لا شيء أقدر على إطلاق الفكر الإنساني ولا تحريره أكثر من لغة سيالة متنوعة التعابير واسعة المفاهيم مثل اللغة العربية، ولذا يقول علي عزت بيجوفيتش في كتابه الإسلام بين الشرق والغرب إن الإنسان ما أصبح إنسانا إلا بالصفتين الذين صدر القرآن بهما قصة آدم عليه السلام، أولاهما الأخلاقية التي تقسم الأشياء في الكون إلى حرام وحلال ومسموح ومحظور، والثانية هي القدرة على التعبير اللغوي عن هذه الأشياء بأسماء تخص كل عنصر وتميزه في الذهن عن غيره من الحقائق. والمتأمل في الصفتين يجد فيهما دلالات أعمق من الظاهر فالأولى وإن كان ظاهرها أنها تشريعية إلا أن فيها أيضا جانبا لغويا يقتضي وجود أداة للتعبير عما هو جائز وما هو غير جائز، وأما الثانية فتتدرج من لغة الغراب الرمزية إلى لغة الهدهد ذات الدلالات الصريحة المباشرة.
لكن لا شيء أيضا أقدر على تقييد الفكر الإنساني من لغة ضحلة قليلة التعابير ضيقة المفاهيم، تجعل الإنسان عاجزا عن التفكير في الأشياء بشكل متنوع ومختلف، وإذا كان كذلك فبالتأكيد سيكون على التعبير وإيصال الرسالات أكثر عجزا وأقل قدرة. روى ول ديورانت في كتابه الشهير قصة الحضارة أن أحد المستكشفين ألقت به عصى الترحال في مضارب قوم لا يملكون من عمق التفكير إلا قدر ما لديهم من وسائل التعبير، ومن ذلك مثلا أن الأرقام عندهم لا تتجاوز 3 وما زاد عليها يسمونه بلغتهم بما يرادف عندنا كلمة "كثير" وكان من غرائب الملاحظات أن هؤلاء القوم لا تستطيع أذهانهم أن تميز كمية أي معدود يتجاوز الثلاثة ما اضطرهم إلى أن تكون كل معروضات أسواقهم وأثمانهم لا تتجاوز هذا العدد الضئيل.
وقد شاءت حكمة الله أن ينزل كتابه بلسان عربي مبين غزير الألفاظ واسع المعاني لا تحده حدود الزمان ولا مضائق المكان، لكن يبدو أننا نحن من حيث لا نحتسب ضيقنا هذا الواسع الذي لا ساحل له بسلسة من المفاهيم والمصطلحات التي أصبحت أكثر أهمية وتداولا عند بعض الناس من مفاهيم القرآن ولغة الحديث النبوي الشريف. ففي أساسيات الإسلام استبدلنا مفاهيم القرآن الكثيرة الواضحة مثل الإسلام والإيمان والإحسان والكفر والنفاق والفسق بمصطلحات قليلة غامضة لا يزال بعضها إلى اليوم مثار جدل في دلالته واشتقاقه مثل العقيدة وعلم الكلام وأصول الدين والتصوف والردة والزندقة، وفي فروع الإسلام صنعنا لغة جديدة تختلف كل الاختلاف عن لغة العرب الفطرية ومفاهيم القرآن الخالدة.
فمصطلح العقيدة مثلا غير واضح المعالم ويبدو أنه مع الزمن تحول إلى عقدة كبرى تجمع كل المسائل والقضايا التي أثارت جدلا في التاريخ الإسلامي أو قال بها من أثار جدلا من الطوائف والفرق سواء تعلقت هذه القضايا بالأساسيات أو بالتفاصيل، ومن هنا تسربت بعض المسائل التي يفترض أنها تفاصيل ينبغي أن تدرس وتدرس ضمن ما اصطلحوا عليه بالفروع، تسربت خلسة إلى ما اصطلحوا على تسميته بالأصول دون أن ينتبه منا أحد، ومن ذلك مثلا أحكام الإمامة والمسح على الخفين التي أصبحت جزءا من العقيدة لا لشيء إلا لأن فرقا مثل الإمامية يرون الإمامة أصلا من أصول الإيمان وينكرون المسح على الخفين.
ومصطلح الزندقة وإن كان ذائع الصيت في كتب الفقه والتاريخ فإنه مصطلح غامض اللفظ لأنه فارسي معرب، وقيل إن أصله زنده كرداي، وتعني القول بدوام الدهر؛ لأن زنده الحياة، وكرد العمل، وقيل نسبة محرفة إلى أهورامزدا إله الزرادشتية أو إلى مزدك أحد مجددي تلك الديانة، ولا تزال كلمة "زندكي" إلى اليوم مستعملة في اللغة الفارسية وما تأثر بها من لغات بمعنى الحياة، وقد يكون الأمر له علاقة ببعض العقائد المتعلقة بالحياة مثل الخلود أو التناسخ أو غير ذلك، كما أن هذا المصطلح غامض من حيث المعنى لأنه مصطلح لا يعرف له أصل في نصوص الشرع، وقد كان في بداية نشأته أقرب للسياسي منه إلى الشرعي، ولم يعرف إلا في العصر العباسي مع انتشار حركات الشعوبية وبقايا المانوية التي كانت مشكلتها مع النظام القائم حينها سياسية قبل أن تكون دينية.
