يعر ف البيراميون أنفسهم قبل غيرهم أن القوة الشعبية للرجل لا يمكنها أن تمكنه من الوصول إلى سدة الحكم _على الأقل في هذه الانتخابات والتي تليها_، ومن يقول له غير هذا فقد خدعه،
ذالك أن مِثله وفي التاريخ أمثال كثيرة لا يصل إلى الحكم بالاعتماد على شريحته وحدها وفصيلته وأحلافه من الإثنيات فحسب، لأن مسيرة الحرية عبر العصور مضرجة بالعفو والتسامح، ولم ينتصر فيها مكافح ولا مناضل قبل أن ينزع عنه ثوب الغضب والحنق والكراهية، ويستبدل لسانه بآخر أكثر استقطابا لشعب أرضه كافة بأسوده وأبيضه، أو هكذا نقش التاريخ على سبورته منذ ثورة اسبارتاكوس إلى مانديلا ومارتين لوثركينك ومسعود ولد بلخير وقادة رواندا اليوم، وحينما يحدث ذالك ستتغير العقليات وتتجه قلوب الناس إلي بيرام لأنها لن ترى فيه بيرام العصبي العنصري الذي يلوك الموتى في قبورهم ويوبخ العلماء على منابرهم، ويحرق كتب دينهم وإن كانت صفحاتها طلاسم بلا معنى، بل سيرونه فلك نجاة جامع لكل مكونات الشعب إلى بر الأمان من بيظان واحراطين وامعلمين واكور، ولن يكون ذالك التلاحم والدعم عندئذ لسواد عيونه، بل للوصول به إلى رمز النقاء النفسي والتسامح ألا وهو كرسي القيادة الذي يتولاه حرطاني يرى فيه كل إنسان ذاته وتضمحل به مع الوقت مظاهر الفئوية والشرائحية والعنصرية، ويومئذ ستكون تلقائيا في مأمن من الانقلابات الغادرة، لأن الشعب سينشغل في بناء كيانه الداخلي المتهالك بعدما يرفل في المصالحة والتسامح، وسيكون يومها قد تطهر من وحل تراث الأقدمين، لاسيما في المكان الذي سيكون ثقلا انتخابيا في المستقبل بعدما كان دولة منفصلة تخضع للقانون التقليدي وأحكام الأعراف المستندة على التفاوت أني كانت مسمياتها وصنوفها.
وإلى أن يحدث ذالك لابد له من بداية، ولقد لاحت ملامحها وليس بين الناس وبينها إلا شهر أو أقل، لكن نتائجها الخيرة تتوقف على تضحية وصدق نضال المعنيين بها من كلا الأطراف، معارضة وموالاة، وطنيين وبقايا رموز عشرية الرماد والغبار، وأن يضع بيرام "أتاشه" ولو لحين.
الملمح الأول: حتمية الشوط الثاني
لا مناص.. فالمشرق الذي طالما قتل الأمل في الناس رغم طول الطريق إليه بولائه المطلق للسلطة ومرشحيها، مدنيين كانوا أم عساكر منقلبون وما دون ذالك، وسعت عنه عشرية الرماد التي لا زال غبارها يكتم أنفاسه الرّبق واستيقظ.. وأصبح يملك الجرأة ليقول لا، ليس من وعي أحل به كلا، وإنما لأن الخارطة الديموغرافية لسكانه تحولت في عشر سنين جاعلة من المراهقين شبابا، ومن الشباب رجالا، وقد أصبحوا هم الأغلبية في مناطق الحوض الشرقي والحوض الغربي إلى العصابة ثم مقطع لحجار وحدود ألاك،.
هذه المجموعة من الناخبين هي من اكتوت بالأساس بعشرية عزيز الصفراء، فقد جاعت، وماتت أنعامها، وشح مطرها، وقل زرعها، وجفت ضراع دوابها، وقيل لهم في يوم مشهود "صوتوا للدستور وستنعم الأبقار الحمراء" فجالت سنين يوسف عجافا على كلها ومرعاها إلى يوم الناس هذا، ففهموا أن عاقبة لارتكان للطغاة وخيمة فغيروا من أنفسهم فغيرهم الله.. وهذا التغيير الضمني ترجمه تهديد قلاع هولاكو في الداخل وسقوط بعضها في الانتخابات الأخيرة من خلال دخول 12 دائرة انتخابية و9 مجالس جهوية و111 بلدية حيز التنافس في الشوط الثاني بعدما كانت أول من ينيخ في الماضي، ثم أخيرا الحضور الكبير لمرشح تواصل السيد سيدي محمد بوبكر في الطينطان والنعمة والخواء في حملة المرشح الآخر السيد محمد ولد الغزواني في نفس الأمكنة.
