غادرتُ اليمن في خواتيم العام 1998 بقلبٍ مُثقل بالحنين، بعد سنتيْن جميلتيْن عشتُهما هناك. وقد دخلت صنعاء مردِّدا الجُمَل الأولى من (المقامة الصنعانية)، وهي المقامة الأولى من (مقامات الحريري) التي حفظتُ بعضها أيام الصبا على يد والدي رحمه الله، وفيها يقول الحريري: "وطوَّحتْ بي طوائحُ الزمن، إلى صنعاء اليمن، فدخلتُها خاويَ الوِفاض، باديَ الإنفاض". ثم عبَّرتُ عن الحنين إلى صنعاء في قصيدتي: (ريَّاكِ صنعاءُ)، التي بعثتُها من واشنطن لأصدقائي اليمنيين عام 1999، ونشرتْها صحيفة يمنية بالعربية والإنكليزية.
ومع الذكريات الجميلة التي حملتُها معي من صنعاء، حملتُ أيضا صفحة مهمة من التاريخ السياسي اليمني، هي كتاب (مصرع الابتسامة) الذي أهدانِيهِ مؤلفُه الكاتب الشاب حميد شحرة (1973-2006) رحمه الله وتقبَّله، وقد كان من أعزِّ أصدقائي اليمنيين. وقد قرأتُ الكتاب يومها، لكني عدتُ لقراءته في مطلع هذا العام، بعد عشرين عاما من قرائتي الأولى له، مستعينا به لفهم خلفيات بعض ما يحدث في اليمن اليوم، نظرا لتشابه اللحظة التي يتناولها الكتاب مع اللحظة الحاضرة من تاريخ اليمن عموما، وتاريخ العلاقات اليمينة السعودية خصوصا. وهو كتاب لطيف موثَّق توثيقا رصيناً، ولا يستغني عن قراءته من يسعى لفهم العلاقة السياسية المعقَّدة بين اليمن وجارته الشمالية، المملكة العربية السعودية، وموقف السعودية من وحدة اليمن، ومن حركة الإصلاح السياسي في اليمن. وربما ازدادت أهمية الكتاب هذه الأيام بما استجد على هذه العلاقة من تعقيدات محزنة.
استلهم المرحوم حميد شحرة عنوان كتابه (مصرع الابتسامة) من بيتين للشاعر اليمني الشهيد محمد محمود الزبيري (1910-1965) المشهور بلقب "أبي الأحرار اليمنيين"، وصدَّر الكتابَ بذيْنك البيتين، وهما قول الزبيري:
أنا راقبتُ دفْنَ فرحتِنـا الأولى
وشاهدتُ مصرعَ الابتسامهْ
ورأيتُ الشعب الذي نزَع القيد
وأبْقى جذورَه في الإمـامـهْ
وقد رحل مؤلف (مصرع الابتسامة) عن هذه الدنيا رحيلا مبكراً، في حادث سيارةٍ مُفْجع، تاركاً وراءه كتابه اليتيم. وكأنما شاءت الأقدار أن يكون المؤلف نفسُه ابتسامةً صريعةً، ظهرت ظهوراً عابراً، ثم ذبُلتْ ورحلتْ عجْلَى، كأنْداءِ فجرٍ صنعانيٍّ.
يتناول كتاب (مصرع الابتسامة) ثورة الأحرار اليمنيين عام 1948، وسعْيَهم إلى إقامة أول ملكية دستورية عربية، ويشرح الكتاب كيف تعاضد ضعفُ التخطيط، والمصادفات السياسية السيئة، وظُلْم الأقربين في السعودية، على وأد تلك الثورة العظيمة السابقة على زمانها، والتي كانت كفيلة بوضع اليمن في صدارة التطور السياسي العربي المعاصر.
كانت النخبة التي أشعلت ثورة الأحرار اليمنيين تركيبا جميلا من شخصيات إسلامية ووطنية يمنية، أبرزها الشاعر الثائر محمد محمود الزبيري، ومحمد صالح المسمري، وأحمد حسن الحورش، ومحيي الدين العنسي، وحسين الكبسي. ودعمتْها شخصيات عربية كانت تعيش في اليمن، أو تربطها باليمن علاقات خاصة، في لحظة لم تكن الحدود بين الأقطار العربية مرسومة بشكل واضح. ومن هذه الشخصيات العربية: الداعية الرحَّالة الجزائري الفُضيل الورتلاني ذو الشخصية القلقة التي تحمل همَّ الإسلام والمسلمين أينما حلتْ، والضابط العراقي جمال جميل الذي كان مدربا للجيش اليمني ثم سرعان ما اندرج في دهاليز السياسة المحلية اليمنية. وكان للإسلاميين المصريين الدور الأكبر في دعم ثورة الأحرار اليمنيين، فكان الإمام حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في مصر، من أكبر الداعمين والمتحمسين لثورة الأحرار اليمنيين قُبَيْل اغتياله عام 1949.
