على مدار الساعة

مسيرة القضاء في مدينة بوتلميت (*)

4 أبريل, 2019 - 04:01
القاضي هارون ولد إديقبي

دُونَ تعَمُّقٍ؛

يَبْدُو عنوانُ هذه المداخلة من مَلفوظ صياغته جليَّ المعالم لتعلِّقه بالقضاء ومسيرة القضاة في مدينة بوتلميت.

 

ولئن اقتضت تقاليد المنهج العلمي أن نبدأ بموضوع القضاء تعريفا به، فإن الضرورة تلجئُنا الى تنكُّب هذا التقليد إذ من الواضح الجلي لكم ما يتعلق منه بالقضاء، الذي هو بالقيد المعروف: الإخبار بالحكم الشرعي على وجه الإلزام، والذي تتوق له النفس هو بسط الكلام عن خُطًّته في هذه المدينة المحروسة.

 

وبما أنَّ المقامَ مقامُ تأريخ لمسيرة ظافرة لقُضَاتها، فإنَّ التعريج الى استجلاء كُنْه حدودها زمانا ومكانا سيكون من الأجْدَى عند الحديث عن هذا الموضوع، مع أننا لا نطمح هنا إلى كتابة تاريخ المدينة؛ إذ يعوقنا التخصص ويكفينا مؤونةً ما سطَّره ابن المدينة وأحد قضاتها الأوائل بعد الاستقلال القاضي المؤرِّخ: هارون ولد الشيخ سيديَّا في ملخصه الوجيز الذي كتبه مطلعَ عام 1969 بناء على طلب الإداري الكبير إبراهيم ولد بَدَّ ولد الشيخ سيديا، والمُكْفى سعيد.

 

فبوتلميت الذي تعنيه هذه العجالة هو [فضاء] تلك البئر الشهيرة التي حفرها الشيخُ سيدي الكبير بنُ المختار بنُ الهيبة بنُ أحمد [دولة] بن ابي بكر [انْتَشَايِتْ]، بعد مقدمه من آزواد مُنهيًا رحلته العلمية أوائل سنة 1243 هـ / 1827 م - وهو العام الذي توفي فيه شيخه حرمه بن عبد الجليل وقد أدرك من بقية حياته شُهورا -.

وقد شرع في حفرها في رمضان بعد أن استشار أسنَّ من فيه قَبِيله وهو آنذاك الشيخ عبد الجليل بن محمذن [الناه] بن أحمد بن ألْفَغَ محَّمْ بن الفالي بن محمد القاري [أَقْرَهَاوَ] عن مكان لا يدعيه أحد، ولم يتقدم عليه إحياء فأشار إليه بهذا الموْضع الذي أصبح مقرًّا له في أكثر الاوقات ولأتباعه والمتعلقين به، وقبلة سياسية وروحية وعلمية خلال القرن 13 هـ، متباهيا بها في شعره:

ألا عِــــــمْ صباحًا يا أبا تلميتـــــا *** وحُزْ من نجاح ما أردت وشِيتَا

 

وداعيا لها:

يا واسع الرحمات يا فتَّاحُ *** يا من دُعاه لِبَابِه مِفْتَاح...

ينحطُّ كَلكَلُه على مثوى *** أبي تلميت ثم على الَميامن راحُ...

 

مشتاقا إليها كل حين:

ظهرت معالمُ أرضنا مثلُ الغررْ *** يا حبذا نُجُدٌ تبدتْ للبَصَرْ

أرض تُحبُّ نزولنا ونحبُّها فيها *** أبو تلميت ثُـمَّت ذُو عُشَرْ....

 

ومدحها من أحبه كابن حنبل في بائيته الطنانه:

اضْرمَ الهَمَّ سُحَيْرًا فالتهبْ *** لمعُ بـــــرْق بِرُبَيَّات الذَّهبْ

وعلى ذي التِّيلميت اسْتَوسَقَتْ *** لمَزار الشَّيخ تُهَدِّي بالهِضَبْ..

