توطئة:
جاءت مدونة الحقوق العينية كاستجابة تشريعية لما ظلّ يمليه الواقع العقاري والوازع السيادي للدولة ردحا طويلا من الزمن، فقد ظلّ الحقل العقاري الموريتاني في قبضةِ التشريع الفرنسي منذُ مطلعِ القرنِ العشرين إلى غاية نفاذ المدونة. وهو المسارُ الذي بزقَ نجمهُ مع انبلاج المرسوم الفرنسي الصادر بتاريخ: 24 يوليو 1906، المنظم للملكية العقارية في إفريقيا الغربية الفرنسية. والذي عُدِّلَ وأُدخلت عليه تحسيناتٌ واسعة بموجب المرسوم الصادر بتاريخ: 26 يوليو 1932 الذي تضمّن ما يُعرفُ اليوم في المسلسل التعاقبيّ للأنظمة القانونية الإشهارية المؤطرة للعقار بنظام "روبرت تورانس" [Robert torrance].
ولئن كانت هذه النصوص القانونيّة التي تدَخَّل بها المشرع الفرنسي - كما يراها الكثير من الباحثين القانونيين - جُزءًا من المُخطط الاستعماري، أنجبتها رغبة المستعمر في الاستحواذ على الأرض. [1] فقد ظلّت الحاجة إلى تحرير الحقل العقاري الوطني منها شاخصة في صميم عملية الاستقلال. وهو الأمر الذي يُبرهِنُ على أنّ ضرورة التدخل لتحقيق هذا المبتغى؛ لم تكُن وليدة حاجة اجتماعية جديرة بالتجاوب التشريعي، بقدرِ ما كانت مطلبا وطنيا سياديّا بالدرجة الأولى. فلا شيءَ أكثر مدعاةً للحرج النرجسي في ذهنية المجتمع الدّوليّ، من أن تكونَ الدولة - أيّ دولة - خاضعةً على إقليمها لنصّ قانونيّ أجنبي، أحرى أن يكون هذا النّص بقية خطاب تشريعيّ لمستعمر ظلّ لفترة طويلة من الزمن؛ حاجبا عنها ضوء السيادة، كاسفا عنها شمس التحرّر.
واستشعارًا لهذا المطلب المُلح، الذي تعزز لاحقا بحاجة الحقل العقاري الوطني الماسة إلى نظام قانونيٍّ يتقاسمُ معه خصوصيّته الزمكانية، ويشاركه عبءَ التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؛ أخذ المشرعُ الموريتاني على عاتقة مسؤولية التدخل، فوضع مدونة الحقوق العينية، التي جاءت منضويّة تحت لواء القانون رقم 2017/014 المنشورة في الجريدة الرسمية في عددها 1397 الصادر بتاريخ 30 سبتمبر 2017 معلنةً - في مادتها 415 - ميلاد مسار جديد في توجه التشريع الوطني في المجال العقاري.
لقد تميّزت هذه المدونة على الصعيد العملي؛ بأنّها وضعت حدًا لازدواجية النُظم القانونيّة في الحقل، وأعادت الثقة في السندات العقاريّة بعد أزمة الشك التي شهدتها جرّاء وقعِ مرسوم 2010، [2] المطبق للأمر القانوني رقم 127/83 [3]، الذي أتاح في مادته 10 إمكانية الطعن فيها بالتدليس. وهو الأمر الذي خلقَ أزمةً أمنية عقارية كادت أن تؤدي إلى انهيار الاقتصاد الوطني. ما حدى بالمشرّع إلى التدخل بشكل جادٍ لوضع سياسة تشريعية فاعلة تتوخى انقاذ الاقتصاد بتمكين العقار من لعب دوره الأساسي دون مشاكل، سواءً تعلّق ذلك بتمثله كمادة للاستثمار أو كضمانة له. فأضفى على السندات العقارية القوة الحُجية اللازمة لتضطلع بما يناط بها. وذلك في المادة 366 من المدونة حين نص على أنه "لا يمكنُ اللجوء إلى أي طعن ضد العقار بحجة المطالبة بحق متضرر جراء التسجيل". ليأتي هذا المقتضى من أجل توفير الحدّ الأدنى من الأمن والاستقرار الذي يضمنُ مشاركة العقار في الدورة الاقتصادية.