وأما في الفقه فحدث عن المصطلحات ولا حرج، فكل منا يجد نفسه كل يوم محاصرا بين مصطلحي العبادات والمعاملات. ومع أن الدين واحد والمشرع واحد والأحكام الشرعية كلها عبادات وكلها معاملات، فإن المرء يقف حيران في تصنيف هذا الفعل أو القول ضمن أحد الصنفين مع أنهما يمكن التعبد والتدين دون معرفة أي منهما في الأساس. روى لي أحد العارفين أن رجلا من عامة المسلمين جاء إلى الشيخ محمد عالي بن عبد الودود فقال: إن لدي سؤالا فقهيا، فسأله الشيخ: في العبادات أم في المعاملات؟ فأجاب الرجل ليس في أي منهما. وهذه الإجابة وإن كانت تروى على سبيل النكتة فإنها يمكن أن يجيب بها أي مسلم من الأجيال التي سبقت نشوء المصطلحات وتفريعات الفقه المتأخرة. وما عليك إلا أن تتخيل شخصا لا يعرف أي كلمة تعبر عن الزمن مثل أسماء الأيام والشهور والسنوات، فلو سألته: كم عمرك؟ أو في أي يوم نحن؟ لأجاب بأنه ليس في أي يوم لأن الزمن بالنسبة له وحدة واحدة وحلقة مفرغة خالية من التقسيمات والأمارات المفترضة.
ويكاد الفقهاء يجمعون على أن الحدود عقوبات مقدرة شرعا، ومن هنا فإنها لا عفو فيه ولا رأفة ولا تنازل بعد الوصول لمنصات القضاء، وفي المقابل يتفقون على أن التعازير يجوز فيها تقريبا كل ما لا يجوز في الحدود. وبما أن كلمة الحد وردت في الحديث الصحيح فإن الإشكالية في المصطلح القسيم لها وهو التعزير، والأشكل منه بيان معايير التفريق بين ما هو حد وما هو تعزير؛ فهل المعيار هو النص، أم العدد، أم التنفيذ في عصر النبوة، أم إجماع الصحابة، أم غير ذلك؟ وفي هذا المقام لا نجد حدا فاصلا بين المصطلحين، ولذا اختلف الفقهاء الأقدمون في عقوبة السكر هل هي حد أو تعزير، وخرج من خرج من إلزامية رجم الزاني المحصن، وقتل المرتد من المعاصرين بأن ذلك كله كان في صدر الإسلام بين التعزير لا من باب الحدود.
وما رأيت أمرا أكثر بساطة ولا أقل تعقيدا من فك طلاسم اللغز الذي أفنى فيه فقهاء معاصرون كثيرا من جهودهم وأوقاتهم ألا وهو مسألة الدفاع والطلب في فقه الجهاد، والحق ببساطة أن مصطلحي "الدفاع" و"الطلب" ما هما إلا مصطلحان محدثان حاصرنا بهما التفكير بحيث أصبح كل من يفكر في الأمر لا بد أن يقول بهما أو بأحدهما على الأقل وكأنهما أمران لا يرتفعان في أي حال من الأحوال. ورسول الله صلى الله عليه لما كان يغزو خلفاؤه الراشدون لما كانوا يعلنون الحروب لم يكونوا يفكرون في الأمر هل هو دفاع أو طلب، وإنما كان محل النظر هل الحرب هي الخيار المناسب في هذا الزمان وهذا المكان ليس إلا. فمتى رأوها مصلحة أعلنوها ومتى رأوها غير ذلك توقفوا وبحثوا في الخيارات البديلة.
صحيح أن المصطلحات لا مشاحة فيها، وصحيح أنه من حق أي مختص أو فئة من المختصين أن تدعو ما تشاء كما تشاء، لكن أرى أن حمل نصوص الشرع المتقدمة زمانا ورتبة على مصطلحات ومفاهيم متأخرة عنها زمانا ورتبة، وإلزام جميع المسلمين بفهم نصوص الشرع بواسطة هذه المفاهيم وتطبيقها في كل زمان ومكان لا بد أن تكون فيه مشاحة وأي مشاحة، ولا مخرج من ذلك إلا بإعطاء المصطلحات قدرها باعتبارها وسيلة لتيسير الدرس وتقريب المفاهيم، والعودة في الحقائق الشرعية إلى نصوص الشرع ودلالات اللغة العربية التي لا تنضب.