 

ومن بعده كانت منطلق حفيده الشيخ سيدي باب لإقامة حكم مركزي في هذا المنكب البرزخي المترامي [وهي المحاولة الناجحة الناجعة التي أثمرت دولة موريتانيا] فكانت عنده:

أبو تلميت واسطةُ البلاد *** هَدى أهليه إذ نَزلوه هادِ

توسَّط بينها شرقًا وغربًا *** وبين الريف منها والبوادي

هواء طيِّبٌ ونميرُ ماء *** إلى الشُّم الحسان من النجادِ

 

وما فضل الأرجاءَ إلا رجالها *** وإلا فلا فضلٌ لتُرْبٍ على تُرْبِ

 

ففي هذا النطاق الجغرافي بمفهومه الجغرافي الواسع لا بمفهومه العقاري الضيِّق الذي يعني المجال العقاري المسجل لصالح أسرة أهل الشيخ سيدي في السجلات العقارية لعام 1947 بناء على الحكم: 63 من سجلات قاضي بوتلميت سيدي محمد ولد داداه والمصدَّق من قبل Le capitaine Rampiani, commandant de cercle du Trarza  بتاريخ: 09/01/1929 بقوله: Les jugements du n° 58 au n° 102 on été vus par la commission de contrôle et n’ont donné lieu à aucune observation.

 

والمحدد بما بين مطار انْتُورْجاتْ القديم جنوبا، ويذهب مسامتا في الجهة الشرقية الى كَوْدْ النِّطْفِيَّة، ويسامت شمالا إلى أن يجاوز من وراء مدْفَن البَعْلاتِيَّة، ويذهب في الشمال الغربي حتى يأتي من وراء ربوة [زِيرِتْ] بَكَّلْ ، ويصل الى مسامَتَة كَوْدْ انْتُورْجَاتْ، وينعطف جنوبا إلى أن يصل حيث بدأ.

 

وسيكون الحديثُ عن مسيرة القضاء في المجال الجغرافي الواسع لبوتلميت / المركز الحضاري، محاوِلاً تحْقِيبها الى حِقْبَتَيْن: حقبة ما قبل الاستعمار التي تنتهي بوصول الوالي الفرنسي للمدينة سنة 1903، وحقبة ما بعده.

 

وما من شك أن المتتبِّع لتاريخ القضاء في هذه المدينة سيدركُ دون عناء أنه لم يخرج عن السياق العام الذي كانت تشهده المنطقة والذي تطبعه الفوضى وانعدام الحكم المركزي و طغيان: المشيخة، والقبيلة، والامارة الذي ترك أثره على ممارسة السلطة القضائية في هذا المجتمع، مما أدى إلى طرح إشكال مشروعية الحديث عن خطة القضاء في أرض موريتانيا الأمس في ظل غياب السلطة المركزية.

 

ورغم معالجة الشيخ محمد المامي ولد البخاري المتشائمة لخُطَّة القضاء التي كرسها في كتابه البادية، فإن هذه الأرض عرفت بالفعل قضاء كيَّفَتَه مع واقعها الاجتماعي والسياسي، وذلك باضطلاع جماعة الحلِّ والعقد فيه بدور السلطان الغائب في هذه الأرض التي لا يأتي على أهلها سبعة أيام إلا اجتهدوا في نازلة، فكان لكل قبيلة فقيه يٌستفتى، و"لا تخلو أكثرُ قبائل الزوايا من مُحاكَمٍ إليه، أقلُ ما يحْصل من الرَّفْع إليه الإِخبارُ بالحُكْم"، كما يقول القاضي محمَّذِن ولد محَنْض بَابَ [توفي 1902].

 

وانطلاقا من هذا فقد عرفت هذه المنطقة ثلاثة أنواع من القضاة هم: قضاة الجماعة، والقضاة المحكمون، والقضاة المحليُّون.