وعلى أن هذا التدخل الذي جسّدته المدونة كانَ في غاية الأهمية، لما أضافته للحقل العقاري؛ إلا إنّها لم تكُن في خطابها التشريعي -فيما يتعلق بالصياغة- على قدر التطلعات.
فعلى الصعيد الشكلي جاءت أحكامُ هذه المدونة موزّعة على كتابين، اختص الأول منهما بنتظيم الحقوق العينية عموما، فيما انفرد الثاني بتنظيم العقارات المسجلة وإجراءات التسجيل. وقد اتسمت بإصرافٍ غريب في العنونة، والمفارقة أنّه في كثيرٍ من الأحيانِ يكادُ لا يكون للعنوانِ أي علاقة بفحوى المُعَنون. وفي آحايينَ أُخرى يأتي عنوان واحد لمقتضيات مختلفة.
أما على الصعيد البنيويِّ، فلابدّ أن نملكَ من الجُرأةِ ما يسمحُ لنا بالقولِ إنّها جاءت هشة البناءِ اللغويّ، ضعيفة التماسك المصطلحي، غامضة الدلالة.
وعلى الصعيد الموضوعيّ؛ جاءت هذه المدونة رديئة الترجمة، كثيرة الحشوِ، زاخرةً بالتعاريف المتجاوزة، فقد ورد في مضامينها ما يقارب عشرين تعريفًا[4] على الرغمِ من أنّ التعاريف مهام فقهية بحتة لا تدخل في اختصاص المشرّع. وهو الأمرُ الذي إن لم يضيِّق صدر المدونة، فلن يمنحها بالقطعِ المرونة التي يقتضيها التعاطي مع التدفق الهائل للوقائع والقضايا التي يُفرزها الواقع العقاري.
وانطلاقا من هذه التوطئة؛ سنُحاول -في هذه المعالجة المتواضعة- أن نقدّم في عجالة نماذجا على الملاحظات التي ذكرنا في المقدمة، وذلك على النّحو التالي وليقس ما لم يُقل:
أولا: حول إشكالية التعاريف..
وهنا سنقتصرُ على أهم ما عُرِّفَ في المدونة وهو العقار، ذلك لكونّه هو المدخل الأهم والبوابة الرئيسة للمعالجة التشريعية.
تنص المادة 2 المُعنونة ب تعريف العقار [Définition de l'immeuble] على ما يلي: العقار هو كل شيء ثابت لا يمكن نقله دون أن يتضرر.
لقد عرف المشرع العقار في هذه المادة بما يمكن أن نُسمّيه -إن صحّ التعبير- بالجيل الثاني من التعاريف الفقهية للعقار، وهو الجيل الذي ينطلق من الاعتقاد بقابلية تنقله، ويركن في إطار تمييزه عن المنقولات إلى الأثر المترتب على عملية التنقل. حيث يعتبرُه -على خلاف تصوّر الجيل الأول من التعاريف الفقهية- هو ما يتصوّر نقلهُ فعلا، ولكن مع تلف يلحقُ به جراء نقله. وهو التعريف الذي تأخذُ به الآن جل التشريعات العربية.
أما تصوّر الجيل الأول الذي أشرنا إليه؛ فينطلقُ من الاعتقاد الراسخ بالاستحالة المطلقة لتنقل العقار، فيُعرّفه بأنّه "مالا يُمكنُ نقله أبدًا" ومن ثمَّ يكونُ العقار بهذا المعنى، أضيق مفهوما من الأول، إذ أنّه -بهذا التصور- يكون مقتصرا على الأرضِ[5].
