في خطاب فاتح مارس الشهير أعلن وزير الدفاع السابق محمد ولد الشيخ الغزواني نيته الترشح للانتخابات الرئاسية الموريتانية، ولاقى خطاب إعلان ترشحه قبولا واسعا وترحيبا منقطع النظير، لكن ما غفل عنه كثيرون هو ما استهل به المرشح ولد الشيخ الغزواني خطابه، حيث اعتبر الانتخابات الرئاسية المقبلة فرصة مناسبة لنقاش جاد حول ما آل إليه البلد بعد ستين سنة من الاستقلال ويبدو أن الرئيس المؤسس لحزب التكتل العريق الضارب في جذور راديكالية المعارضة الموريتانية محمد محمود ولد أمات كان من أولئك الذين تقاسموا مع ولد الشيخ الغزواني فرصة النقاش الجاد في ظل الانتخابات الرئاسية.
من الصعوبة بمكان على عامة الناس ومتحمسي المعارضة تقبل دعم المناضل الجسور ولد أمات لمرشح السلطة وصاحب التاريخ العسكري الضارب في إكراهات البزة ونياشين العسكر وبراغماتية الدولة العميقة ومفاصلها الحساسة، لكن رد ولد أمات جاء مسكتا لأصحاب العقول والنظر الفاحص، فالرجل وضع تاريخه المشرف ونضاله الذي رفع رأسه بين يدي مشروع مرشح معظم الشعب الموريتاني الطامح إلى احتضان الجميع، كان رد ولد أمات أكثر نباهة وتمكنا من ردود زملائه السياسيين الذين غيروا أماكنهم السياسية بالدعم والتحالف والتعاطف حيث كان بيان الولاء ذو صيت نخبوي وفهم عميق.. ضرورة الهدوء والابتعاد عن السجال السياسي والمناورات الحادة ذلك ما جعل رئيس حزب التكتل السابق يحدد موقعه السياسي الجديد. سرد نبيل الموقف دائما ولد أمات مسيرته النضالية وصبره على الأذى في سبيل مشروعه وقناعاته المشرفة راسلا بذلك رسالة سياسية بالغة الدلالة.. أن الإصلاح غير مقيد بعنوان أو مكان أو شعار فهو أسلوب حياة وتضييقه وتسييجه تجاوز في حق المنطق السياسي الواسع. تحول المناضل ولد أمات الذي عانى من سياط الاستبداد وظلام الحكم الأوليغارشي ليس قصة انضمام فحسب بل هو تحول مفاهيمي جديد في السياسة الموريتانية.. أن ليس كل داعم لمرشح السلطة طامعا في بريق نعيمها وليس كل معارض حريصا على مصلحة البلد، وإنما هي الحياة السياسة وتعقيداتها القائلة بنسبية الموقف، وأن التغيير له أوجه متعددة ومشارب شتى. وما هو مؤكد.. أن واقعية ولد أمات لن تذهب سدى، ونظرته الثاقبة لن تبقى أسيرة لمسلسل الرد والجذب، وثنائية الإشادة والتخوين، بل ستتجاوز إلى ما هو أكثر رحابة وتأثيرا في مفاصل قرار الدولة الموريتانية، كما سيجعل قرار المعارض ولد أمات المعارضة الموريتانية تعيد ترتيباتها وقراءتها للأحداث وضرورة البعد عن الحالمية المفرطة، وواجب النزول إلى أرض الواقع، فات على كثيرين التأمل في بيان ولد أمات وعدم مناقشة مضمونه أو التعليق عليه بلغته المفككة لمعاني التحولات والتحالفات، بل اكتفى كثيرون بالتشكيك في نضاله والغمز واللمز في موقفه الجديد وهو الصامد على مبادئه.. "كان صرحا من خيال فهوى" هذا هو ما يقوله جل الشباب المعارض الباحث عن أضواء التنقيص من الناس والتشكيك في مواقفها ورميها بتهمة الإغراء السلطوي وكأنه جديد على فرص الاغراء. لا يؤمن ولد امات بباوية السياسة ولا كهنوت التحولات.. فهو حاذق ذو بصيرة متقدة تميز الصالح من الطالح بعيدا عن تأثيرات أصوات الحالمين.
وكم يحز في النفس ما تعانيه بعض النخب السياسية الوطنية من جمود في الموقف وتحمس يصل لدرجة وصف المجتهد في تغيير موقفه باللاهث خلف الأطماع الضيقة والأضواء الجديدة إلى غير ذلك من الاتهامات الملاكة التي لم تعد تنطلي على أحد، وفق نابهون كثر من أبرزهم ولد امات في وقف سيل هذا الصخب الممل وتوزيع صكوك الوطنية والتآمر، وربما، ويمكننا أن نصف ولد امات كما وصف الأفندي المفكر الراحل طيب الذكر والأثر حسن الترابي بأنه "ابن العصر والواقع.. ولا يعيش داخل الكتب مثل مفكرين كثر".
ولد أمات أيضا لا يعيش في سماء الحالمية مثل سياسيين كثر وربما من أكثر الناس إيمانا بواقعية الممارسة وضرورة استحضار المثالية لكن حسب الموقف واللحظة.
يهتز عرش المعارضة الموريتانية يوما بعد يوم وتتوالى انسحابات رموز أضفت من رمزيتها على معارضة تأبى التجديد والتنصل من سلطان التعلق بصك غفران يحمله شباب حالم يخون كل مخالف وينزع منه ألقابا ويستبدلها بأخرى.. فهل يوقف ولد أمات سيل التضليل أو القفز على بعض المفاهيم في هذه الرقعة من أرض الله الواسعة ويخبر رفاقه أن ليس كل معارض ناصح أمين وليس كل خارج عن النمط المعارض قد "زلت قدمه بعد ثبوتها" وإنما هو التسديد والمقاربة والاختلاف والتنوع.