وقد صاغ الثوار اليمنيون رؤيتهم السياسية في وثيقة سموها (الميثاق الوطني المقدَّس)، وهي مشروع دستور من تسع وثلاثين مادة، مع ملحق من أربع مواد (انظر نص الوثيقة كاملاً في الصفحات 271-277 من الكتاب). وهي وثيقة لم تُلفت نظر الدارسين العرب أو الأجانب المهتمين بالتطور الدستوري العربي المعاصر بكل أسف، رغم أنها وثيقة سابقة على زمانها من حيث الرؤية الإصلاحية التي تتضمنها، ومن حيث دمجها بين المرجعية الإسلامية والقيم الديمقراطية المعاصرة في وقت مبكر من الزمان السياسي العربي المعاصر.
اتسمت ثورة الأحرار اليمنيين بالكثير من "العشوائية والارتجالية" (مصرع الابتسامة، 200)، واتَّسم تنفيذها بالارتباك، ومع ذلك فقد نجحت في السيطرة على صنعاء، وتشكيل حكم دستوري. وكان العامل الأهم في وأدها بعد ذلك هو الدعم السعودي للبيت الإمامي المتهالك. ولعل الكشف عن هذا الدور السعودي في مصرع الابتسامة اليمنية الأولى قبل سبعين عاما، من خلال اغتيال ثورة الأحرار اليمنيين، خلفية مُعِينة على فهم الدور السعودي المعادي للثورتين اليمنيتين اللاحقتين: ثورة سبتمبر 1962، وثورة فبراير 2012.
كان ملك السعودية، الملك عبد العزيز آل سعود، على علاقة سيئة مع أئمة الزيدية الذين يحكمون اليمن يومذاك، خصوصا مع الإمام يحي نفسه الذين قتله ثوار 1948، وقد انتهت حرب ضروس بين المملكة المتوكلية اليمنية والدولة السعودية الثانية بقيادة الملك عبد العزيز باقتطاع عبد العزيز مناطق شاسعة من اليمن هي نجران وجازان وعسير (قريبا من ربع مليون كيلومتر مربع) باستئجارها من اليمن في اتفاقية الطائف عام 1934، ثم ضمِّها لمملكته قسراً بعد ذلك.
لكن الغريب أن الملك عبد العزيز الذي كان يعادي ملوك اليمن نسي كل عداوته معهم حين أصبح حكمهم مهدَّدا بتيار إسلامي ديمقراطي، يسعى إلى بناء ملكية دستورية. فحينما قُتل الإمام يحيى –فيما يبدو أنه خطأ وارتباك، إذ لم يكن قتله ضمن الخطة الأصلية للثورة- وشكَّل الثوار حكومة دستورية بقيادة الإمام عبد الله الوزير، دعَم الملك عبد العزيز الثورة المضادة في اليمن ضد حكومة الثورة، رغم أن القائد الجديد عبد الله الوزير كان يعوِّل على دعم ملك السعودية، بسبب خصومة قديمة بين عبد العزيز وبين أئمة اليمن، خصوصا السيف أحمد، نجل ملك اليمن القتيل، المطالب بثأره ضد الثوار، وبإعادة السلطة المطْلقة لأسرته.
يتضمن كتاب (مصرع الابتسامة) وثائق سياسية مهمة، لكن أكثر هذه الوثائق إثارة، ودلالة على التاريخ الطويل للثورة المضادة التي ترعاها السعودية في اليمن منذ سبعين عاما، هي رسالة ولي عهد اليمن، السيف أحمد، إلى الملك عبد العزيز التي يستنجده فيها ضد "الأحرار" و"الإخوان" ويقول فيها إن "الإخوان والأحرار خطر على العروش والملوك" (مصرع الابتسامة، 158). وفي الرسالة يطلب السيف أحمد من ملك السعودية "تناسي ما بينهما من خلافات، عارضاً عليه أن يكون له ابناً، ويكون عبد العزيز له أباً" (مصرع الابتسامة، 158). وقد نقل حميد شحرة مضمون هذه الرسالة عن كتاب القاضي عبد الله الشماحي (اليمن: الإنسان والحضارة).