إذا.. الشوط الثاني حتمية لا مفر منها، وسينحصر بين فسطاطين لا ثالث لهما، فسطاط ولد بوبكر المدعوم من أقوى الأحزاب تنظيما في المنطقة (الإسلاميين)، وفسطاط محمد ولد الغزواني المدعوم من هولاكو وأتباعه وأشياعه ومواليه، إضافة إلى فلول المشرق التقليديين الناقمين على الجيل الشبابي الناشئ والمطحون من عشرية الرماد، والحانقين على مصالحهم المتضررة من جراء هذا التغيير المتغلغل باضطراد في ضمائر شبابهم ودخلوا على خلفيته في أشواط ثانية في الانتخابات الماضية..
إنه لن يكون شوطا ثانيا تقليديا، بل سيكون مفصليا أقرب في التاريخ إلى معارك القادسية وعين جالوت والزلاقة.. بدأت تتراآ فيه روحي الخير والشر وملامح الشياطين وظلال الملائكة وجنازير العسكر وخطى المدنيين، لذالك لا أمل مطلقا لبيرام في الفوز برآسيات موريتانيا، لكنه في الوقت نفسه هو وحده من يملك مقاليد التغيير والنصر ورسم خارطة المستقبل والقطيعة بين العسكر وشهوة السلطة.
الملمح الثاني: الاختيار بين فسطاطين
الاختيار حق شخصي عندما يتعلق بالفرد، أما إذا تعلق بالجماعة فإن ماهية الحرية والشخصية تنتفي عنه كليا لارتباطه بالمصير، فنحن أحرار في زواجنا وملبسنا ومأكلنا وأيضا في تصويتنا، ولكننا لسنا أحرارا إذا كنا نقود جيشا يقاتل أو جماعة تناضل، فالأول تنعكس نتائجه على شخص واحد، والثاني على أمة كاملة، وهذا ما ينطبق تماما على الزعيم بيرام ولد الداه ولد اعبيد في هذه الانتخابات المصيرية بالذات والفارقة بين العسكر والمدنيين، ولإن كان في وضع يحسد عليه للخيار بين طرطور عسكر ينوب عن من نهب دولة بحذافيرها وشرده وسجنه، وحزب دارت بينه وإياه أياما مشهودة، إلا أنه كربان يمخر بسفينته عباب يم مظلم في نقطة فارقة بين جبل موج يبرق منه أمل وجبل جليد شرير يقطر منه الشر فعليه أن يختار لأمته سبيل النجاة، فإن اتجه إلى الجليد دكه، وإن اتجه للموج أغرقه لكن فرص نجاته مع الموج أكثر منها مع حواشي الجبال الحادة.
- فسطاط الموج
يقول آلبرت أينشتاين "لا نستطيع حل المشاكل المستعصية بنفس العقلية التي أوجدتها، فالجنون هو أن تفعل نفس الشيء مرة بعد أخرى وتتوقع نتائج مختلفة"، ويقول نيكولو ماكيافيللي "يجب أن تذهب وتعيش وسط رعاياك الجدد حتى يمكنك تعقب المشاكل والقضاء عليها وهي مازالت في بدايتها"
ولقد ظل التيار الإنعتاقي منذ فترة تأسيسه إلى اليوم تيارا حقوقيا منعزلا عن المكونات الأخرى ولم تواتيه الفرصة للوصول إلى مركز القرار وصنع الفارق ووضع آليات التغيير، بل إن فكرة الصدامية والانعزالية ظلتا طافيتين على خطابه، وهذا لا يمكن أن يستمر لمن يريد أن يحكم دولة لأن عاقبته وخيمة ولم يستمر من قبل عبر التاريخ، فالذين طوروا من آليات نضالهم هم من انتصروا في الأخير، كنيلسون مانديلا (من حمل السلاح إلى السلمية والقيادة) ومسعود ولد بولخيرمن عقلية (تشتغل عيشة لمبيريكة) إلى قيادة البرلمان وسن أكبر منظومة قانونية لرفع الرق في البلاد، لأن اللحظات الأولى لمرحلة التأسيس لابد لها من خطف الأضواء ثم المسالمة والمهادنة لولوج دائرة صنع القرار وإحداث التعيير المنشود وإلا فلم التأسيس في الأصل.
لهذا فإن فسطاط ولد بوبكر (الاسلاميين) هو الخيار الأقرب للبيراميين وللمدنيين وللمظلومين وللمضطهدين لتحقيق طموح العدالة الاجتماعية المنشودة والقطيعة مع حقبة العسكر الحالكة السواد، فهو في النهاية فسطاط مرن وهلامي وضليع في فن السياسة واقتناص الفرص إضافة إلى كونه فسطاط وطني، ولذالك عليه "الآن الآن وليس غدا" أن يبسط رداءه ويمد يده لبيرام لتشكيل حلف ما بعد الشوط الأول، ويكتبوا معا اتفاقية حول حكومة ما بعد الفوز يتولى بموجبها بيرام رئاسة الوزراء ويكملان معا فسيفساء الانتقال الديمقراطي المنشود.
