يستحق الشعب الموريتاني، برمته، أخلص التهاني، وأصدق التمنيات، على ما أثبت من نضج سياسي، أثناء وبعد الانتخابات. ويستحق الرئيس المنتخب، السيد محمد ولد الشيخ محمد أحمد ولد الشيخ الغزواني، كذلك، أخلص التهاني، وأصدق التمنيات بالتوفيق في الحكم، والنجاح في علاج جميع الملفات، وتجاوز كل الملمات، وهذه سانحة لتقديم تلك التهاني والتمنيات. وإني لأقدمها غير مجذوذة، ولا منقوضة، ولا ممنونة؛ كغيري من المواطنين الموريتانيين، ممن دعموه، وعملوا على فوزه وانتخابه. وككل الموريتانيين أيضا، ننتظر اليوم، جميعنا، موعد التنصيب، في الثاني من أغسطس المقبل. فما هي إذا، إلا أيام قليلة، بإذن الله، حتى تحين فرصة إشهاد العالم أجمع، على تحقيق الديمقراطية الموريتانية الفتية، ما عجزتْ عنه نظيراتُها في القارة الافريقية، ونَدُرَ وعَزَّ، في أقطار أمتنا العربية. رئيس منتخب، يسلم السلطة لرئيس منتخب، في سلاسة، وهدوء، وسكينة، واطمئنان. تكريسٌ رائع لاحترام الدستور، وبرهنةٌ على أن رئيس دولة، في العلم الثالث، يمكنه مغادرة السلطة، طواعيةً، غير مرغم بانقلاب، ولا مهزوم في انتخاب.
لكن صفحة الانتخابات، تعتبر مطوية بالكلية بعد صدور النتائج النهائية عن المجلس الدستوري، في اليوم الأول من الشهر الجاري؛ ولا شيء أهم بعد ذلك من التأكيد علي أولويات المرحلة المقبلة، استجلاء للمعالم، وتناولا بشيء من الروية والتأني، لأهم المواضيع الأكثر إلحاحا، حتي تساعد المعالجات مجتمعة، في تشخيص واضح للمشاكل المستعصية الماثلة، وتُعين علي بلورة التصور الأمثل للحلول المرجوة، وكذا أنجع السبل لتحقيقها.
ونحرص، ابتداء، على التأكيد، بأن أولويات العملية التنموية في دولة سائرة في طريق النمو كبلادنا، هي من الكثرة والتشعب، بحيث يصعب في الكثير من الأحيان، تحديد أولوية من أخرى. فكل القطاعات أولوية؛ فالتعليم أولوية، والصحة أولوية، وخلق فرص عمل لتشغيل الشباب أولوية، والصيد أولوية، والزراعة أولوية، والنقل أولوية، وتوفير الماء والكهرباء أولوية، وفك العزلة، في بعض المناطق، لا يزال أولوية، وهكذا. ومع كل ذلك، تظل ملفات، أو مجالات، أو مواضيع، أو قطاعات، بعينها أشد أولوية؛ بمعنى أننا إذا لم نبادر بالقيام فيها بما يلزم، ينجم عن ذلك من الخلل الكثير، ومن الضرر الشيء الكبير. وقد تكون أولويةٌ مُقدَّمَةً، لا لشيء، إلا لمجرد كونها تعتبر شرطا لازما، حتي نتمكن من إنجاز أولويات أخرى. هكذا فقط، وبهذا الاعتبار الدقيق، البالغ التحديد، المُعَبِّرِ عن الطابع الاستعجالي أساسا، يمكننا القول بالأولوية كمفهوم، في بلد كبلادنا. فإذا فُهِمَ هذا الاشتراط، قبل انتقاء موضوع بعينه، تم الاقتناع، وبسهولة تامة، بمبررات ومسوغات أولوية الأولويات وآكد المهمات، التي تقوم البراهين الدامغة، والأدلة الواضحة، علي أنها كذلك، في خضم سيل من المتطلبات.
لذلك، من الواضح أنه لا أولوية أولى من التصدي بحزم وتصميم، لموضوع الغبن التاريخي والمعاناة المستمرة بسببه؛ وذلك بغية القضاء نهائيا على آثار العبودية والاسترقاق، بالتقدم في معالجة هذه المعضلة بشكل حثيث، وبكامل الجدية، أي بإرادة سياسية صادقة من طرف الدولة، ومواكبة مجتمعية فاعلة من طرف المجتمع المدني؛ وبكامل التركيز، أي بتسخير جميع الطاقات، والإمكانات، المادية والبشرية المتاحة، وبمساهمة الجميع. والعمل علي الطيِّ النهائي لهذا الملف. نعم، هذا الملف هو أولى الأولويات، حتى نضمن نزع فتيل كل الأزمات. وحتى تجد المنجزات التي نأمل تحققها في الخمسية القادمة، أرضية صالحة لاستفادة الجميع منها. ولا يخفي ذلك، على المتتبع للأوضاع، الناظر بعين فاحصة، لأسباب المشاكل، لا إلى نتائجها؛ والناظر بعين فاحصة لأصل المعضلات، لا إلي المظاهر، والقشور.
