"خلق الله للحروب رجالا" كما خلق للإجماع أفذاذا تلتف حولهم الأمة في كل أمد من الدهر، ليجددوا لها ما دَرَس من الوحدة والتضامن والهناء.
محمد ولد الشيخ محمد احمد ولد الغزواني أحد هؤلاء الذين ينتظر منهم أداء هذا الدور، وتتزاحم المؤشرات لتثبت جدارتهم وقدرتهم على أدائه.
الرجل خدم الوطن بصدق وإخلاص في أكثر المناصب "حساسية" وهو قيادة الجيوش، فلم يسئ لأحد يوما، ولم "يُظلم عنده أحد"، ونهض بالأمن في منطقة خطرة.. استطاع أن يجنب موريتانيا ويلاتها وأن يخرج بها منتصرة بأقل التكاليف.
من يقود الجيش في بلد فكأنما يقود البلد بصيغة أخرى ذات بعد سوسيولوجي عميق، وهكذا خبَرَ السيد محمد ولد الغزواني كافة الأعراق والألوان الموريتانية، وتعرف على "فسيفساء" ثرية للتجمعات والأسر الضعيفة والغنية وما بينهما؛ وتشكلت لديه قناعة راسخة بضرورة ترسيخ الوحدة الوطنية، بدت جلية في برنامجه وخطاباته.
شخصيا وجدت من الدلائل والإشارات في "مجتمعي" الذي يحترف الصناعة التقليدية بشرف، ولديَّ بعض البسطاء الذين تجمعهم بي وبالرجل علاقات "مودة في القربى" ورحم اجتماعي.. ما جعلني أوقن بأن الموضوع عنده موضوع عملي وطبعي صادق وليس مجرد خطاب من خطابات المترشحين ما يلبث أن يختفي مع أول أيام النجاح.
وهكذا سيجعل الرجل من في أعلى هرم أولوياته موضوع الوحدة، باعتباره صمام أمان استقرار البلد وأمنه وتنميته.
ولأنه نجح في "معركة" الأمن من قبل، وجرب فيها حتى لا يكاد ينكر شَأوَه وجدارته إلا مكابر؛ فإنه يحق لنا أن نتفاءل ونثق في نجاحه في "معركة" التنمية من خلال المقاربة الاجتماعية، وتجذير الوحدة، ونبذ خطاب الكراهية، الذي سيبني فيه على إرث من مقاربة الإصلاح مشهود، (قانونا وتشريعا ومؤسسات قضائية، واجتماعية، ومشاريع حكومية).
نعم .. إن الرجلَ أكثرُ الناس علما أنه لا أمن من دون تنمية ولا تنمية من دون أمن؛ وأن للوحدة الوطنية الكلمة الفصل في هذه المقاربة؛ بيد أنها تحتاج وقتا وجهدا، لأن الزمن جزء من العلاج كما تقول الحكمة؛ كما تحتاج تشجيعا وشَدا على أيادي المصلحين الاجتماعيين ممن لم تَطَّبِهِم خطاباتُ النزَق والإرجاف؛ فآثروا أسلوب الوئام والمحبة والسلام، والسعي لتعزيز المشترك ونبذ التفرقة والشقاق.
إن مقاربة المحبين للمجتمع بجميع أطيافه، المشفقين عليه، ( لابد أن يؤثر أهل القضايا بعضهم بعضا، ويعملوا على تبنّيها من طرف الجميع، بمن فيهم "علية القوم"، وعلى رأس ذلك قضية لحراطين..) هي مقاربة تقوم على القول بضرورة القسط والعدل، واتخاذ موقف وسط، لا ينكر وقوع تجاوزات واختلالات في الماضي - ما تزال آثارها بادية للعيان والدولة تعترف بها وتسعى لتجاوزها - دون تبني الحلول المتسرعة والمتطرفة في العلاج، التي هي إلى الهدم أقرب منها إلى البناء.