 

فقد كان للإمارة أو القبيلة قاضيها العام الذي يطلق عليه قاضي الإمارة أو قاضي الجماعة وهو قاضي القضاة كالقاضي محنض باب ولد اعبيد، والقاضي: سيد أحمد بن محَّمْ بن خاجيل بن احميدي بن خاجيل بن امرابط مكَّه الذي وَلِيَّ قضاء الإمارة في زمن الأمير أعمر ولد المختار، بعد أن تصدَّر على محنض باب ولد اعبيد الديماني، وحرمة ولد عبد الجليل، وسيدي محمد ولد سيد عبد الله العلويين، و كان مرافق الشيخ سيديا الكبير في مساعي الصلح في قضية تَبَيْتْ المشهور كان قاضيا ماهرا ترجم له ابن حامدٌ في وفِيَّات الأعيان توفي عام 1294هـ / 1877 م .

 

ومنهم القضاة المحكَّمون وهم من يحكِّمه الخصمان في النزاع وقد حدد الفقهاء مجال ولاية هذا القاضي بالقضايا المتعلقة بالأموال دون الحدود والقصاص فقضاؤه مجرد رأي في القضية، وقد سئل الشيخ سيدي رحمه الله عن إمكانية رجوع المُحكَّم في حكمه فقال: "الصواب أن المحكَّم إذا فرغ من الحكومة التي حكم فيها يصير معزولا عنها، فلا يقبل قوله بعد ذلك كالقاضي المنصوب للقضاء".

 

وعلى الرغم من تشكيك الشيخ محنض باب في أهلية المحكم القانونية حين قال: "إنه ليس من أهل النقض لأن النقض حُكم، وهو لا يحكم من غير تحكيم فما يصدر منه فتوى لا نقض حكم ولا حكما"، إلا ان هذا النوع من القضاء ظل سائدا فقد حكم أعمر ولد المختار النابغة القلاوي في نزاع من يحق له الإشراف على ميناء بورتانيك والتي قال فيها النابغة قوله المشهور:

واعلم أن الأرضَ أرضُ تنْدَغَا *** ومن أراد سبْقَهُم فقد بَغــَــى

 

وحكَّم سيد ولد محمد الحبيب القاضي أحمد ولد بدي العلوي [توفي 1905] في خلاف فقهاء الترارزة مع الشيخِ سعد أبيه وأخيه محمدٍ المأمون فحكم لهما، ومنه تحكيم العلامة ولد احمذي في النازلة التيجانية، ومنه تحكيم الأمير بيَّادَه للقاضي الجليل الحافظ ولد سيد أحمد بن مَحَّمْ في نزاع قبلي معروف وَلِيَّ القضاء بعده طويلا في تكَانِـتْ.

 

ومن الذين انتصبوا له من أبناء بوتلميت: القاضي أعمر ولد بُدَّه الفالي والذي قدم البلاد قبل مجيء الشيخ سيديا بعشر سنين وكان يثني عليه الشيخ في النوازل فكان قاضيا ماهرا، والقاضي العالم أحمد ولد محمد سالم ولد أحمد محمود ولد محم بابو الملقب أبتي والذي طلب منه الفرنسيون تولي القضاء فرفض .

 

وأما القضاة المحليون فهم المنتصبون للقضاء في بقعة من قبل المشيخة أو جماعة الحل والعقد أو الحاكم وعلى رأس المعينين بتلك الطريقة [عيَّنه الشيخ سيدي باب] القاضي والقائد والمفتي والشاعر العلامة سيد المختار بن أحمد محمودْ بن محمد مختار الملقب "مُتَّالْ" المولود سنة 1252 هـ الموافق 1838 م، وقد أخذ عن الشيخ سيدي الذي تنبَّه باكرا إلى نجابته وسرعة فهمه وكان صنوا وملازما لابنه الشيخ سيدي محمد حتى كانت عبارة: "العِيِّلْ" لا تطلق إلا عليهما فاشتركا في كل شيء حتى في الشعر، ومن ذلك المقطوعة التي اقتسماها صدرا وعجزا إبَّان سفرهما نحو تِيرسْ، فجاءت بديعة والتي يقولان فيها:

 

هاج التَّذكرَ للأوطان في الحين *** برق تألَّق من نحو الميامين

برق يحاكي اقـْتذاءَ الطير آونةً *** ونبضةَ العِرْقِ في بعض الأحَايين... إلخ

 

