كتب على دولة بلادنا الحبيبة هذه، أن تولد بعملية قيصرية، قليل في حقها القول إنها بالغة الصعوبة، وقدر لها كذلك أن تختبر - وهي في المهد - نظام الأحادية الحزبية؛ وهو نظام يرجع له الفضل، رغم الهنات، في قيام الدولة، والمحافظة عليها، وتدعيم قواعدها، وانتزاعها لمكانة مرموقة بين جوارها شمالا وجنوبا، وحصولها على مقعد مشرف في المنظمات الإقليمية والدولية؛ ولكن تلك الأحادية المدنية، فرضت عليها حرب الأشقاء.. ثم جاء العسكر فرد الغنائم، واكتفى بالسلطة؛
تحولنا من أحادية حزبية مدنية، إلى أحادية عسكرية شرسة، اكتوت بها الدولة الهشة القائمة على أنقاض السيبة، وثارات الصراع القبلي، وعلى التحيز الجهوي، والعبودية والفئوية والتراتبية، فتداولتها الأحذية الخشنة لأبنائها العائدين من المعركة، المتسلقين إلى سدة الحكم، ليتداولوها انقلابا وحربا وكوارث، ردحا طويلا من الزمن، أتقن خلاله أطفالنا الرقص على المارش العسكري، قبل أن تتعلم فرق موسيقانا العسكرية قرع طبول الديمقراطية المزيفة؛
وذات انقلاب، في غيبة سيد القصر، قبل عقد ونصف، قرر المنقلبون تجربة التناوب الهادئ على السلطة، وتداولها بشكل سلمي، طبقا لمساطر محددة متفق عليها، بعيدا عن قعقعة السلاح والمغالبة والانقلابات، البيضاء والحمراء؛ فعمت الفرحة البلاد من أقطارها، بأفضل هدية قدمها النظام الديمقراطي للمجتمعات البشرية الحاضرة؛ لكن المحاولة ما فتئت أن أجهضت، وعادت حليمة إلى عادتها القديمة؛ ونحن نحاول اليوم - على علاتنا - إعادة الكَرَّة مرة أخرى، فلعل وعسى؛
وهكذا، وفي وضع غير توافقي، تنطلق محاولتنا الجديدة، مع رجاء عريض من المواطنين بأن يجنبها الله الإجهاض هذه المرة؛ لقد أشرع أبوابُ السباق نحو المنصب الأعلى في الدولة، على مصاريعها، فولج منها إلى الميدان – بالفعل - مرشحون ومترشحون، كانوا قد بدأوا في وقت مبكر، إعداد العدة وشد الأحزمة والأحذية، استعدادا للجولة؛ فيما يسابق مواطنون آخرون ما تبقى من الزمن الرسمي، استكمالا لأدوات دخول ذلك السباق، واشتراطات اليوم الموعود للانطلاق؛
حالة اللا توافق التي تكتنف المشهد السياسي في البلاد، منذ نحو عقد كامل من الزمن، راكمت على الطاولة تراثا هائلا من الصدود المتبادل بين فرقاء الساحة السياسية؛ صدود ضاقت معه وبه، إلى حد الحرج، مساحة الوصل، وبات الانسداد سيد الموقف، وفاقم من وضع القطيعة القائم ذاك، بعد الشقة في تقييم الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتهم المتبادلة بالمسؤولية عن تأزيمها، وعن المتاجرة بها وإلباسها لبوسا على غير مقاسها؛ مما جعل اللقاء مستحيلا؛
لكن وعلى الرغم من تلك الحالة المقلقة من الاستقطاب والانسداد، استطاعت الأطراف المعارضة، أن تتجاوز شروطها، وتنزل معترك الانتخابات العامة، خريف العام المنصرم، حيث أذاقت السلطة طعم الهزيمة في مواقع مشهودة، وخرجت بكسب مشرف من معركة أحادية التخطيط والتحضيرات والهيئات؛ والأمر نفسه هو ما يبدو أن المعارضة تتجه إليه في الرئاسيات الحالية، مع رفض النظام الاستجابة للحد الأدنى من مطالبها التي تعتبرها حقوقا دستورية صميمة.