أما الجيلُ الثالثُ من هذه التعاريفِ؛ - وهو الجيل الأحدث - فهو الذي ينطلّق - على خلاف الجيلين السابقين - من التسليم بإمكانية نقل العقارِ ودون أن يلحقه جراءَ ذلك أي تلف، فيميّزُ بينه والمنقول من خلال متطلبات نقل كل منهما، ومثاله تعريفُ الفقيه مامون الكُزبري، وهو أنّ "العقار بطبيعته هو الشيءُ المعد في الأصل لأن يبقى مستقرا في حيزه ثابتا فيه لا ينقل منهُ إلا استثناءً ويتطلّب نقله في أغلب الأحيانِ استعمال وسائل تقنية خاصة لا تتوفر عادة إلا لدى الأخصائيين"[6]. وهو التعريف الأكثر ملاءمة -في الوقتِ الرّاهن على الأقل- للتطور الذي شهده الحقل العقاري بفضل التقدم التكنولوجي. ذلك أنه أصبح في ظل هذا التقدم التقني بالإمكان نقل الكثير من العقارات دون أن يطالها جراءَ ذلك النقل أي ضرر. (مثال ذلك نقل معبد "أبو سمبل" في مصر عام 1964م).
وبناءً على ما تقدم نسجلُ هنا ملاحظتين :
الأولى: هي أنّه كان - في البداية - على المشرع أن يكونَ مُدركًا أن التعاريف -كما رأينا- جدليات فقهية بحتة، وعليهِ كانَ الأولى به أن يتركها للفقه، إذ ليس من مهام المشرّعين الولوج في خضم النقاشات الفقهية، خصوصا منها ما يتمحورُ حول التعاريف. وصفوة القول أنّه كان الأصوبُ أن يُمسكَ قلمه -كما هو توجه التشريعات المعاصرة اليوم- عن التعاريف، فيتركها للفقه ويفسحُ المجال للسلطة التقديرية للقضاء للترجيح بينها. ذلك لئلا يكبحَ القدرة الاستيعابية للنّص.
أما الملاحظة الثانية، فهي أنه لما أصرّ - أي المشرع - على تزويد المدونة بالتعاريف؛ فكانَ الأولى به على الأقل أن يأخذ منها بالصنف الأكثر ملاءمة للتطور الذي لحق الحقل العقاري بفعل التقدم العلمي والتكنولوجي (تعريف مامون الكزبري مثلا)، هذا إذا سلمنا جدلا بضرورة التعاريف.
ثانيا: حول ظاهرة الحشو:
لم تخلُ هذه المدونة - كما أشرنا إلى ذلك في المقدمة - من مواد كانت مجردَ حشوٍ لا غير، حيث جاءت لتكرارِ مقتضيات مقررة أصلا. وهذه المواد نذكرُ منها على سبيل المثال لا الحصر المواد التالية:
المادة 12: نزع الملكية [Expropriation]. "لا يجبر أيا كان على التنازل عن ملكيته إلا أن يكون ذلك لمصلحة ذات نفع عام وفي مقابل تعويض عادل".
تقرّ هذه المادة - كما هو واضح - مبدأ احترام الملكية الخاصة، فتنص على منع إجبار المُلاك الخصوصيين على التنازل عن ملكياتهم ما لم تقتض ذلك المصلحة العامة شريطة التعويض العادل. وعلى الرغم من أنّ هذا المبدأ ضروري حُضوره في المنظومة التشريعية، إلا أنّه غاب عن المشرع في المدونة، أنّه سبق وأن أقرته المادة: 15 من الدستور، [7]، وجسّده الأمر القانوني 127/83 في المادة: 21، وطبقّته المواد 11، و12، و13 من مرسوم: 080/2010. وعليهِ، كانَ الأولى به - طالما أنّه لم يُضِف في شأنِه أي جديد - أن يتفادى الحشو بعدم تكراره. ذلك أنه لا قيمة عملية ترتجى من تأكيد مقتضى وارد في نصّ بص آخر يُزاحمه في نفس المركز القانوني داخل الهرم التشريعي، أحرى إذا كانَ هذا المقتضى قد أقرته الوثيقة الدستورية.
نفس التكرار نجدُه في المادة 9 التي رسمت حُدود ممارسة حق الملكية، [Exercice du droit de propriété] حيث نصت على أنَّه "لا يمكن لأي كان أن يمارس حقه في الملكية بنية إلحاق الضرر بالآخرين". ذلك أنّ ذات المقتضى الذي ورد في هذه المادة؛ نصّت عليه المادة 16 من ق.ا.ع.م [8] التي جاءت لإرساء دعائم نظرية التعسّف في استعمال الحق. فنصت على أنّه "يعتبر استعمال الحق تعسفيا في الأحوال التالية:
1. إذا وقع بقصد الإضرار بالغير (مقتضى المادة 9 من المدونة).