وبالرجوع إلى المصدر الأصلي، نجد وصفا مهما لرد فعل الملك عبد العزيز على الرسالة، حيث كتب القاضي الشماحي: "فقام الملك عبد العزيز وقعَد، وأمر أمير جيزان بأن يُنْجد [وليَّ العهد اليمني] أحمد بكل ما يطلب، فلم يصل أحمد حَجَّة ويستقر بها، إلا وأرسل إليه أمير جيزان بأوائل النجدة ذخيرةً ومالاً وجهاز اللاسلكي، مصحوبة من الملك عبد العزيز برسالة، مُعْلماً له بالمؤازرة، حاثًّا له على خوض المعركة في استبسال، مُوعِداً له بالمساعدة إلى آخر نفس وريال." (اليمن: الإنسان والحضارة، 250). وقد كان ما أراده الملك عبد العزيز، ونجح ولي العهد اليمني في اغتيال ثورة الأحرار اليمنيين، بدعم سعودي سخيٍّ كان مستعدا لبذل "آخر نفس وريال" في سبيل حرمان أهل اليمن من تنسُّم نسيم الحرية السياسية.
وبالتأمل في عبرة التاريخ المستخلصَة من ثورة الأحرار اليمنيين عام 1948، يمكن التوصل إلى دروس وعبر مهمة، منها أن السعودية ظلت خلال السبعين عاما المنصرمة ضد أي إصلاح سياسي في اليمن، خصوصا إذا اتَّسم بسِمة إسلامية. ومن الواضح أن الملك عبد العزيز كان يخشى عام 1948 وجود سابقة ثورية سياسية عند خاصرته الجنوبية، تجمع بين قيم الإسلام والحرية السياسية، لأن ذلك ينزع الشرعية عن دولة الاستبداد السلطاني التي شادها بسيفه.
ولا تزال هذه الخشية تؤطِّر الموقف السعودي من الثورات السياسية وحركات الإصلاح السياسي في اليمن، بل وفي أرجاء العالم العربي كله. فلم يتغير هذا النهج من ترتيب الأولويات في العقل السياسي السعودي خلال سبعين عاما: فحينما دعمت السعودية الحكم الإمامي في اليمن ضد الثورة اليمنية الثانية عام 1962، وحين مكَّنت السعودية للحوثيين في اقتحام صنعاء عام 2014، ووأْد الثورة اليمنية الثالثة التي اندلعت عام 2012، فإنها كانت تحافظ على أولياتها القديمة كما صاغها الملك عبد العزيز عام 1948، وهي أولويات تقضي بأن ملكيةً مطلقة معادية في اليمن، عند خاصرة المملكة السعودية، أفضل من أي حكم ديمقراطي وحدوي يمني.
فما رآه بعض الكتَّاب السياسيين تناقضا في السياسة السعودية حين دعمت الإمام مطلع الستينات ضد الضباط العروبيين اليمنيين، أو حين دعمت انقلاب الحوثي عام 2014 ضد ثورة الشباب اليمني، وضد حزب الإصلاح الإسلامي ذي القاعدة الاجتماعية السُّنِّية، ليس في الحقيقة تناقضا إذا وضعناه في سياق التاريخ. فالسلطة السعودية تعادي الحوثيين فعلاً، كما كانت تعادي أئمة الزيدية في اليمن دائما، لكنها تعادي حرية الشعب اليمني ووحدته عداوةً أكبر من عداوتها للحوثي وللنظام الإمامي في اليمن.
وتزداد عداوة السلطة السعودية لهذه الوحدة وتلك الحرية إذا جاءتا ملتحمتين بدعوة إسلامية، تجرِّد السلطة السعودية من السِّتارة الإسلامية الشفافة التي تغطي بها فسادها واستبدادها وتواطأها مع أي عدو طارق يسعى إلى هدم مقومات القوة المادية والمعنوية لهذه الأمة. وقد كان الإخوان المسلمون من أعظم داعمي ثورة الأحرار اليمنيين عام 1948، وكانوا أهم رافعة لثورة الشباب اليمني عام 2012، فلا عجب أن ناصبت السلطة السعودية هاتين الثورتين العداوة. على أن الأمر موقف سعودي ثابت، يتجاوز الطابع الإسلامي وغير الإسلامي للثورة، إلى استهداف اليمن في صميم وجوده، لذلك كانت الحرب السعودية أيضا على ثورة 1962 الذي طغى عليها المنزع العروبي.
