على مدار الساعة

هيبة القضاء قبل كل شيء

24 يوليو, 2019 - 16:16
محمد عبد الرحمن الحسن

يروى أنه في خضم الحرب العالمية الثانية عرضت قضية على رئيس الوزراء البريطاني (وينستون تشرتشل) تتعلق بحكم قضائي نص على منع الطائرات العسكرية من التحليق أثناء انعقاد جلسات المحكمة نظرا لما قد تسببه حركة هذه الطائرات من إزعاج وإرباك لسير جلسات المحكمة، فرد (تشرتشل) بعبارته الخالدة "لا بد من تنفيذ الحكم، فإنه أهون أن يكتب التاريخ أن إنجلترا هزمت في الحرب من أن يكتب فيه أنها امتنعت عن تنفيذ حكم قضائي".

 

لا يخفى على أحد ما لهذه المقولة من دلالة على احترام رئيس الوزراء البريطاني لأحكام القضاء، ذلك أن احترام الأحكام القضائية وتطبيقها يعتبر بجد علامة فارقة بين الدولة المدنية (دولة القانون والمؤسسات) والدولة البوليسية، فالدولة المدنية تقوم على وجود سلطة قضائية مستقلة، قادرة على حماية حقوق وحريات الأفراد، سواء في بينهم، أو فيما بينهم والسلطة التنفيذية من خلال دعاوى الإلغاء والتعويض.

 

ولقد كرس دستورنا الوطني مبدأ الفصل بين السلطات الذي يعتبر أداة لاستقلال السلطة القضائية في المادة: 89 التي نصت على أن "السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية"، وفي نفس السياق نصت المادة: 90 على أنه "لا يخضع القاضي إلا للقانون"، ورغم هذه الضمانات الدستورية التي كان من شأنها أن تضفي سلاسة على تنفيذ الأحكام القضائية سواء الصادرة في حق الأفراد الطبيعيين أو الصادرة ضد الدولة أو أشخاص القانون العام الاعتبارية الأخرى، فإنه مع ذلك ما يزال تنفيذ هذه الأحكام متعثرا في كثير من الأحيان، خصوصا الأحكام الصادرة ضد الدولة.

 

وبالرجوع إلى الباب الرابع من قانون الإجراءات المدنية والتجارية والإدارية نلاحظ أنه بعد أن تعرض لإجراءات تنفيذ الأحكام والعقود الموثقة وغيرها من السندات التنفيذية نص في المادة: 327 على أنه: "دون المساس بالسلطة المتعلقة بقوة الشيء المقضي به، فإن طرق التنفيذ المقررة في هذا الكتاب لا تطبق على الدولة ولا على أشخاص القانون العام الاعتبارية" دون أن يبين هذا القانون المسطرة الواجبة الاتباع في تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضد الدولة، وما عليه العمل هو أنه في حالة صدور حكم قضائي قاضي بإلغاء قرار فإنه يبلغ إلى الجهة المصدرة له بعد تحليته بالصيغة لتنفيذية عن طريق النيابة العامة، ومن ثم يصير الحكم وما يتضمنه من حقوق خاضعا للسلطة التقديرية للإدارة، التي لا ينفذ عليها جبرا.

 

وبذلك تبقى أغلب الأحكام القضائية الصادرة ضد الدولة دون تنفيذ، مما يعني تضييع حقوق الأفراد المصانة بموجب الدستور، وعلة ذلك القيود المفروضة على القاضي، القاضية بعدم جواز توجيهه الأوامر إلى السلطة التنفيذية انطلاقا من مبدأ الفصل بين السلطات، وبذلك ينحسر دور القاضي في النطق بالحكم الصادر ضد الدولة.

 

وفي إطار سعي المتضرر إلى تنفيذ الحكم القضائي قد تواجهه الإدارة بالرفض متعذرة بصعوبة التنفيذ، مما يجعله يلجأ من جديد إلى القضاء بهدف إلغاء قرار الامتناع، ولا يخفي على أحد ما في ذلك من مشقة وهدر لحقوق الأفراد، ومن أشهر القضايا من هذا النوع قضية (فابريكي).