وقد ذاع صيت القاضي مُتَّالْ فمُدح كثيرًا بالشعر الفصيح والشعبي، ويكفي للتدليل على ريَّادته جواب الشيخ سيدي باب له على قصيدته الذائعة:

مِنَ الشّيخِ نَجلِ الشَّيخِ أَلتَمِسُ الدُّعَا *** جزاهُ إلَهُ النّاسِ خيرَ جزائهِ

وكَافأَهُ عَن صُنعِهِ الجَمِّ فضلهُ *** وكَافَأَهَ عَن جُودِهِ وسخَائِهِ

وعَن صَمتِهِ عَنْ غيرِ طاعةِ ربِّهِ *** وإِكرامِهِ المَلهُوفَ وقتَ نِدائِهِ

وعَن قَودِهِ للعُمْي والصُّمِّ لِلهُدى *** بِرِفقٍ وعنْ إِنفاقِهِ وحَيَائهِ

وعَن طُهرِهِ المَسبُوغِ آنَاءَ نَيلِهِ *** وعن قَومِهِ فِي ليلهِ ودُعائِهِ

وعَن قَولِهِ لِلحَقِّ إِذْ لَمْ يقُلْ بِهِ *** سِواهُ وعَن آدابِهِ واقتفَائِهِ

لسُنَّةِ خَيرِ الأنبِيَاءِ مُحمَّدٍ *** فكَانَ لأَجلِ الصِّدقِ مِن أولِيَائِهِ

وأيَّدَهُ فِي كلِّ خيرٍ إِلَهُنا *** وأيَّدَهُ فِي أَرضِهِ وسَمَائِهِ

 

فيجبه الشيخ سيدي باب بقصيدة فهم منها مُتَّال نعيه فيقول:

جزى السَّيدَ المختارَ خيرَ جزائه *** إلهُ الورى عن نُصحه ووَفائِهِ

وعن حَلِّـــــه في ختمه وارتحاله *** وإقرائــــــه القرآن بعد اقْتِرائِهِ

وإحيائه الليل الطويل مواظبـــــا *** على طهره في صيفه وشتائه

وأوراده في كل يــــــوم وليــــلة *** وأحزابه في صبحه ومسائـــه

وعن فقهه في الدين والجهلُ فائضٌ *** على ظُهْرها والغَيُّ في غُلْوائه

وإكرامه للجار والضيفِ جهدَه *** وعفَّــــته في عسره ومَلائِه

وإصلاحه أمرَ العشيرة كلَّه *** وإعراضه عن جاهل في جفائه

وعن حملِه للكَل دأبا وعونِه *** إذا نابت الجُلَّى وحسن غَنَائه

وأكرمه في حاله ومئاله  ***وكفاه ما يرضاه عند لقائه

و صلى على خير الانام مسلِّما *** وسائِر من قد أُكرِموا باصطفائه

 

وقد مَارَسَ القاضي مُتَّالْ الافتاء و القضاء خمسين عاما إلى أن تُوفي - رحمه الله تعالى - سنة 1336 هـ الموافق 1917 م ودُفن في البعلاتية، وأخذ العلم عنه ابنه الدَّاه، ومحمد محمود ولد يَدَّاد الحسني وله فتاوى فقهية جميلة، ورسالة في وجوب أداء الإتاوات للحُكَّام، ونقلة في الفرق بين الضاد والظاء، ترجم له ابن البراء في المجموعة الكبرى.

