لو سُئلَ أحدُنا: "كيف ينبغي أن تكونَ صلتُك بربِّك" لَمَا تردَّدَ: "ينبغي أن تكونَ صلةَ عبادةٍ: محبّةً وخشيةً وطاعةً وحمدًا وشكرًا...". لكنْ إنْ أُعيدَ عليه السؤالُ بصياغة جديدة: "هل أنتَ راضٍ عن صلتِكَ بربّك"؟ لَتَلَعْثَمَ وتَلَكَّأَ مُنبئًا، بحاله ومقاله، عن تقصيرٍ، وعن وعيٍ بذلك التَّقصير، دون السَّعيِ إلى معالجته.
***
لِنَدْنُ من سورةِ العاديَات بحثًا عن صلتنا بخالقنا.
وقبل ذلك نوردُ بعضَ خصوصيات السورة الكريمة تمهيدًا للاسْتِبْصارِ بها، وسُلَّمًا للارتقاءِ إليها.
***
1. تضمَّنتِ سورة العاديَات رصيدا من الألفاظ لم يَردْ في غيرها من السور، يُغطِّي زُهاءَ خُمسها، وهو: (العاديات، الموريات، المغيرات، ضَبْحا، قَدْحا، نَقْعا، كَنود، حُصِّلَ).
2. تميزتِ السورةُ بالتَّشاكُل والتَّجانُس بين وَحداتها المعجميَّة صيغةً ودلالةً. ومن أبرز أمثلةِ ذلك معجمُ الحرب فيها: (العاديات، المغيرات، النقع، الجمع) الذي شَكَّلَ بنيةً قائمةَ الذات، وحقلًا دلاليًّا منسجمًا، زاد من انسجامه وجود الألفاظ الدالة فيه على: الحركة، والصَّوت، واللَّون، على وجهٍ يبدو به المقسم به مَشْهَدًا نابضًا بالحيويَّة:
- نسمع فيه صوتَ الخيل يضطربُ في حَناجرها {ضَبْحًا}.
- نرى فيه:
ما تُوقدُه من نار حين تضربُ بسنابكها الحجارةَ ليلا، وهي تعدو {فالموريات قدحا}.
ما تُثيره مِن غبار في أرض المعركة {فأثرن به نقعا}.
- نلحظُ أثرَها في الأعداء حينَ:
تُغِيرُ عليهم {فالمغيرات صبحا}.
تُشتِّتُ شمْلَهم مُعلنَةً الانتصار {فوسطن به جمعا}.
***
تدور السورة حول محور واحد هو (كُفْرَانُ الإنسانِ نِعَمَ ربِّه)، وتتألَّف من ثلاثة مقاطعَ متماسكةٍ، يأخذ بعضها برقاب بعض:
1. مقطع يُمثِّله صدرُ السورة، وفيه #القَسَم على صلة العبد بربه {والعاديات ...جمعا} (5 آيات).
2. مقطع يُمثِّله وسطُ السورة، ويكشف #طبيعة تلك الصلة [إن الإنسان لربه لكنود ... شهيد} (3 آيات).
3. مقطع يُمثِّله آخرُ السورة، ويتضمَّن #التهديدَ_لِمَن لم تكن صلتُه بربه كما ينبغي {أفلا يعلم ...لخبير} (3 آيات).
***
يَتَّسِقُ القَسَمُ، في المقطع الأول، مع محور السورة. فالخيْل من نِعَمِ الله تعالى العظيمةِ، المعقودِ بنَواصيها الخيرُ إلى يوم القيامة، وهي مما يَتَعَلَّقُ به البَشَرُ قديما وحديثا: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ}. ففي القَسَمِ بها تذكير بنِعَم الخالق، وإيحاءٌ بأنه يجبُ أن يُشكر لا أن يُكفر، ثم إن القَسَمَ بها مشتمل على الإنسان؛ إذ إنها (أي الخيل) مهما كانت كريمةً أصيلةً فإنها لا تُغني شيئا، ولا تَعني شيئا، ما لم يَمْتَطِ صَهواتِها فُرسانٌ نُجبٌ.
***
في معرضِ بيانِ السُّورة علاقَةَ الإنسانِ بالله - تبارك وتعالى - وَرَدَ الحديثُ بالرَّبِّ: {إن الإنسان #لربه ...} إيذانًا بأن كُفرانَه لا وجهَ له؛ إذِ الرَّبُّ هو: الخالق الرازق المالك. ومن كانت هذه صفاته كان حقيقًا بمن يَرْفلُ في نعَمِه أن يكونَ مُطيعًا له، شاكرًا لأَنْعُمِهِ، لكنَّ طبيعةَ الإنسان مُجافيةٌ لهذا المسلَك؛ فهو لربه #كَنُودٌ.