بيرام في النهاية رجل أبيض القلب زاخر بالمودة وكون في الغرب علاقات قوية ستمكن الحكومة من تجاوز الخواء الخزيني الذي ستصطدم به عند الفوز، فهي مقبلة على خزينة نظيفة البلاط لا يوجد فيها سوى 1120 مليار دولار ديون على الدولة الموريتانية شيد بها نظام (شرديلو ولد العلا) الشركات والأسواق والدور والقصور في بقاع الغرب وزوج بها بنيه في الرباط..
عندما تنصت الآذان، وتقدم المصلحة العامة على الخاصة ستبحر الفلك يم شاطئ السلام وسيتعايش الموريتانيون في حمبل ود وإخاء، وستستأصل شهوة الحكم من خُصْيات العسكر، ويكف عن الوثوب على السلط المنتخبة مدنيا، سيعي حقا مهامه ويقتنع بالحقيقة المطلقة أن الفرد منه سواء كان جنرالا إستحقاقيا أم جنرالا من كاويتشوا ليس له إلا أن يحترم دستور البلاد وخيار الشعب، فإن ملَّ خدمة الحدود والثكنات ولاح له الشوق في ولوج السياسة، عليه أن يستقيل ويمكث بعد ذالك 6 شهور حتى يحق له دخول المعترك.
ولئن كان لابد من البراهين على خيرية فسطاط الموج على فسطاط الثلج، فإن أبرز الأدلة التاريخية على ذالك هي:
- أن سيدي محمد ولد بوبكر رجل مدني بخبرة تزيد على أربعين عاما ومن الرعيل الأقل سرقة للمال العام، وأول وزير أول موريتاني يشكل حكومة عام 1990 ضمت ثلاثة احراطين في تاريخ موريتانيا وهم السقير ولد امبارك وبيجل ولد هميد وثالث لا أتذكر إسمه والعديد من الحكام ونال لحراطين في زمنه مالم ينالوه في زمن العسكر كله بمجالسه العسكرية والمدنية المزيفة.
- أن المرشح سيدي محمد ولد بوبكر ليس من حزب (تواصل) الذين يتخذ منهم بيرام موقفا لأسباب سياسية عقب محرقة الكتب.
- إتساع شعبية (تواصل) المرشح للرجل على مدى الداخل الذي هو بطاقة التأهل النهائية، واحتكامه على وعي وخبرة بتنظيم الانتخاب ترفع نسبة نجاحه وتقلل من ضياع أصواته.
- وجود أكثر من تسعة قيادات اثنان منهم من اللجنة التأسيسية للحزب وفي أماكن إعلامية مرموقة هم من أكبر المتعاطفين مع بيرام والمدافعين عنه منذ ثماني سنوات إلى اليوم إضافة لقياديين آخرين، مما يؤكد في المستقبل إستمرار التوافق.
- فسطاط الجليد
لاخير في الجليد.. فلا حل ينفع معه، فهو دائما يقطر شرا، إن أشرقت الشمس ذاب وأغرق، وإن هبت الرياح إنهار وأطمر، وإن اشتد الصقيع أدمى وأشل.. ذالك هو مثل فسطاط الجليد وطرطور العسكر.
إنه الفسطاط الذي اغتال في رابعة النهار ديمقراطية البلاد المشهودة، وزج برئيس منتخب في غياهب السجن بعد قرار إقالة مشروع لضباط انقلابيين، وضَيّع على الأجيال سانحة انتهاء الانقلابات وتلاشيها من الذاكرة، و جعلها دولة بين الأقربين حتى باتت كأنها مرجل طاف عليه جائع ليلا فتركه خاوي صقيل..
إنه الفسطاط الذي أفلس وأباد من الوجود الاقتصادي شركات سيادية وأخرى خاصة، وأحل محلها شركاته الشخصية، كالخطوط الجوية الموريتانية وشركة سونيمكس وشركة أنير، ومناجم وشركات أخرى على الطريق، وينك الإسلامي،وباع المدارس واقتطع القطع العقارية لنفسه دون خجل، وشرد الناس من أماكنها في أكبر مسرحية تجارية في تاريخ البلاد سميت (لادي)، حيث هجر كل من يمتلك أرض خيِّرة إستراتيجية إلى الفلاة لتؤول بعد برهة لشقق للإيجار، وهو فسطاط صفقات التراضي الفاسدة، من المطار إلى قصر المؤتمرات إلى نقل الحثالة الجهلة من لقَّاطٍ لأعقاب السجائر في الشوارع إلى ملاك البنوك والتحكم في الاقتصاد، حتى إن أحدهم بعدما كان قبل خمسة عشر عاما يمضغ الفستق في "بورصة الشمس" صار يفطر بالكافيار في فنادق أوروبا، ويمتلك 30 في المائة من أشهر البنوك المحلية..