2. إذا كان الغرضُ منه الحصول على فائدة غير مشروعة.
3. إذا كانت الفائدة التي يرجى الحصول عليها قليلة جدًا بالنسبة للضرر الذي ينشأ عنها للغير.
وعليهِ، فحيثُ أن المشرع في هذا النص - كما هو الحال في تناوله لنزع الملكية - لم يُضف جديدًا للمقتضى الذي ورد في ق.ا.ع.م، فكانَ الأولى إمساكه عن تكراره تفاديا للحشو.
صورة أخرى من صور هذا الحشو، تتجلى في المادة: 24 من المدونة. فهذه المادة وإن كانت قد أضافت جديدا، إلا أنّها لم تخلُ من الحشوِ والتكرار.. ذلك أن نفس المقتضى الذي ورد فيها - باستثناء إضافتها لافتراض شرعية الحيازة بخصوص العقار - ورد في المادة 463 من ق.ا.ع.م إلا أن هذه الأخيرة كانت تقتصر هذا الافتراض على المنقولات.
وما نأخذه على المشرع هنا، هو أنّه لم يُراعي ضرورةَ تفادي التكرار.
ثالثا: حول اضطراب المصطلح:
إن أسوأ ما تعاب به المدونات القانونية هو اضطراب المصطلحات، ذلك أنها هي المفاتيح التي تشكل جسر التواصل بين المشرع والمتلقي أيا كان هذا المتلقي. لذلك لا تقبلُ - بأيّ حالٍ من الأحوال - فوضوية الاستعمال. ما يعني أن أي اعتباط في توظيفها يؤثر سلبا على العمل القضائي، ذلك أنّه سيجُد صعوبةً بالغة في عملية إسقاط الخطاب التشريعي على الواقع. وللأسف لم تسلم البنية المصطلحية للمدونة من هذا الاضطراب. فقد تضمّنت الكثير من صوره، وفي ما يلي نعرض لنماذجٍ منها:
جاءت المادة 17 بمصطلح جديد وهو التملك [La possession]. فعرفتهُ بأنه "هو الممارسة السلمية والعلنية والقاطعة لحق من طرف شخص قد لا يكون مالكه، غير أنّه يتصرف بالفعل وبالنيّة كما أنّه هو".
والواقعُ أنّ هذا المصطلحَ إذا ما عمدنا إلى تفكيكه ودراسته على ضوء المفاهيم الفقهية والقانونية؛ يتضّحُ لنا جليا أن المقصود به؛ هو الحيازة الأصلية بالمفهوم القانوني، ذلك أنّ الحيازة الأصلية - كما هو معلوم - واقعة ماديّة تقوم على ركنين، الأول هو السيطرة الفعلية على الشيء (الممارسة السلمية والعلنية القاطعة للحق بتعبير المشرع)، والثاني هو اتجاه إرادة السيطرة إلى التملك. (وهو ما أشار إليه المشرع بقوله: غير أنه يتصرف - يقصد الحائز - بالفعل وبالنية كما أنه هو. يقصد المالك)
وهذا الرّكن الأخير (نية التملك) هو الذي يميّز الحيازة الأصلية عن الحيازة العرضية، إذ أن هذه الأخيرة تختلفُ عن الأولى في كونها لا تكون بنيّة التملك، ولا تكون إلا برخصة، كما هو الحال في وضعية المرتهن في الرهن الحيازيّ، وصاحب حق العُمرى، وحق الانتفاع.. إلخ.
هذا بالإضافة إلى أن التعريف الذي أورده المشرع لما يسمّيه "التملك" هو نفسه تعريف الحيازة الأصلية في الفقه القانوني. فقد عرفها مامون الكزبري بأنها "السلطة الواقعية أو السيطرة الفعلية على شيء منقولا كان أو عقارا، أو على حق عيني مترتب على شيء شريطة أن لا تكون الأعمال التي يأتيها الشخص مجرد رخصة من المباحات أو التي يتحملها الغير على سبيل التسامح"[9].