هناك ما يتفق عليه الجميع، اليوم، دون أن يتفقوا، ويتمثل في أن خللا بَيِّنا مُعيقا، يميز واقعنا اليوم؛ وقد جرى التنبيه عليه في خرجات كل المرشحين حتى الآن؛ وفيما اكتفى مرشح النظام (ولد الغزواني) بالتنويه بخبرته في مكامن ذلك الخلل، وقدرته على الوصول إليها، قدم المرشح المدعوم من قوى مختلفة (ولد ببكر) حصيلة لأبرز اوجهه، وركز مرشح الصواب – إيرا (ولد اعبيدي) على وجهه الاجتماعي؛ أما مرشح ائتلاف المعارضة الراديكالية (ولد مولود) فعمر معركته ضد الخلل ربع قرن؛
بالطبع فإن المتنافسين من مختلف الأطراف، من دخل منهم الحلبة بالفعل، ومن هو على وشك الدخول إليها، ومهما تباينت خلفياتهم ومشاربهم ومشاريعهم المجتمعية، وسواء منهم من يدعو لاستمرار وتحسين الوضع القائم، أو من يسعون بجد للقطيعة الكاملة والنهائية معه؛ فإنهم – جميعا - من جلدتنا وأبناء ملتنا، ويفترض أن حالهم هو من حالنا، وأنهم يألمون لآلامنا، ويحزنون لأحزاننا، ويحلمون أحلامنا، وأنهم يحملون آمالنا جميعا في الفكاك والانعتاق؛ فكلهم يستحق الدعم إن بر وصدق؛
أما برامج المرشحين التي أنبـأت عنها إعلانات ترشحهم، بما في ذلك وعودهم، فتكاد تتشابه كأوراق الشجرة الواحدة؛ فكلها ترتكز، في الواقع، على تحريك هواجس الرغب والرهب (الخوف والطمع) في الناخبين الذين تحاصرهم البأساء والضراء، وثارات الماضي، وآثار الاستعباد، والغبن والتهميش، فضلا عن جحافل الفقر والجهل والمرض؛ وفيما عدا اختلاف المواقف من الوضع القائم، استمرارا أو قطيعة، فليس هناك بين البرامج والوعود فروق تذكر!
الناخب الموريتاني، وهو المفترض أنه صاحب الأمر الحقيقي، الذي يولي من شاء، ويحجب الولاية عمن يشاء، وهو صاحب الدور الحاسم في هذه المعركة، فيفترض فيه أن لا يمنح صوته إلا لمن اقتنع بشخصه وبرنامجه ووعوده؛ وهو - في وضعه الصحيح – يجب أن يراعي في اختياره معايير الكفاءة السياسية والإدارية، ونظافة الكف والضمير، والقدرة على المبادرة، ملاحظا التجربة وسابقة البذل للوطن والمواطنين، ومتوخيا بسط الأمن، وإشاعة قيم العدل والإحسان؛
تبقى حقيقة أن للنخب المغشوشة عندنا، من مأموري دوائر المخزن ورجال القبائل وسماسرة التزوير، وكل المهرجين وباعة الوهم والخرافة، لكل أولئك طرائقهم الملتوية، ووسائلهم القذرة والمتخلفة، في التأثير على مخرجات العملية؛ فتلك النخب الفاسدة، وانطلاقا من احتقارها للمواطن، وإمعانا في استغلاله، تزور إرادته جهارا، وتصده عن ممارسة حقه في الاختيار الحر، وتمنعه من التمتع بمصداقية المواطن الصالح؛ فتفرغ بذلك العملية، برمتها، من أي مضمون؛