ويدل هذا التاريخ الطويل من الثورة المضادة السعودية في اليمن أن السلطة السعودية لم تكن بالضرورة تسعى إلى انتصار أئمة الزيدية في اليمن عام 1948 أو عام 1962، ولا هي اليوم تريد انتصار الحوثي، لكن كانت ولا تزال تريد هزيمة أي قوة سياسية إصلاحية في اليمن، تجعل من اليمن نموذجا ملهما لشعوب الجزيرة العربية، مما قد يُخرج الشعب السعودية من نير العبودية السياسية في النهاية. وفي سبيل تحقيق هذه الغاية الخبيثة، لا يهم السلطةَ السعوديةَ دمارُ اليمن إنسانا وحضارة، ولا غرَقُه في حروب استنزاف عدَمية دائمة، ما دام ذلك يحُول دون قيام دولة يمنية حرة وقوية على الحدود الجنوبية للسعودية. ومن أسوأ الحروب في التاريخ العسكري تلك الحروب العدمية التي لا غالب فيها ولا مغلوب. وأسوأ منها الحروب التي تخوضها نيابة عن الآخرين، فتكون لهم ثمارها، وعليك دمارها. وهذا ما يبدو أنه يحدث في اليمن اليوم برعاية سعودية.
وبناء على هذا المسار التاريخي من الثورة المضادة السعودية في اليمن الذي لم يتبدل خلال سبعين عاما، ربما يحسن بأحرار اليمن من شباب الثورة اليمنية والقوى السياسية والاجتماعية التي كانت رافعة لتلك الثورة، أن يرتِّبوا أولوياتهم وعداواتهم وصداقاتهم. وأول ذلك أن يدركوا أن موقف السعودية المعادي للوحدة اليمنية والإصلاح السياسي في اليمن موقف ثابت، وأن أي إصلاح سياسي وطموح إلى بناء دولة يمنية حرة سيجد أمامه التعويق من السلطة السعودية.
فثمة أمران ثابتان في السياسة السعودية تجاه اليمن خلال سبعين عاما، هما معارضة السعودية لأي جهد لتوحيد اليمن، ومعارضتها لأي إصلاح سياسي في اليمن. وفي ظل هذين المبدأين تعرَّجت السعودية وتناقضت تكتيكيا، فدعمتْ أئمة الزيدية في أوقات الثورة عليهم رغم خلافها الطويل معهم على الحدود، ودعمت الحزب الاشتراكي في الجنوب أيام حرب الوحدة عام 1994 رغم أنها كانت تعاديه وتعادي ميوله الماركسية لعقود قبل ذلك. ومع هذه التناقضات التكتيكية ظلت السياسة السعودية وفية لمبدأيْها الاستراتيجيين: حرمان اليمن من الوحدة السياسية، وحرمانه من أي تطور سياسي ذي معنى.
وكثيراً ما غطت النزاعات اليمنية الداخلية على مطامح استراتيجية أكبر للقوى الإقليمية داخل اليمن: (السعودية مقابل مصر في الستينات، ثم السعودية مقابل إيران) وللقوى الدولية (العثمانيون مقابل البريطانيين، ثم السوفييت مقابل الأميركيين). بيد أن أخطر هذه المطامح هو الطموح السعودي إلى إبقاء اليمن دولة ممزَّقة، ومنْع أي مسعى للتوحُّد أو الإصلاح السياسي في اليمن. ويبدو أن بعض القوى اليمنية لم تنتبه بما يكفي لهذا الطموح السعودي. فلجوء بعض الساسة اليمنيين إلى الرياض، واستنجادهم بها ضد الانقلاب الحوثي، غفلةٌ كبيرة عن الثوابت الإستراتيجية السعودية في اليمن.
