الترحالية والرعوية للمجتمع الصحراوي البدوي والتركيبة السياسية والاجتماعية لبلاد "السيبة" قد "أوحتا" للإدارة الاستعمارية، منْ حيث إنهّا لم تكن في المراحل الاستعمارية الأولى معنيةً بالبلد إلا لاعتبارات عسكرية عرضية، أن تَبقى في "الخارج" وأن تتعامل مع المجتمع عن بُعد، من سينلوي وعبر وسطاء محليين. 

وهو ما منحتْه هي اسم "نمط الإدارة غير المباشرة". وكما كانت سينلوي عاصمةّ خارجية مؤقتة فقد اختيرتْ القلعة العسكرية نواكشوط كعاصمة مؤقتّة "للاستقلال"ّ. رصيدُها الرمزي حين اختيرتْ لم يكن شيئا آخر سوى أنها القلعة الصغيرة التي كانت، وإن تمّتْ محاولات لاحقة لتسويغ اختيار مكانها رمزيا.

   لم يَعْن إذاً في البداية ما عُرف بالاستقلال تغييرا يُذكر بالنسبة للأغلبية. ومن هنا فلم يكن في مقدور المجتمع إلا أن ينظر إلى الدولة كسلعة مستوردة، كاستمرار للإدارة الاستعمارية عبر وكلائها المحليين لا تختلف كثيراً عما عرفه "المجتمع" المحلّي علَى الأقلّ منذ ما قبل الحرب الكونية الثانية. 

   هكذا لم تكن النخبة التي ورثتْ الدولة الموريتانية تتمتّعُ بشرعية أخرى غير شرعية التوكيل الاستعماري. وبالتالي كانت لحمايتها الذاتية بحاجة إلى أن تواجه بحزم وشراسة أي مشروعية أخرى غير مشروعية "الوسيط" مع الخارج. 

   قدمتْ دولتها كمجموعة من الأشكال التي تكاد تكون مقصودة لذاتها، أشكال تحيل إلى بنية مادية ورمزية لم يكن من مهام تلك النخبة تبيئتُها. 

   ومن ثمّ نفهمُ كيف انتحتتْ وتحدّدتْ علاقة نخبة الدولة بالمجتمع التقليدي. فهي تريده جدلياً كما كان مع الإدارة الاستعمارية. 

     ومن الزاوية نفسها ظهرتْ منذ البداية علاقة تلك النخبة بالأجيال الصاعدة المتمدرسة والمترعرعة في التجمعات السكانية الوليدة كفضاءات شبه مدنية قابلة للانفصال عن المجتمع التقليدي وعن الإرث الاستعماري. وهو ما اختزلتْه الجملة الشهيرة التي تُروى، حقيقةً أو مجازاً، عن إحدى شخصيات حزب الشعب: "إذا أضربتم عن الدراسة فسنأتي بتلاميذ من دولة أخرى". فليس للدولة أهدافٌ محلية بالمعنى الحرفي، لأنها مهتمة من حيث الأولوية بإعادة إنتاجِ شكلِ الدولة الاستعمارية كقالب مؤسِّس يرتبط استمرارُه بإعادة الإنتاج الرمزي لـ"لنخبة" الموروثة. 

أكثر من ذلك فإنها كدولة ريعية وإن بريعٍ جدّ محدود، تُوظّف ريعيتها في ترسيخِ وتكريسِ طابعها الفوقي المنفصل عن "المجتمع". فالدولة الريعية تستقبل مداخيلها المستقلّة تصديراً وريعاً عن المحليين واقتصادهم التقليدي. 

وكان طبيعيا ألّا تبدو علاقة "الشعب"ّ بعائداته من الصادرات بديهية، بل تبدو كأنها مالُ كيانٍ منفصلٍ عن الناس، يسمى الدولة. 

فالناس كانت ومازالت في تداولها اليومي حين تتحدث عن الدولة لا تعني وجودا مرادفاً سياسيا لها وإنما عن كيان منفصل عنها. وريع هذا الكيان لا يبدو ثمرةَ إنتاج المحلّيين ليطالبوها به، إنما يبدو وكأنه ثمرة نتاج الدولة الذاتي ككيان مفارق. الدولة بهذا المعنى تبدو وكأنها لا تدين بما لها لأحد. 

   "المجتمع" لا ينظر إلى ثروتها كثروة للجميع بل باعتبارها ثروتها هي ونخبتها، أو على نحوٍ أكثر دلالة، كثروةٍ غيرِ مملوكة، ككنزٍ مرمي ومشاع لمن استولى عليه، أي "مال هوش" بالتعبير الفقهي الذي راج في السياق نفسه لتسويغ الممارسات المحايثة. 

    وهذه الملكية اللاّمتعينة ـ - كما كُرّستْ على إطار واسع محليا ـ - كانت في قلب علاقة نخبة الدولة بالمجتمع التقليدي تأسيساً وإعادةَ إنتاج. فالدولة، بما هي فوقية، لمْ يرَ منتجو قيم المجتمع أنها تستحقُّ مكانةً اعتبارية أو أخلاقية، وإنما نظروا إليها في الأحسن كمعطى أجوف الذمّة لا يملك، وفي الأغلب كاستمرار "لولِيّ الأمر" الخارجي. وفي الحالتين يصبح مالُها "حلالا" لمن استبقاه بحيلة أو بأخرى. 

فالدولة إذاً لم تكن في التصور السائد مطالبةً بشيء إنما "يَلزم" في المتخيَّلُ الجمعي ابتزازُها أو تفاديها أو هما معاً. وهو ما عَنِيَ من جهة أن الفساد يتأصّلُ وجودياً في علاقة الدولة الكومبرادورية التأسيسية بـ"المجتمع" ومن جهة ثانية أنها منفصلة "جينياً" عن ثنائية الحقوق والواجبات.