كتاب: "موريتانيا إلى أين؟" للباحث د.بدي أبنو، يُنشر في حلقات أيام الإثنين والخميس.
الحلقة الرابعة عشرة: الانتقـــــــــــال الذي لمْ يكن
ما الذي عنيه بالنسبة لسؤالنا المركزي "موريتانيا إلى أين؟" فشلُ المرحلة الانتقالية لسنة 2006 - 2007 وتداعياتُه (تداعياتها) التي مثلتْ أزمةُ انقلاب 2008 إحدى أكثر محطّاتها ثخونة؟
تكشّفتْ الطبقة السياسية في تمفصلاتها الرئيسة كجزء من التركة الكومبرادية. تُفكّرُ أساساً داخل أُطر هذه التركة وعبر أدواتها. وتبعا لذلك لمْ تتمّ مساءلة مشكلة الدولة، المتماهية إلى حدّ كبير مع السلطة، في تنزلها المحلّي أو تسجلّها السياقي وفي إشكالياتها المؤسسية وفيما يمكن أو ينبغي أو يَلزم أن تعنيه الدولة خارج دورها الموروث كدولة كومبرادورية.
عَنِيَ ذلك، من بينما عَنِيَ، بقاءَ معظم الفاعلين السياسيين و"المدنيين" أو من يُفترض أنهم كذلك - حتى خلال الأشهر الحاسمة من المرحلة الانتقالية وكذلك خلال الأزمة التي تلتْ انقلاب 2008 - في مستوى ردّ الفعل لا الفعل، في مستوى إعادة إنتاج واستهلاك التوجّهات الفوقية، سلباً أو إيجاباً.
عني ذلك أيضا أن القوى التي تطمح إلى التغيير، أيا يكنْ مستوى وعيها بطموحها وبما يمثّلُ جوهرَ اختلافها عن بقية الفاعلين، لم تفلحْ خلال المرحلة الانتقالية في خلق ما يمكن أن ينافس جدّيا شبكات التنفذ الموروثة، أي شبكات الإقطاع النزق الذي وُلد وتغوّلَ مالا ونفوذا كمحصلة لتغول الامتياز الريعي الزومبي.
بلْ وأكثر من ذلك فإن الفاعلين السياسيين و"المدنيين" لم يزيدوا، في معظم الحالات، إلا مبالغةً في تكريس الموجود والقائم، أي في توظيف أساليب هذا الإقطاع النزق وفي الانخراط في البنينة الريعية التي يجسّد وفي تكريس الزبونية الزومبية التي يقف عليها. وهي دينامية ما تزال راهنياً في طور تفاقمها وتوسّعها.
ويمكن أن نلاحظَ وفقاً لذلك أنّ المرحلة الانتقالية والأزمة التي تلتْها عرفتا عزوفا شبه كلّي متعدّد الملامح عن ورشات ثلاث متداخلة ومترابطة: أوله العزوف عن ورشة فحص ومراجعة مؤسسات الدولة التي ترهّلت وتمّ اختزالها في هيكلها العظمي الأمني، أيْ عن العمل، بنسبة أو أخرى حسب ما قدْ يخوّله ميزان القوى المرْحلي، على خلق توازن للمؤسسات وتوزيع فعلي لسلطات بما يسمح ولو جزئياً بتجاوز شخصنة السلطة؛ بما يسمح مثلا بمراجعة الوضع القانوني واللوجستي للمؤسسة العسكرية وإيجاد السبل الواقعية لكبح جماح الشبكات المتنفذة الموروثة.
وثانيه العزوف عن ورشة تجديد التداول السياسي بما قد يعنيه، بصيغة مباشرة أو غير مباشرة، هذا التجديد في أفق تحول سوسيولوجي طفروي وفي أفق التضارب الصارخ بين متوسط عمر المواطنين ومتوسط عمر الشخصيات الفردية الأكثر تنفذا في الفضاء السياسي.
وثالثه عزوفٌ عن خلق بنيات حزبية ومدنية مؤسسية مستقلة عن الشخصنة الأبوسية الموروثة وقادرة على تشكيلِ سلْطة مضادة وضمانات متضافرة.
لم تعن هذه الاعتبارات كثيرا للطبقة السياسية خلال المرحلة الانتقالية. وعادتْ الألغاركية الموروثة عن نظام ما قبل الثالث من أغسطس إلى الواجهة تدريجيا.
بدا في المستوى المرئي وكأن قواعد اللعبة الضمنية تصبّ كليا في صالح هذه الألغاركية وشبكات النفوذ الصادرة عنها. وبدا وكأن المرحلة الانتقالية لم تفعلْ سوى أنها منحتْ الألغاركية "شرعيةً" لم تستطع أن تمنحها لنفسها قبل 2005 أيْ "شرعية" لم تستطع أن تمنحها لنفسها خلال عقدين من الاقتراعات التي لمْ تُؤخذ على محمل الجدّ.
تضاعفتْ وتيرةُ نزيف الامتيازات المادية والرمزية بمختلف أنواعها لتبدو وكأنها إعلانٌ صريح عن أن نظام ما قبل الثالث من أغسطس 2005 لم يزددْ إلا صلابة وسرمديةً.
وظلّ الحديث عن السلطة العمومية يتمّ بشكلٍ مستقلٍ عن المؤسسات التي يُفترض أنها تجسّدها، يتمّ الحديث عنها وكأنها "شيئ" متعين يتم تسليمه "يداً ليد" .
بدا في الخلاصة أنّ العقل السياسي السائد ما زال صراحة أو ضمنا يَنظُرُ، وصفياً ومعيارياً، إلى السلطة كسلطة فرْد أوتوقراطي، وينظر وفقاً لذلك إلى انتقالها كانتقالٍ منْ حاكمٍ فرد إلى آخر. وبدا أن الأطروحات السائدة تتعلّق غالبا بتقديم حلولٍ سحرية مترادفة المعنى، من نمط القائد المنقذ أو المترشّح المنقذ أو الريع المنقذ.