في يوم الجمعة 3 مارس، انطلقت في حدود الساعة 44 مساء على متن الخطوط الأرضية، باص تنبعث منه رائحة الفوضى ولا تكاد تميز فيه بين الأمتعة والبشر، فكل ما فيه متكدس على بعضه البعض، تماما كمنازل العاصمة المتناثرة قرب البحر كأمتعة المسافرين، إن عاصمتنا لتضمر في نفسها الرحيل، وإن أظهرت لنا غير ذلك..
من مطار تنسويلم الأرضي انطلقت القافلة، كان الباص يتصبب حرا رغم ثقوب التكييف في سقفه. على مرمى البصر، يبدو الأمل متوقدا بقوة في نظرات الناس، رغم ما في تلك الشوارع المطرزة بالصبر من عوز ظاهر وباطن، الباعة المتجولين وهم يستبقون نوافذ الباص عند كل توقف له عند نقاط التفتيش، يجتذبون بإصرارهم نظر الركاب دائما، كأن الكسب من عرق جبينهم، يزرع البركة في أرباحهم القليلة، ويوسع مساحة الرضا في قلوبهم.
على ناصية طريق الأمل جهة الحزام الأخضر، رأيت جثة ناقة مرمية بجانب الرصيف، وقرب المنازل، عند مرورنا بها فاحت منها رائحة ما، وجدتها أنا "زكية" تماما، لأنني شممتها بأنف الحكومة والمجموعة الحضرية!
خرجنا من مدخل العاصمة شرقا جهة القدر، إنها عاصمة لا قلب لها! فإن كان قلبها النابض هو "كبيتال"، فأدركوا قلبها، فإنه يعج بالقمامة والوعود الميتة..
كان السائق يجمع ما تيسر له من المسافرين، كأنه فلاح يلتقط الثمار في حقله، حين نجح في تعبئة كل المقاعد الأصلية، و تلك المستحدثة، استقام المقود في يده على الطريق، ولا أعلم إن كان كسبه ذلك، له، أم للشركة؟
تناولنا العشاء فرادى وجماعات في مقطع لحجار، وقد بدا المناخ فيها غامضا بشدة، حيث بدا ممسكا بكلتا يديه الصيف و"الربيع" معا، أكثر شيء قد لفت انتباهي تحت تلك الأعرشة المخصصة للعابرين، وأعجبني جدا، وجود طفلة صغيرة جدا، تتحدث بلغة فصيحة مع عائلتها، كأني بها ضلت طريقها في مضارب بني عبس، وتقتفي آثار جدها الذي يمتهن وزن القصائد في سوق عكاظ، حتى تسمعه بعضا من قريضها، والمكتوب بحروف "لاتينية" كبيرة على شاشة لوح ذكي مستورد من كوريا الجنوبية عن طريق تاجر موريتاني "ميسور"، يمتلك قصرا فخما في أعالي "تفرغ زينة"، يتركه للحراس دائما ليبيت في فضاء مفتوح، قرب سيارة مصفحة، وبندقية يتعقب بها قطعان الغزلان المسكينة، والمهددة بالإنقراض.
في ضواحي "توجكجيت"، مررنا بباص منكمش ومحطم النوافذ، بعد عملية التحام عنيفة بشاحنة كبيرة كما يبدو من آثار الحادث، كانت تلك الشاحنة تقف غير بعيد عنه بطريقة لولبية وبعنق ملتوي، إنها أرواح غادرت الحياة إلى الأبد، لكنها ستمر بكل تأكيد على مسامعنا في نشرات الأخبار على شكل أرقام لا روح فيها!
تأكدت أنا من ربط حزام الأمان، فذلك هو أفضل اعتذار قد أقدمه لنفسي المودعة، في حالة تداخل جسدي مع شظايا الزجاج والحديد، بسبب الحفر، وهشاشة الرقابة وغياب الصيانة، وتهور السائقين، وأنانية شركات النقل الباحثة عن الأرباح في وقت وجيز، ولغياب الإسعافات المتحركة أيضا على طول الطريق..
نمنا تحت عريش غطاءه رث، لكنه كان يقي من الهواء المسبب للترهل المبكر للعظام، صلينا الصبح في سفح هضبة "جوك" الشهيرة، قرأ الإمام سورة البروج، أزال الوعيد فيها؛ غشاوة من الغفلة، أظنها قد تكدست على قلبي، من بعد رؤية زخرف هذه الدنيا من مكان مضمخ بإغرائها الساحر والزائل...
انطلقنا، وكان وميض الشمس الخافت يتسع ويبدد خيوط العتمة، ويكشف بعضا من ملامح باسقات النخل الواقفة بثبات بين البطحاء وسفح جبل "كامور"، إن لهذا الزمن لروح تسكن داخل التضاريس، وتضفي عليها لمسة من وقار الانجذاب، هذا ما قد شعرت به في جزيرة "جربة" المحفوفة بالماء، وهذا ما شعرت به تماما، وأنا مرتحل إلى جزيرة "تامشكط" المحفوفة بالعزلة والرمال..
لما صارت رئة النهار تنفث رياحها المنقوعة في أشعة الشمس، وصلت فراج تامشكط حوالي الساعة التاسعة صباحا، تفرست ملامح الأفق جهة بساط "رامبله"، فخيل إلي أنني رأيت لافتة مرفوعة وسط السراب، وقد كتب عليها بخط واضح: مرحبا بكم في القرن 18!
بقيت اتقلب ذات اليمين وذات الشمال على فراش رخو وعتيق، كأنني شعرت بأجساد من تقلبوا في هذا المكان منذ وجوده، وقد وجدت لذلك أنسا، لم تكن هنالك سيارة أجرة مكتملة النصاب، فانتظرت مع المنتظرين، بعد سبع ساعات، انطلقنا قبيل صلاة العصر، ووصلنا مع الغروب لهضبة تامشكط، وذلك مساء يوم السبت 4 مارس، بعد 24 ساعة تقريبا، من السفر داخل السفر.
أربعة أيام خصبة وحالمة، تلك التي قد قضيتها في فندق من فئة خمس نجوم على ضفاف المتوسط في "جزيرة جربة"، لكن آثارها تلاشت، وأنا أخرج أمتعتي المكسوة بالغبار من مؤخرة سيارة من نوع مرسيدس 190 في جزيرة تامشكط النائية، بعد قطع 690 كلم تقريبا على طريق الأمل، و 90 كلم من "رامبله الحمرة".
هنا تامشكط، والحياة جميلة جدا، وعبق البساطة في كل مكان، والأنترنت ضعيفة تماما، وأنا أشعر بأنني أعيش في القرن "الثامن عشر"، لكنني أفضل تقريبا من سكان نواكشوط، الذين يتوهمون لقلة حيلتهم، بأنهم يعيشون في القرن 21.
اعتذر مسبقا عن عدم التفاعل مع تعليقاتكم، ورسائلكم أيضا، ففتح رسالة هنا يكاد يشبه فتح القسطنطينية قبل ولادة محمد الفاتح، كما أنني أعتذر لساكنة تامشكط إن شعروا بإن كلماتي فيها نوع من التحامل البريء على مدينتهم الجميلة والبعيدة.
الساعة 04:48 صباحا، وهذه هي المحاولة ما بعد العاشرة فمنذ مساء السبت وأنا أحاول إخراج هذا المنشور للعلن، وفي الليلة الظلماء تفتقد Wi-Fi فندق Radisson هناك على ضفة المتوسط في جزيرة جربة، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..