وجدير بالذكر في هذا الصدد، أن ما يُعرف في القانون بالحيازةِ الأصلية، هو ذاته ما يُسمّوه الفقهاء المالكية حيازة الاستحقاق، إذ أن هذه الأخيرة -كما عرفها العدوي- هي "وضع اليد والتصرف في الشيء المحوز كتصرف المالك في ملكه بالبناء والغرس والهدم وغيره من وجوه التصرف".[10]
وانطلاقا من هذين التعريفينِ يتجلى واضحًا اتفاق القانون والفقه الإسلامي في تعريف الحيازة، وإن كانت بعضُ التعاريف الفقهية تُضيف إلى ما سبق المدة الزمنية المُكسبة للملكية فتذكرها ضمنَ التعريف. كقول خليل : وصحة الملك بالتصرف وعدم منازع وحوز طال كعشرة أشهر..إلخ[11]
لكنّ ما يهمُّنا هنا ملاحظته، هو أنّ ما يعبّر عنهُ المشرع الموريتاني بالممارسة السلمية القاطعة، هو ذاته الذي يعبّر عنه الفقه الإسلامي بوضع اليد والتصرف، والتشريعات القانونية بالسيطرةِ الفعلية.
هذا التوافق - أو التلاقي على الأصح - بين الفقه والقانون حول تصوّر الحيازة، يتلاشى ويضمحلّ عندما يتعلق الأمر بمركزية هذه الأخيرة في معالجة كل منهما لموضوع الملكية. ففي المقاربات القانونية تُتناول الحيازة في إطار الملكية ضمن الأسباب المؤدية إلى اكتسابها. وفي هذا المضمارِ يقسّم بعضُ الفقهاء القانونيين هذه الأسباب إلى صنفين، صنفٌ يُسمونه الأسباب المعنويّة، فيقتصرونَه على التصرفات القانونية كالعقد والهبة، والوصية. وصنفٌ يسمونه الأسباب المادية، ويقتصرونه على الوقائع المادية ومن أمثلته الحيازة.[12]
أما في المقاربات الفقهية الإسلامية؛ فتُتناول الحيازة فيها ضمن الأدلة الظنيّة على الملكية. وقد أشارَ إلى ذلك ابن عاصم في التحفة بقوله :
والأجنبيّ إن يحز أصلا بحق *** عشر سنين فالتملّك استحق.[13]
وكذلك خليل بقوله: "وإن حاز أجنبي غير شريك وتصرف ثم ادعى حاضر ساكت بلا مانع عشر سنين لم تسمع ولا بينته إلا بإسكان ونحوه" . [14]
وإذا كانت خلاصة القول، في ما تقدم هو أنّ التملك الوارد في المادة 17 من المدونة المقصود به هو مصطلح الحيازة، والمصطلحات هي الرموز اللغوية لمفاهيم واحدة على رأي Felber؛ فما المقصود إذن بلفظ الحيازة الوارد في المادة 43 من المدونة؟
مبدئيا لا بد من الإشارة هنا - وهذه إحدى الظوهر الأكثر دلالة على ما أسميه اضطراب المصطلح - إلى أن المشرّع في هذه المدونة لا يجدُ أي غضاضة في إطلاق تسمية واحدة على مفهومين مختلفين. فقد عنونَ - على سبيل المثال لا الحصر - المادة 190 بـ[تعريف الرهن] فعرّف فيها الرهن الاتفاقي، وبنفس العنوان [تعريف الرهن] عنونَ المادة 216، ثم عرف فيها الرهن القانوني. والمفارقة أنه بالرجوع إلى النّص الفرنسي نلاحظ أن هناك قطيعة تامة بينه وبين النص العربي. ففي النص الفرنسي نجدُ المادة 190 معونة بتعريف الرهن الحيازي [Définition du nantissement]. بينما المادة 216 وردت فيه معنونة ب تعريف الرهن [Définition de l'hypothèque]. وهذه صورة من صور التباين التي تُشير إلى عدم التطابق بين النصين.
وبالرجوع إلى المادة 43 - موضوع الاضطراب المصطلحي - المعنونة بالحيازة، [La détention] نجدها عرفت هذه الأخيرة بأنها "الممارسة المباحة لسلطة مؤقتة على ملكية بموجب سند يقتضي على الخصوص وضعه تحت تصرّفه".