#والكَنود "مَبْنًى لغويٌّ تَتَنازَعَهُ صفاتٌ سلبيةٌ كثيرةٌ عِمَادَاهَا: #جُحُودُ النِّعَمِ وكُفْرَانُها، فصاحبه "يَنسَى كثيرَ النِّعمةِ بقليلِ المحنةِ"، ويَلُومُ ربَّه في أيْسر نِقْمة"، و"يَرَى النِّعْمَةَ وَلَا يَرَى الْمُنْعِمَ و"يَمْنَعُ مَا عَلَيْهِ من الحق"، شأنُه شأنُ الأَرْض الكَنُودِ الَّتِي لَا تُنْبِتُ شَيْئًا، مع ما ينزل عليها من المطر الغزير، وجَزَعُه حاضر، ورِفْدُه غائب: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعا} (المعارج: 19 - 21) ما عدا الأنبياء منهم، ومن على شاكلتهم من كُمَّلِ الصالحين.
***
دَعْكَ من الكُفر، والنِّفاق،ِ والعصيانِ، وانظُر إلى نفسك – وأنت امرؤ مؤمنٌ - في صِلَتِهَا بربها. ألا ترى أنك تتعامل مع النِّعَمِ كما لو كانت حقا من حقوقك، لا يلزم شكرها؟ أنتَ تُمسي في عافية، وتصبح في أخرى مُمَتَّعًا بثروةٍ لا حدودَ لها تشملُ: الحياةَ نفسَها والصِّحةَ، والفراغَ، والحريةَ... فهل وَظَّفْتَ النِّعَمَ فيما الأصلُ أن تُوظَّف فيه بما في ذلك نعمُ: العقلِ والجوارِحِ والمالِ؛ شكرًا لله تعالى؟
***
إنَّ #الكُنودُ جِبِلَّةٌ مُتَجَذِّرَةٌ في الإنسانِ، شأنُها شأنُ العجَلة والهَلَع. وإيرادُها هنا ليس لمجرَّدِ الإخبارِ؛ بل مُشْعِرُ بضرورة أن يُقاومَ الإنسانَ هذا الخُلُقَ المتأصِّلَ ارتقاءً بنفسه عن حَمْأَة الواقع.
***
ومع أن لفظ #الكَنود من أبنية المبالغة، ومع أنه، كذلك، مُوحٍ بالجلافة والجمود والغلظة - فهو كافٍ لوصف الصلة المتحدَّث عنها- فقد عُزِّزَ بصفتين عَمَّقَتا الوجهةَ الدلاليِّة له، وظهَرَ بهما الإنسانُ مُفْرِطًا في كُنوده لربِّه.
أما #الصفة_الأولى: فمؤداها أن الإنسان - إضافةً إلى اتصافه بالكُنود - يَعلم - مِن نفسِه، اعتقادًا وعملًا - اتصافه بذلك الوصف {وإنه على ذلك لشهيد}.
وهذا مما يضاعف كُنوده! فهو كَنود، ويعلم أنه كَنود!
***
وأما الصفة الثانية: فتُقرِّرُ بُخْلَ الإنسانِ، وشُحَّ نفسِه، وتعلُّقَه بالمال: {وإنه لحب الخير لشديد}.
حبُّ المال جِبِلَّةٌ في الإنسان لكن المذموم أن تبلغَ درجةُ هذا الحب وهذا التعلُّق حدًّا يحمل صاحبه على منعِ الحقِّ، وعدَمِ أداء الواجب. وهو أمرٌ تشهد له آية الفجر {كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا} (الفجر 17 – 20).
ولا ريب أن هذا السلوك لا يعكس حمد النعمة المالية التي يفترض أن يكون فيها حق للسائل والمحروم شكرا للمنعم بها.
(ويَظهَر الإنسانُ، في القرآن، بوجه عامٍّ، قَتُورا مُمْسكا خشيةَ الإنفاق، مسقطا، من حسابه، أولى الحقوق من اليتامى والمساكين، وما ذاك إلا وجه من أوجه كُنوده).
***
ومن الجلي أن إيراد المال في هذا المقام ليس اعتباطا؛ لأن المال في عرف الناس من النعم الظاهرة التي تُعَدُّ معيارا للشكر.
***
في المقطع الأخير / الثَّالث تُرتِّبُ السُّورةُ على الْمُقَسَم عليه النتيجةَ التي يقتضيها الحال، وهي التهديد العلنيُّ المستحَقّ. فالإنسان الكَنود الجَحود المنوع، أيَّامُه لها نهايةٌ، وحسابُه قادم لا محالة {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ}.
ونلمح في ختام السورة إضاءاتٍ مسلطةً على أغوار النفس البشرية، تُوَجِّهُ الإنسانَ نحو الإخلاص وتُرشده إلى أنَّ العبرةَ، في الأعمال، إنما هي بالنيات والقلوب {وحصل ما في الصدور}، وتحذره من الأدوار التمثيلية: سمعةً ورياءً؛ ذلك بأنه يستطيع أن يحرس - في الدنيا - مملكته الداخلية، فلا يطَّلع عليها غيرُه، لكن الأمرَ مختلفٌ يوم تُبْلَى السَّرَائرُ {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ}.
***
والحاصِلُ أنَّنا إذا أخذْنا في الاعتبارِ الطَّبيعةَ التَّكامليَّةَ لنصوصِ القرءانِ الكريمِ نَجِدُ أن السورةَ الكريمةَ رَسَمَتْ صلةَ العبدِ بربِّه في بُعدها السَّلبيِّ. وهي ناطقةٌ - بمفهومها – أن تلكَ الصلةَ يجبُ أن تكونَ مناقضةً للحالِ المذكورةِ.