 

ولقد اعتبر مجلس الدولة الفرنسي أن تنفيذ الإدارة للأحكام القضائية الصادرة ضدها يعتبر تحقيقا للمصلحة العامة، بالإضافة إلى أن تحقيق المصلحة العامة لا يمكن أن يتم من خلال النيل من حجية الأحكام، واتباع السبل غير المشروعة، ذلك أن رفض الإدارة تنفيذ أحكام القضاء الصادرة ضدها من شأنه أن يؤدي إلى الفوضى، ويمثل تعديا على النظام العام الذي يجب على الإدارة المحافظة عليه، ويزعزع ثقة الأفراد في القضاء الذي كان ينبغي أن يكون ملجأهم الأخير للحصول على حقوقهم، ودرء تسلط الإدارة وتعسفها.

 

إن السبل المتاحة للأفراد في إطار سعيهم للحصول على حقوقهم المثبتة من خلال أحكام قضائية صادرة ضد الدولة تقتصر عندنا في التظلم لدى السلطة الرئاسية للجهة التي امتنعت عن تنفيذ الحكم القضائي، أو رفع دعوى إلغاء قرار الامتناع عن التنفيذ.

 

إن تعنت الإدارة، وعدم تنفيذها للأحكام القضائية الصادرة بحقها، هو ما جعل أغلب المتضررين من هذا الشطط في استعمال السلطة يلجؤون إلى التشهير إعلاميا بالإدارة التي رفضت تنفيذ الحكم القضائي، ومن المعروف ما يترتب على ذلك من النيل من سمعة الحكومة داخليا، والدولة خارجيا، وهو ما جعل بعض التشريعات الحديثة تقر إجراءات أكثر فاعلية نرجو أن يقتبس منها مشرعنا الوطني مثل الغرامة التهديدية التي تعرف بأنها: "عقوبة مالية تبعية ومحتملة تحدد بصفة عامة، بمبلغ معين من المال عن كل يوم تأخير بهدف تجنب عدم تنفيذ أحكام القضاء الإداري"، فهي وسيلة استحدثها الفقه القضائي وأقرتها التشريعات الحديثة بهدف تمكين القاضي من جبر الإدارة على تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضدها.

 

كما أن بعض التشريعات رتبت جزاء جنائيا وتأديبيا على الموظف الذي يمتنع عن تنفيذ الأحكام القضائية، ذلك أن الامتناع عن تنفيذ الأحكام القضائية، لا يمثل مساسا بحق المحكوم له فحسب، بل يعتبر إهدارا لقوة الأحكام القضائية، واعتداء على هيبة السلطة القضائية، وتقويضا لاستقلاليتها.

 

مما يستوجب فرض جزاءات مناسبة، توقع على كل من يقوم بعرقلة سير تنفيذ الأحكام القضائية، لما يترتب على ذلك من ردع، وفرض لاحترام الأحكام القضائية، وفي هذا الصدد نصت المادة: 138 مكررة من قانون العقوبات الجزائري على أنه: "كل موظف عمومي استعمل سلطة وظيفته لوقف حكم قضائي أو امتنع أو اعترض أو عرقل تنفيذه عمدا يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاثة سنوات وبغرامة من 5000 دج إلى 50000 دج".

 

ونظرا لحجم الحقوق التي يتم تعطيلها بسبب امتناع الإدارة عن تنفيذ الأحكام القضائية، فإننا نهيب بمشرعنا الوطني أن يراجع النصوص المتعلق بهذا الشأن، لما يمثل ذلك من مواكبة النص للواقع من جهة، وسير نحو دولة القانون من جهة أخرى، كي لا تبقى الأحكام القضائية الصادرة ضد الدولة معطلة.