فمهما تكن المكاسب التكتيكية من الدعم السعودي ضد الحوثيين، فإن الخسارة الاستراتيجية على اليمن إنسانا وحضارة وسياسةً أكبر وأخطر من تلك المكاسب. وقد كانت نتيجة لجوء أولئك السياسيين اليمنيين إلى الرياض أن تحول المستنجدون بالسلطة السعودية رهائن بيدها، اتخذتهم غطاء لتدمير اليمن وتفتيته، لكن باسم دعم الشرعية والوحدة اليمنية!! وربما فكَّر أولئك الساسة اليمنيون أن السعودية عدوُّ ليس من صداقته بدٌّ في ظل الدعم الإيراني للحوثيين، وأن علاقتهم بها ضرورة سياسية رغم نكدها، عملاً بحكمة المتنبي:
ومن نكَد الدنيا على الحُرِّ أن يَرى
عدواًّ له ما من صداقته بُــدُّ
وربما كان الأمر سيكون كذلك، لو لم تكن للسلطة السعودية أهداف ثابتة ضد مستقبل اليمن إنساناً وحضارةً. فما كشفتْه خمس سنين من الحرب السعودية الإماراتية المدمِّرة ضد اليمن إنسانا وحضارة ومستقبلاً هو أن علاقة الساسة اليمنيين الذين لجأوا للرياض بالسلطة السعودية كانت أقرب إلى علاقة الأضحية بالمضحِّي: يُطعمها ليذبحها. على أن السلطة السعودية لم تنتظر يوم النحر لذبح الأضحية، بل ذبحتْها يوم عرفة، يوم سقوط عدن هذا الأسبوع بتواطؤ سعودي، وهو تذكير أليم بسقوط صنعاء عام 2014 بتواطئ سعودي أيضا.
ربما يقول فضلاء يمنيون إن الحوثيين حركة سلالية استعلائية إقصائية، تحلُم بحكم اليمن كله، وبإعادة أمجاد الحكم الإمامي العتيق، فالتعايش معها أمر عسير، خصوصا بعد وصولها إلى السلطة في انقلاب عسكري فجٍّ، غدَر بكل المواثيق السياسية السالفة التي وقَّعتها الحركة مع القوى السياسية اليمنية الأخرى. وكل هذا تشخيص دقيقٌ. لكن الحركة الحوثية تبقى أيضا جزءاً من النسيج الاجتماعي والتاريخي لليمن، وهي لم تَعُدْ حركة هامشية معزولة في قمم الجبال بمحافظة صعْدة، بل أصبحت أعظم مُعبِّر عن الزيدية السياسية ومطامحها المتجذرة في تربة اليمن. فالتعايش مع حركة من هذا النمط –على عُسْره- أسلمُ وأحكمُ من وضْع اليد في يد السلطة السعودية التي كانت -ولا تزال- تسعى لهدم البيت اليمني كله على رؤوس ساكنيه.
ليست الحرب الأهلية الحالية في اليمن هي أول حرب أهلية في التاريخ، فالخروج منها ممكن إذا تواضع اليمنيون على خطوات عملية مبنية على عبرة الحروب الأهلية ومآلاتها في العالم المعاصر. ومن هذه الخطوات الممكنة: وقْف إطلاق النار الفوري رحمةً بالمدنيين، مع احتفاظ كل طرف بما تحت يده من الأرض مؤقتاً، وتشريع القوى العسكرية المحلية المتحاربة -أو بعضِها على الأقل- ضماناً لاطمئنان الأطراف المتحاربة، وتمهيداً لدمْج تلك القوى في جيش وطني جامع مستقبَلاً. ثم البدء في حوار سياسي هادئٍ، يكون الزمن عنصراً مهما فيه لكسب الثقة المتبادلة، سعيا إلى ترميم هيكل الدولة المتهاوي. ويمكن الإبقاء على بعض المناطق الرمادية ذات الأهمية القصوى بعيداً عن التقاسم المؤقت، فتخضع لحكم مشترك من الأطراف المتحاربة، ومنها: المنافذ البحرية والجوية، ومناطق النفط، والعاصمة، أو أجزاء منها.
ولستُ أتوقع أن يجدَ أيُّ طرف ما يرضيه في هذا الحل، بل أرى ذلك مؤشرا جيداً، فلم تكن الحلول المُخرجة من الحروب الأهلية مُرْضيةً قطُّ، وإنما هي ارتكابٌ لأخفّ الضررين، وقبولٌ بخير الشرَّين، في ظروف غير مواتية. على أن هذا الحلَّ لن ينجح إلا إذا تمحَّضَتْ فيه الإرادة الوطنية اليمنية، بعيداً عن النفوذ السعودي القديم، والنفوذ الإيراني الجديد. فمتى يسعى أهل اليمن إلى تضميد جراحهم بأيديهم، وصياغة ميثاق وطني جديد، يعتمدون فيه على أنفسهم، بعيداً عن جِيرة السوء وأيديهم العابثة؟! ألا تكفي سبعون عاما من الثورة المضادة السعودية في اليمن لفتح الأعين والقلوب؟! ومتى تستيقظ الحكمة اليمانية من الغفلة وحُسْن الظن بالمتواطئين في مصرع الابتسامة اليمنية عبر السنين؟