ولئن كانت التصرفات المباحة وتلك الموصوفة بأعمال السماح (الحيازة العرضية) -كما نصت على ذلك المادة 18 من المدونة- لا تكون موجبًا للتملك؛ فإنّه من غير المتأتى اعتبار المقصود هنا هو الحيازة بمفهومها القانوني الذي تناولناه سابقا.
إنّ المقصودة في هذه المادة -كما سنبيّنه لاحقا- هو ما يُسميه الأمر القانوني 83/127 بالاقتطاع المؤقت، ذلك أنّ أهم ما يُميّز هذا الاقتطاع عن الحيازة الأصلية من حيثُ أنه يعكس صورة من صور الحيازة؛ هو أنه لا يكون إلا مؤقتا دائما وبموجب سند. فبالرجوع إلى المادة 57 من مرسوم 2010 المطبق للأمر القانوني رقم 83/127 نجدها تنص على ما يلي :
يمنح الإقطاع المؤقت لمدة خمس سنوات ويجب أن لا تنقضي هذه المدة قبل أن يتم استغلال الأرض وإلا نزعت من صاحبها ومنع من الحصول على إقطاع نهائي.
صورة أخرى من صور اضطراب المصطلح الذي اتسمت به المدونة نلاحظها في المادة 174 الواردة تحت عنوان : الحل القضائي للإيجار [Résolution juridiciaire de l'emphytéose] حيثُ تنص على أنه : "في حالة عدم التسديد خلال سنتين متتاليتين فإن المؤجر له بعد إخطار رسمي بقي بدون الرد، أن يطلب حل الإيجار لدى القضاء.
ويمكن كذلك للمؤجر أن يطلب حل العقد في حالة عدم انصياع المستأجر لشروط العقد وفي حالة قيامه بإتلاف واضح للعقار".
ففي هذه المادة، استخدم المشرع عبارة "الحل" بدل الفسخ، "والإيجار" بدل الكراء.
وبالرجوع إلى المادة 613 من ق.ا.ع.م -وبالمناسبة ق.ا.ع.م أحالت المدونة في المادة 172 بالرجوع إليه فيما يتعلق بعقود الكراء- نجدها تنص على أن الإجارة نوعان : إجارة الأشياء وهي الكراء، وإجارة العمل.
ومعلومٌ في الفقه المالكي -وهو الذي نصت المادة 414 من المدونة على الرجوع إليه في التأويل عند الاقتضاء- أن مايقع من العقود على منافع الأشياء، يسمى عقود كراء. وهو ما أشار إليه ابن عاصم بقوله :
يجوز في الدور وشبهها الكرا *** لمدة حُدّت وشيء قُدّرا
أما ما يقعُ على خدمة الآدمي فيسمى عقود إجارة أو عمل. وهي المشارِ إليه في التحفة :
العمل المعلوم من تعيينه *** يجوز فيه الأجر مع تبيينه
وللأجيرِ أجرة مكملّة *** إن تم أو بقدر ما قد عمله.
وانطلاقا من هذا التمييز الذي تبناهُ المشرع الموريتاني في قانون الالتزامات والعقود، أخذا بالفقه المالكي الذي أحالت إليه المدونة؛ يتبين أنه كان الأولى بالمشرع أن يُراعيَّ هذا التمايز، فلا يطلق الإجارة على الكراء كما فعل في المادة المذكورة، وقبلها المادة 5 التي عدد فيها الحقوق العينية التبعية فذكر من بينها ما أسماهُ الإجارة الطويلة (أي الكراء الطويل الأمد). هذا بخصوص عبارة الإيجار.
أما بخصوص عبارة "حل العقد"؛ فمعلومٌ أنّه في عقود الكراء -إذا ما تجاوزنا عامل المدة- هناك ثلاثة أنظمة قانونية هي التي تنقضي بها، هذه الأنظمة هي : الفسخُ، والانفساخُ، والتقايل. ولكلّ منها أحكام وضوابط تختلف باختلاف الظرف الذي يُملي ضرورة الانقضاء.
فالفسخُ يكون -كما أشارت إلى ذلك المادة 174 وكذلك المواد 677/633 من ق.ا.ع.م- في الحالات التعاقدية التي يُخلّ فيها أحد الأطرف بالتزاماته.