 

وفي وضوء وصول الفرنسيين إلى هذه الارض فقد أرسل كبولاني رسالته الشهيرة إلى الشيخ سيديَّ باب والتي يطمئنُه فيها متَعَهِّدا أنهم لن يمنعوا المسلمين من تطبيق شعائرهم بل سيعينونهم عليها بتنصيب القضاة ونحو ذلك، وبناء عليه كان المرسوم الصادر بتاريخ: 10 نوفمبر 1903 الذي نقل اختصاصات رئيس القرية إلى قاضي القبيلة الذي يعينه مفوض الحكومة في موريتانيا، وأبدل محاكم الأقاليم بمحاكم تنشأ في مقر إقامة المقيم وتتشكل من المقيم يساعده قاض شرعي ووجيه لإحدى قبائل الزوايا ووجيه لإحدى القبائل المحاربة يعينهم بداية كل سنة مفوض الحكومة العامة في موريتانيا، وأنشأ محكمة الدائرة التي تتكون من قائد الدائرة رئيسا يساعده قاض سام ورئيس قبيلة زوايا ورئيس قبيلة محاربة يعينهم مفوض الحكومة العامة بعد موافقة المدعي العام بداية كل سنة.

 

وسيتأسس بصدور المرسوم 5 يونيو 1905 نموذجان قضائيان: قضاء أهلي أو محلي indigène وقضاء فرنسي، و قد ظلَّ النوعُ الأول ساريا رغم الاحتلال الفرنسي، ولم يقتصر على القضاة الرسميين [قضاة المقاطعة] الذين قلدهم الفرنسيون هذه المسؤولية فقد كانت دائرته أوسع من ذلك وأرحب فلا تكاد تخلو قبيلة ولا حي من قاض يقطع الخصومة ويبين الوجه الشرعي في كل نزاع ويمكن للخصوم بعد ذلك أن يعرضوا قضيتهم على أي قاض آخر يوافق ذلك القاضي السابق، وأما النوع الثاني قضاء المقاطعة ويطلق على قاضيه القاضي السامي وهو الذي يحمل لقب قاضي الحاكم وينفذ العدالة باسمه ومقره المقاطعة وليس مخيم الأمير ولا سلطان له عليه ويتقيد نظره بالقضايا المدنية والتجارية وتعتبر أحكامه نافذة ما لم تتناقض مع المبادئ السامية للحضارة الفرنسية وهذا ما يفسر انتزاع الاختصاص في القضايا الجنائية منه .

 

لقد عين الفرنسيون لهذا الغرض القاضي العالم العامل العلامة سيد محمد [الراجل] ولد الدَّاه بن سيديا بن داداه بن المختار بن الهيبة الذي أخذ العلم عن عمه الشيخ سيديا الذي أوْلاَهُ موفور عنايته فهو بقية بيت أخيه الأكبر داداه، ثم درس على ابنه الشيخ سيد محمد وعلى الشيخ محمد محمود ولد عبد الفتاح، ودرس الفقه على العلامة محمد بن محمد سالم الذي أدركه حيا، وكان ماهرا في ديوان الشيخ سيد محمد يجري منه مجرى النفس ولد سنة 1265 / 1848 وتولى القضاء سنة 1911 / 1330 هـ، فكان قاضي المدينة الأهلي المعين إلى عام 1348 / 1929 حيث تخلى عن القضاء وتفرغ للتدريس، وقد قال عنه الشيخ باب ولد الشيخ سيدي باب أنه بلغ درجة الاجتهاد ووصفه بالعالم العامل، وقد أخذ عنه ابنه شيخ الشيوخ الشيخ عبد الله ولد داداه، والقاضي محمد يحي ولد الدَّنَبْجَة التندغي، والمحدِّث محمد ولد ابي مدين، وقد كان حازما في أقضيته جميل الصياغة موجز العبارة، يقول فيه مادحه على الدوام الشاعر مُحَمَّدُّو النَّانَّة بن المُعَلَّى:

تولَّى أمور المسلمين فرمَّها *** وأحْصَى الحَصَا منْها علَى كَثرة عَدَّا

وسَاسَ عَلَى حِذْق وحُسن تصرُّف *** فما جَازَهُ حدٌّ ولا جاَوَز الحَدَّا

أحاط بها علْمًا فحَاطَ حُدودها *** وأعطى جميعًا حَقَّه الحُرَ والعَبْدَا

مناقب سَمْح ٍيَشْتَري الحَمدَ بالنَّدى *** ومنْ ذَا الذي يُعطَى بلا ثَمَنٍ حَمْدَا

 

وقد أشرت السجلات القضائية التي بين أيدينا والمشتملة على 248 حكما من قبل حاكم دائرة اترارزة وكتب عليها بتاريخ: 23 شتمبر 1929: "إن جميع ما في السجل من أحكام وصلح وتقديم قد تم نظره من طرف الجماعة المكلفة بالنظر في أحكام القضاة وإنها لم تقف على أي خلل فيما تضمنه السجل المذكور". توفي رحمه الله تعالى 1941 م / 1360 هـ.