ولنا أن نلاحظ، في هذا الصدد، ما يلي:
1. على المستوى الفقهي البحت، مثلا، لم تستطع الفتوى العظيمة لرابطة علماء موريتانيا، الصادرة تحت الرقم: 0085، عن الأمانة العامة لهذه الرابطة، بتاريخ 27 مارس 2015 م أن تحرك كبير شيء، اللهم إلا ملتقيى واحدا، أو اثنين. وهذه الفتوى، وإن كانت قد أتت متأخرة، إلا أنها أتت للتأكيد على ما تم تقريره سابقا في سنة 1981 م، وذلك أمر مهم للغاية؛ ومع ذلك لم تستطع وقتها أن تستقطب اهتمام الفقهاء، والخطباء، والوعاظ، والدعاة، وأساتذة مادة التربية الاسلامية، والمرشدين، وأئمة المساجد، في مختلف أنحاء الوطن؛ قصد إعطائها ما تستحق من الشرح والتوضيح، وتعميق جوانبها المختلفة؛ مع أنها فتوى عظيمة لسببين اثنين: أولهما أنها قررت، بما لم يعد يدع مجالا للشك، أن العبودية التي وُجِدَتْ في موريتانيا، لا أصل لها شرعا، وباطلة قطعا. وثانيهما: أنها فتوي جماعية، وليست فردية.
2. لم تنخرط الأحزاب السياسية، في معظمها، ولا الجمعيات، ولا النقابات، ولا التعاونيات، ولا المنظمات غير الحكومية، بالشكل الكافي، في التمهيد لما يجب أن يكون عليه عهد ما بعد هذه الفتوى. وظلت الأمور على ما هي عليه، في المسلكيات، والعقليات، والممارسات، حتى أننا لاحظنا أن الشرخ، ولا أقول القطيعة، الُمُغَذَّي بواقع مدرسي "تمايزي"، وضعف مادي، وهشاشة كبيرة في أوساط الذين عانوا، بصفة مباشرة أو غير مباشرة من ظاهرة الاسترقاق؛ هذا الشرخ أصبح أكثر وضوحا، وإيلاما يوما بعد يوم. وهو ما يؤكد أننا لا نزال نعاني من وضعية مجتمع يسير "بسرعتين"، فالأمر بالغ الخطورة إذا، على اللحمة الاجتماعية، ويهدد، إذا لم يعالج في أسرع الأوقات، وحدتنا الوطنية في الصميم.
3. لم يكفِ جهدُ الوكالة الوطنية للتضامن في إطلاق الدينامية اللازمة، رغم المنجزات الكبيرة، والتي نحرص هنا على التنويه بقيمتها، وأهميتها، للتصدي لمكافحة آثار الاسترقاق، وما يتطلبه من انخراط الجميع في الجهود التي يقصد بها معالجة مخلفاته الكبيرة. فلم يتمَّ إنشاء قطاع وزاري خاص بهذا الملف، ولم يتم اشراك هيئات ومنظمات المجتمع المدني بالشكل الكافي. لذلك، بقيت الجهود الجبارة التي قامت بها هذه الوكالة، عند حدود بناء مدرسة، ونقطة صحية، وترميم سد، أو بناء مسكن. ولا يخفى ما لكل تلك الإنجازات من أهمية قصوى، نحن آخر من ينكر قيمتها وأهميتها، إلا أنها جهود، ظلت في المجمل قاصرة، كمن يعطي الخبز لمن هو جوعان فعلا، لكنه ظمآن، في نفس الوقت!
فكيف يتم علاج كل هذه التعقيدات؟ وما هو التشخيص الدقيق للواقع المجتمعي الراهن؟ وما هي المقاربة الأمثل لتقديم الحلول؟ وما هي المقترحات العملية في هذا الصدد؟
في محاولة للإجابة علي مجمل هذه التساؤلات، سنعمل، بحول الله وعونه، خلال أربع (4) حلقات متتالية، على تناول التشخيص من جهة، والمعالجة من جهة أخرى، للجوانب التالية:
- التشخيص والمعالجة للآثار النفسية والاجتماعية للاسترقاق (الحلقة: 1)؛
- التشخيص والمعالجة للآثار التربوية، التعليمية، والتكوينية للاسترقاق (الحلقة: 2)؛
- التشخيص والمعالجة للآثار المادية والاقتصادية للاسترقاق (الحلقة: 3)؛
- التشخيص والمعالجة للآثار القانونية للاسترقاق، على الملكية العقارية (الأراضي الزراعية، خصوصا) (الحلقة: 4).
وبالله التوفيق. (يتبع...)
نواكشزط بتاريخ 8/07/2019 م