أما الانفساخُ، فيكون في الحالات التي تهلكُ فيها العين الواقع التعاقد على منفعتها، ويكونُ بقوّة القانون (أنظر المادة 644 من ق.ا.ع.م.).
وأما التقايلُ، فيكون -وفقا لمقتضيات المادة 390 من ق.ا.ع.م- بتراضي أطراف العقد.
وما يهمنا ملاحظته هنا؛ هو أن هذه الأنظمة القانونية الثلاثة؛ كلّ واحد منها -في حد ذاته- يمثل صورة من صور الحل، أو قُل كل واحد منها يمثل وسيلة من وسائل الانحلال؛ وعليهِ فإنّ التعبير بعبارة "حل العقد"، يكونُ من وجهة نظري تعبيرًا عاميا غيرُ واعٍ لضرورة التمييز بين هذه الوسائل لاختلاف ما يترتب عنها من أحكام.
وعليه؛ كان على المشرع أن يستخدمَ عبارة الفسخ بدل الحل، فهي الأنسب للسياق.
وإلى هاتين الصورتين السابقين من صور اضطراب المصطلح؛ يُضاف الاضطراب الغريب الذي ورد في المادة 211 المعنونة بالقانون العام [Droit commun]، والتي تنص على ما يلي :
الدائن مسؤول عن فقدان العقار أو تلفه إذا كان ذلك ناتجا عن إهمال وذلك حسب القانون العام.
فواضحٌ من خلال هذه المادة أن المقصود بالقانون العام هو القواعد العامة، وإلا فلا معنى – إطلاقا - لعبارة القانون العام في هذا السياق.
نفس الصورة نُلاحظها في المادة 216 الواردة تحت عنوان تعريف الرهن [Définition de l'hypothèque] التي تنصت فـ4 على ما يلي :
الرهون الشرعية هي تلك التي تصبح إلزامية بموحب القانون وتلك الناتجة عن قرار قضائي.
ففي هذه المادة خلط واضح بين مصطلح الشرعية والقانون. فالمقصود هنا هو الرهون القانونية، وهي تلك التي تكون - كما نصت على ذلك المادة - إلزامية بموجب القانون.
رابعا: حول غموض الدلالة:
أشرنا في المقدمة إلى أن المدونة قد اتسمت بالغموض في بعض مقتضياتها، ومن أمثلة ذلك على سبيل المثال لا الحصر، مقتضى المادة 189 الواردة تحت عنوان انقضاء حق الهواء [Extinction du droit de superficie] مثال على هذا الغموض، فقد نصت هذه المادة على ما يلي :
ينقضي حق الهواء بـ :
1. الالتباس.
2. هدم البنيان.
3. التقادم ثلاثين سنة.
فالقارئ لهذا النّص سيجد صعوبة بالغة في فهم معنى الالتباس. فهذا التعبير يضعنا أمام صورة من صور الغموض، يتجلى ذلك واضحا عند الرجوع إلى النص الفرنسي، إذ سنجد أن المشرع في هذا الأخير يعبر عن الالتباس ب [La confusion] وهي [اتحاد الذّمة].[6].
مثال آخر على الغموض نجدهُ في المادة 155، التي جاءت تحت عنوان "تشكيل الانتفاع"، الذي يُراد به "تكوين الانتفاع". والتي نصت على أنه : " يتشكل الانتفاع (أي يكون الانتفاعُ) إما لمدى حياة صاحبه وإما لفترة محددة على أن لا تتجاوز هذه الفترة ثلاثين (30) سنة.
يضاف إلى ذلك ما ورد في المادة 169 يمكن الحصول على حقوق عينية على الأرض بموجب بعض العقود كعقود الإيجار الحصري.. إلخ.
فمعلومٌ أن حق المكتري حق شخصيٌ، ولا يكونُ حقا عينيا إلا إذا كان طويل المدة، وهذه المدة حددتها المادة 170 ب 10 سنوات كحد أدنى و 40 كحد أقصى. وانطلاقا من ذلك يتجلى واضحا أن المقصود "بالإيجار الحصري" هو الكراء طويل الأمد.. ومن ثم يكونُ إطلاقُ المشرع لتسمية الإيجار الحصري على الكراء الطويل الأمد يجعلنا أمام تعبير غامض، قد يوهم المتلقي أنه عقدًا مسمًى خاص. خصوصا إذا ما علمنا أن المشرع عندما عدد الحقوق العينية في المادة 5 لم يسمِ هذا الكراء إيجارا حصريا وإنما أسماهُ الإجارة الطويلة.