 

ومن بعده تولى الكرسي القضائي للمدينة القاضي الورع إسماعيل ولد باب ولد الشيخ سيدي [القاضي علما].

 

ولد سنة 1317 هـ / 1900 م، درس على والده الشيخ سيدي باب، وعلى العلامة يحظيه ولد عبد الودود الذي استقدمه والده من أجل تدريس النحو، وعلى العلامة محمد يحي اليعقوبي وعلى القاضي الراجل ولد داده وعلى الشيخ محمد محمود ولد اكرامة المجلسي وتدرب على البحث على يد أخيه الأكبر العالم محمد ولد الشيخ سيديا وتكاد تجمع الروايات أنه وَلِيَّ القضاء عام 1933 وكانت هذه التولية من قبل الدولة الفرنسية.

 

ولما وَلِيَّ القضاء واستقر على النَّجد الشرقي من المدينة قريبا من دار الكتب المعروفة بـ: "طيْبَة" استدعى جماعة من الفقهاء للإقامة معه ومنهم: محمد عال ولد ألفغ الطاهر المجلسي، ومحمد محمود ولد ابنُ عمر والقاضي أحمد بن محمد سالم "أبَتِي" الآبييري الانف وكانا خريجي محظرة أهل محمد ولد محمد سالم وكان يعرض عليهم ما يقضي به بين المتنازعين.

 

وكان القاضي إسماعيل ولد الشيخ سيدي يستنيب بعض العلماء ومنهم العلامة الجليل عبد الجليل ولد عبد الرحمن الذي استنابه 1939 وهو ممن أخذ عن باب ولد الشيخ سيديا وقد راجع حكمه في نازلة معروفة، فلما رجع نفذ ما سبق به الحكم بعد استشارة العلماء.

 

وقد استناب كذلك صديقه ومحبه المرابط محمد عالي بن عبد الودود 1307 هـ  / 1888 م – 1401 هـ / 1981 م. الذي كان عازفا عن ممارسة القضاء إلا أن إلحاح صديقه جعله يستجيب، وكان المرابط محمد عالي متفانيا في حب هذا القاضي وفيه يقول:

إلى الشيخ اسماعيلَ أوَّلِ أوَّل *** سلامي بنصٍّ بيِّنٍ لم يُؤوَّلِ

إلى بحر علم للأنام مسبلٍ *** وقبلةِ حاجٍ للورى لم تحوَّلِ

ولم يسْتند يوما إلى غير مُنْزلٍ *** فليس بخطِّيٍ وليس بجدول

إلى عمدتي إمَّا خُذلتُ وناصري *** ومن هو بعد الله أولى معوَّلِ

ومن هو صَوْبي ما حَيِيتُ وإن أكُن *** صَرفت إلى من دُونه عَينَ أحول

فلِي فيه أستاذٌ ولِي فيه مُؤنسٌ *** ولي فيه شيْخ في الطَّريق وَلِي ولِي

 

ولا شك أن مقام المُرابِط محمد عال لا تلخصه إلا عبارة شيخه العلامة يحظيه الذي كان شديد التعلق به حتى إذا جاءه كان يقول لتلاميذه إذا جاء ولد عدُّود فإني لستُ مَحْرَمَ الرجال يريد بذلك تفرُّغه للمذاكرة والحديث معه .