من يريد الإصلاح في هذا المجال عليه أن يُطمْئن "المستفيدين" السابقين من الواقع الاجتماعي "المتفاوت ماديا ومعنويا" أنه لن ينتزع مكانة تجذرت لهم عبر القرون، أو مالا تراكم عبر الأجيال، غير أنه وهو - "ينزل الناس منازلهم" - لا يقبل أن يسام مواطن لديه خسفا أو ضيما أو هوانا.. "فكل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه"؛ والمجد يكتسب كما تكتسب الفضائل والأخلاق الحميدة، فترفع من كان مقامه واطئا وتخفض من كان فوق السماكين؛ وإلا لظلت البشرية تراوح مكانها وظل خطان متوازيان للخير والشر لا يلتقيان.. تمثلهما ذرية قابيل وهابيل.
ما يجمعنا أكثر من ما يفرقنا.. وهم التنوع موجود في أكثر شعوب العالم.. وقد تم تجاوزه عبر خطاب حقوق "المواطنة" الجامع للناس، المانع من الفتنة والتنازع.
مرة أخرى .. أعتقد أن محمد ولد الغزواني يعي جيدا هذه المقاربات، فله من الثقافة الواعية، والتواضع الجم، وطيبة النفس.. ما يجعله يذهب أشواطا في مسار الوحدة؛ مستفيدا من تجاربه في التعامل مع الناس بشتى مشاربهم وألوانهم داخل الجيش وخارجه.. ومن احترام الناس له وثقتهم فيه، أحزابا في المعارضة والموالاة، ونقابات وجمعيات مجتمع مدني وشخصيات مستقلة وأكاديميين وتكنوقراط.
كما أعتقد أن لديه أكثر من أي وقت مضى فرصة لإصلاح ذات البين سياسيا واجتماعيا عبر تشكيل "حكومة وحدة وطنية" جامعة، تصلح العباد وتنهض بالبلاد؛ سيما وقد التفت حول برنامجه جميع نماذج التوجهات والتيارات، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.. وهي فرصة تاريخية نادرة لا تخفى عليه.
بيْد أنني أقترح - أيضا- على النخبة والعامة أن يمنحوه فرصة في هذا المسار، وأن يدعموا حكومته ويمهلوها فترة زمنية مريحة للإنجاز.
وإذا كانت الديمقراطيات الكبرى تمنح الفائزين عادة وتلوُّما ثلاثة أشهر من "الصمت" ليتفرغوا للإنجاز المركز، وغير المشوش عليه بالمناكفات السياسية، والمطالب النقابية الفئوية، فإنني أعتقد أنه يجب منح موريتانيا ما بعد مرحلة نجاح مرشح الإجماع وحكومة الإجماع، فرصة ثلاث سنوات من السكينة والتعاون والعمل الجاد في الميدان للإنجاز والتنمية وتحقيق الحلم المشترك بالرفاه والتقدم.
أن تتفرغ حكومته لمسار واحد هو مسار التنمية، فإن ذلك أدعى للنجاح من أن يكون لها مساران، أحدهما مسار أداء مهامها و واجباتها التنموية وتطبيق برنامج رئيسها المنتخب من طرف الأكثرية، والآخر مقارعة المنافسين السياسيين - غير الموضوعيين أحيانا - فتتشتت جهودها في شعاب الحيرة والضياع والدوران في نفس الحلقة المفرغة منذ أجيال.
هذا ما يمليه واجب الوطنية عليَّ وعلى كافة أبناء الشعب وأطره في الموالاة والمعارضة؛ فقد آن لنا أن نجتمع ولو مرة، وأن نتحد لنلتحق بركب "العالم الأول" الذي يسير بسرعة الضوء نحو النماء والتقدم.. وأن نعلم -مِن ثَم- أن من يوقد شمعةً خيرٌ ممن يلعن الظلام ألف مرة؛ ومن يميت كل يوم بدعة ويحيي سنة فقد تأسى بخلق ومنهج "عمري" حكيم.
كل ذلك خير لنا من أن نعيد تكرار "أسطوانات" خطابات التخوين والإعاقة، وأن تظل علاقات رجالات السياسة عندنا مشوبة بالشك والعداوة.. فهل إلى كلمة سواء من سبيل؟!.