__________
[1]- د. هارون ولد اديقبي، التحفيظ العقاري : التعريف المفاهيم، والمساطر، والإجراءات. مداخلة شارك بها في ندوة علمية التي نظتمها المحكمة العليا تحت عنوان متطلبات الأمن العقاري في موريتانيا، دراسة المنظومة القانونية، السياسة الإصلاحية، والحلول الإدارية والقضائية للمنازعات. يومي 24و25 نوفمبر 2016.
http://www.coursupreme.mr/page/categories/idcateg/30/idcategNiv1/12
[2]- تنص المادة 10 من المرسوم رقم 2010/080 الصادر بتاريخ 31 مارس 2010، الذي ألغى وحل محل المرسوم رقم 089/2000 المطبق للأمر القانوني رقم 127/83 على ما يلي :
يقصد بالتسجيل قيد القطعة الأرضية لدى مصلحة الحفظ العقاري المجسد بسند عقاري ويحصن التسجيل ضد فوات حق الملكية بالإندراس كما يشكل دليلا قطعيا على حق الملكية، إلا في حالة استخدام أساليب تدليسية.
[3]- الأمر القانوني رقم 83/127 الصادر بتاريخ 5 يونيو 1983 القاضي بإعادة التنظيم العقاري.
[4]- عرفت المدونة العناصر التالية :
1- الأملاك م1.
2- العقار م2.
3- الحق العيني م4.
4- حق الملكية م17.
5- التملك م8.
6- الحيازة م42.
7- نقابة الملاك المشتركين م97.
8- الاسترداد (الشفعة) م112.
9- حق الانتفاع م139.
10- حق الاستخدام والسكنى م165.
11- حق الهواء م180.
12- الرهن م190 النص الفرنسي (Le nantissement).
13- الرهن م216.
14- الوقف م249.
15- العمرى م254.
16- الشفعة م257.
17- حق الارتفاق م260.
18- الكشف عن ملك الجار م293.
19- عملية التحديد العقارية م299.
20- الحفظ العقاري م321.
[5]- د. أحمد بن عبد العزيز العميرة، نوازل العقار - دراسة فقهية تأصيلية لأهم قضايا العقار المعاصرة، دار الميمان للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، ط1، ت2011، ص37.
[6]- د. مامون الكزبري، الحقوق العينية، الهلال العربية للطباعة والنّشر، الرباط، ص11.
[7]- تنص الفقرة 5 من المادة 15 من دستور الجمهورية الإسلامية الموريتانية الصادر بموجب الأمر القانوني 91/022 بتاريخ 20 يوليو 1991 على ما يلي : لا تنزع الملكية إلا إذا فرضت ذلك المصلحة العامة وبعد تعويض عادل مسبق.
[8]- الأمر القانوني رقم 126/89 الصادر بتاريخ 14 سبتمبر 1989 المتضمن قانون الالتزامات والعقود الموريتاني المعدل بالقانون رقم 2001/31 الصادر بتاريخ 7 فبراير 2001.
[9]- د. مامون الكزبري، الحقوق العينية، مرجع سابق ص 194.
[10]- أبو الحسن علي بن أحمد بن مكرم الصعيدي العدوي، حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني، ج2، دار الفكر، بيروت، 1994، ص371.
[11]- خليل بن إسحاق، مختصر خليل، تحقيق أحمد جاد، دار الحديث، القاهرة، 2005، ط1 (أحكام الشهادة).
[12]- عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني، ج9، دار إحياء التراث، بيروت، ص9.
[13]- ابن عاصم، تحفة الحكام في نكت الغقود والأحكام، تحقيق محمد عبد السلام، دار الآفاق العربية/القاهرة، 2011. (في الحوز).
[14]- Article 189 : extinction du droit de superficie.
Le droit de superficie s'éteint par :
1- la confusion.
2- la destruction du fonds.
3- la prescription de trente ans.