إنه الفسطاط الذي يرتكب مقربيه جرائم الشروع في القتل والخطف والسرقة وسباق الموت ويصبح اليوم الموالي في الصين ويعود كأن شيئا لم يحدث..
إنه الفسطاط الذي هرَّب عشرات ملايين الدولارات إلى فرنسا ضحى لشراء عقار ثم شرعها بهيئة خيرية في ساعتين من الزمن، وفضحته تسجيلات أكرا ولازال يدعي المثالية.
لا يمكني أن أكمل سرد بوائق وفجور هذا الفسطاط حتى وإن أوتيت عمر نوح ونفس الشيطان الرجيم، فكل موريتاني يعرف عنه ما لا يعرفه الآخر، وكأنه لعنة متصلة بالعقول والعيون لكل إنسان منها نصيب..
يؤسفني حقا هذا الوصف والسرد ولكنها الحقيقة، ولطالما كانت مرة، وهي الحقيقة التي أريد من الزعيم بيرام ولد الداه ولد اعبيد وهو يشاهد ويستمع نتائج الانتخابات المؤدية للشوط الثاني أن يتذكرها، أريده أن يستحضر قبل أن يحالف هذا الفسطاط أو يغريه بشياطينه أن يتذكر انتخابات 2007 والفرص التي ضاعت على البلاد بتحالف السيد مسعود ولد بولخير والزين ولد زيدان مع أجلاف العسكر.. أريده أن يتذكر ملايير الأوقية التي اختلست وسرقت في رابعة النهار.. أن يتذكر الجرائم الاقتصادية البشعة التي حدثت للدولة من صفقات مشبوهة إلى تحول رجل من رئيس دولة إلى "تيفاي".
أريده أن يتذكر الجوعى والعطشى في مثلث الشقاء وهم يكابدون الرمق الأخير بينما صرفت ملايير الأوقية في تفاهة استحداث العلم والنشيد، ولما يتذكر كل هذا يستحضر الظلم الذي حاق بالمناضلين الشرفاء وتسجينهم وتشريدهم بدءا به هو وليس انتهاءا بعبد الرحمن ولد ودادي والشيخ ولد جدو.
المصير
لاشيء يستحيل في أرض النفاق، لأنه أصبح إله ومعبود وله أسفار ترتل لاسيما سفري لبراغماتية والتملق، ولطالما خسرت البلاد على إثر هذه العبادة الملعونة كنوز الفرص وضيعت مفاتيح المجد، ولازال صدى انتخابات 2009 وما خسرت البلاد على إثرها من خسارة يسكن الذاكرة ويرفض أن يغادرها، إنها نفس الأحداث تلقي بظلالها على البلاد كرة أخرى، جنرال وموارد دولة بأكملها تجند لترفعه على كرسي الحكم ثم تعود نفس الوجود المتبلة بالآثام لتنهب ما بقي من خيرات، وتقطع تشابك ما لم يمزق من خيوط الوحدة الوطنية، ومع ضخامة السبورة التي سطر التاريخ عليها الدروس والأحداث وبطبشور براق لن يستفيد الطيف السياسي المحلي من العبر، وسيعيد نفس الأخطاء التي أفشلته قبل عقد من الزمن وذهبت بريحه، سيدب بينه الخلاف بمجرد التأكيد على وجود شوط ثاني، وستغيب عنه في لحظة قرقرة أمعاء مُزبلة، عشر سنين من الاشتعال، استحال معها كل شيء إلى دخان ورماد وبؤس وشقاء، ثم يعودوا بعد ذالك ليندبوا حظهم العاثر من فوق المنابر وفي السوح.
أما المثقفون فهم الوحيدون من جرد البلاد طيلة الفترة الماضية وخلال حكم كل دكتاتور من شرفها وثوبها الأخضر وعفتها، قدموها رخييييييصة وشاهدوها تنتهك دون ترطيب، بل إنهم استمتعوا كثيرا يصوت الصراح ودموع الضعف، وآثار الخدوش العسكرية وهي تقطر دما دون أن يدغدغهم الضمير، أو تطرف أعينهم إشفاقا ورحمة.
هكذا كان الواقع لعقد مضى وكذالك سيكون المصير مالم يتجسد حلف بين الحقوق والمدنية، بين سيدي محمد ولد بوبكر والمناضل الزعيم بيرام ولد الداه ولد اعبيد ينهي حقبة العسكر.. وبدونه لا شيء سيحدث سوى اجترار التاريخ لنفسه والمضي للمصير على نفس الدرب السابق.