 

وظل القاضي إسماعيل يزاول مهنته القضائية إلى أن تتقاعد سنة 1963 بعد 30 سنة من القضاء حتى صارت كلمة القاضي لقبا عليه ولكل من يتسمَّى باسمه من أهل بيته في الأغلب. توفي رحمه الله 1409 / 1988 ودفن بالبعلاتية، وقد صدق الشيخ إبراهيم ولد يوسف ولد الشيخ سيديا [المُفْتي] حين قال مرثيته الطَّنَّانة له:

فما مثلُ اسماعيلَ قاضٍ عَلِمْتُه *** على ظَهْرهَا في الحَاضِرين ومَنْ غبرْ

 

وقد ترجم له ترجمة وافية ظافية ابن اخيه وسمِيِّه القاضي إسماعيل ولد يوسف ولد الشيخ سيديا في مذكرة تخرجه من المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية سنة 1991.

 

ومن بعده كان لأبناء هذه المدينة قَصَبُ السبْق في فصل الخصام، فقد تولى القضاء منهم جِلَّةٌ كانوا من بين الرعيل الأول من قضاة الدولة بعد الاستقلال وهم:

1. القاضي محمَّدن ولد محمَّذن فالْ ولد أحمَدُّ فالْ الشهير بالقاضي بن محمَّذِن فال التندغي وهو صاحب المناظرات الشهيرة مع الإمام بداه في مسالة التقليد والاجتهاد وهو شيخ محمد يحي الدَّنَبْجَة، وقد توفي 1401 – 1980.

2. العلامة محمد يحي ولد محمد الدَّنَبْجَة وهو من علماء الحِلَّة التندغية الشرقية ورئيسها كما يقول بن حامدٌ، أخذ العلم عن الراجل ولد داداه وعن القاضي محمدِّن ولد محمَّذن فال بن أحمدُّو فال التندغي وقد كان من القضاة التي تدربوا في بداية الستينيات من القرن الماضي في تونس، وقد تولى القضاء إلى أن توفي سنة 1978 / 1399.

3. القاضي محمد عبد الودود بن الشيخ محمد أحمد بن الرباني التندغي الذي كان حجة في اللغة، تولى القضاء إلى أن توفي سنة 1401 – 1980.

4. القاضي والمؤرخ البحَّاثَة الجوَّالة هارون ولد الشيخ سيديا الذي اشتغل بالبحث والتأليف وجمع أخبار المنطقة، وظل معارا لوزارة الثقافة إلى أن توفى 1977، وكان من أوائل الدفعة الأولى التي تم اختيارها بموجب المقرر رقم: 315 بتاريخ: 28/10/1960 المتضمن اكتتاب قضاة الدفعة الأولى [32] قاضيا. سيتم دمجهم بعد رجوعهم في سلك القضاء بموجب المرسوم رقم: 110.50 بتاريخ: 09\08\1963 وهي الدفعة التي كان من ضمنها بالإضافة إليه من أبناء مدينة بوتلميت القضاة: محمد ولد أبو مدين، والدنبجة ولد معاوية، ومحمد عبد الرحمن ولد ميلود، ومحمد سالم ولد عدود، ومحمد يحي ولد محمد الدنبجة، ومحمد ولد محمد فال، ومحمد ولد عبد القادر ولد ديدي، وسالم ولد الحسن ولد زين، وأحمدن ولد محمد مالك رحمهم الله جميعا.

 

ولا يمكن بحال أن يُختم الحديث في هذا الموضوع دون ذكر الدور الطَّلائعيِّ للمعهد الوطني للدراسات العليا الإسلامية ببوتلميت الذي أسسه القائد والعالم الشيخ عبد الله ولد الشيخ سيديا وأشرف عليه واستقدم العلماء والطلاب للتدريس والدراسة فيه، والذي كان من مهامه الإشراف على تكوين القضاة طبقا لمقتضيات القانون رقم: 098\61 بتاريخ: 24 مايو 1961، فقد كان لهذا الصَّرح الدور البارز في بقاء هذا العطاء متواصلا.. عطاء نرجو أن نُسْهِم في حمل لوائه.. وإلا يَكُن ذلك فجَهد المقل..

وليس يُلامُ المرْءُ في مبْلغ الجَهْدِ.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) - ورقة مقدمة لمهرجان بوتلميت الثقافي / النسخة الثانية: 29 – 30 - 31 مارس 2019