تابعتُ بشوق واشتياقٍ كبيرين الندوةَ التي نظمتها زاويةُ العلامة الشيخ محمد اليدالي عن إنتاجه الفكري والمعرفي، متمنياً أن أكون معهم فأفوزَ فوزاً عظيما. مرددا "شوقتنا يا أُصَيْل" ولسانُ حالي ينشد قول أبي الطيب:
وَإنْ تكُنْ مُحْكَماتُ الشّكلِ تمنَعُني *** ظُهُورَ جَرْيٍ فــــلي فيهِنّ تَصْــهالُ..
ثم أَبَيْتُ إلا أن أشارك ولو عن بعد بما تيسر، فما لا يدرك كله لا يترك جله، وإن لم تكن إبلٌ فمعزى، ومن لم يجد ماءً تيمم، إلا أنني أول ما بدأت الكتابة أرتج علي وكنت كخداش، فالشيخ ذو أبعاد علمية متعددة، فهو الشاعر المُجيد، والعالم المَجيد، والمتصوف الفريد، والمصنف في كل مفيد، فلم أدر من أي الأبواب ألج، أمِن باب "التصوف فهو خاتمته"، أم من باب المديح فهو حسنُ بدئي واختتامي، وبراعة استهلالي، ومختمي وانتهائي، أم هل أتحدث عن الشيخ ذي العلم الغزير والشعر الجميل العزيز، كالتبر والذهب الإبريز، صاحب فرائد الفوائد ومقيد الشوارد الأوابد، مبيد الجهل "بالصوارم الهندوانية"، ومسدي "النصيحة" "المربية" وصاحب "شيم الزوايا" الأصيلة،
فما عسى أن أقول فيمن هذا شأنه وقدره؟
أما النحو فكان ابنَ مالكه وهشامَه، ويَحْصُبي التجويد وإمامَه، وسيوطيَّ التصنيف وهُمامَه، وابنَ بَجدة التصوف وابنَ جلاه، وأبا طيب الشعر ومُحلاّه، بشعر سهلٍ ممتنع القياد لغير أهله، منبسط المعنى على قدر لفظه، ذي معان رائقة رائعة، فهو لعمري رب المعاني الدِّقاق، ذاتِ النصاعة والإشراق، والمجلي في الشعر باستحقاق، فلم يَجُرْ معناه على لفظه، ولا لفظه طغى على معناه، وأتى فيه بكل معنى مبتكر، لم يسر فيه على أثر.
وأما التأليف والتصنيف فكانا مجرَّ عواليه، وميدانه السابق فيه، بمتنَيْ لاحقٍ ووجيه، فأتى فيه بالفرائد والإبريز، وكل نفيس وعزيز، وجاء بكل لطيفةٍ غريبة، في "حلة" قشيبة، وكل عِلْقٍ وعقد نظيم، وفوق كل ذي علم عليم.
وفي العبادات كان المصلي والمجلي، وكان همه الكتاب المستبين، والذكر الصحيح الحسين، فأثرت عنه الكراماتُ في حِلِّه وترحاله، والزهدُ والعبادةُ في جميع أحواله، رحمه الله ونفعنا ببركته.
يُدِلُّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كُلُّ فاخِرٍ *** وَقَدْ جَمَعَ الرَّحْمنُ فِيْه المَعَانِيَا
وبعدُ أخي القارئ، هذه خواطر متابع ومعجب، أما ترجمة الشيخ فمتداولة واسمه يُغني عن كل تعريف، وهل غادر المترجمون من متردم؟ فلن يُؤتى بجديد في ذلك المجال، فأردتُ أن أقتصر على هذه الخواطر، تحيةً مني لهذه الندوة ومشاركة فيها، وهذا جهد المقل، والتزبُّب قبل التحصرم كما يقولون، وأختم ببيتين من مرثيتي للصديق المرحوم أحمد سعيد ولد لمرابط رحمه الله:
يَا بَني شَيْخِنا اليَداليِّ لا زِلْــ *** ـتُمْ بُنَاةً لِلْحُسْنِ والإحْسَانِ
دُمْتُمُ مربعَ السيادة فينا *** إنْ مـضى سيدٌ أتى سيدانِ
دُمْتُمُ قَادَةً لَنَا وَشُيُوخاً *** وَمَنَاراً يَهْدي إِلى الإِيمَانِ..
آمين.