كلما دخل عيد الأضحى أو الفطر أو دخل رمضان كثر اللغط وازدحم الناس على خطوط الهاتف أكثر من ازدحامهم على أبواب الفقهاء، يسألون عن أي الرؤيتين أحق بالإتباع، وتواردت الأسئلة بكل أشكالها وأنواعها، هل تكون عرفة في العام الواحد أكثر من مرة؟ ما العمل إن صادف صيامنا يوم الأضحى أو الفطر؟ ماذا نفعل حين تتأخر رؤيتنا للهلال وتتقدم رؤية غيرنا والعكس؟ وهل الراجح عموم الرؤية لكل البلدان، أم أن لكل أهل بلد رؤيتهم؟ فيجيب هذا الفقيه بجواب ويجيب الآخر بجواب يخالفه، فيرتبك السائل ويحتار!! ومما زاد الطين بلة تهاون لجنة مراقبة الأهلة إذ أن مراقبتها قاصرة على رمضان والعيدين، وفي ذلك من التهاون والتفريط ما لا يخفى، لسبب بسيط هو أن بداية كل شهر متوقفة على نهاية الذي قبله، فلا تكون عملية المراقبة دقيقة إلا إذا كانت من محرم إلى ذي الحجة، ثم إنه ما من شهر إلا وفيه عبادة متوقفة على ثبوت الهلال كما في الأيام البيض وعاشوراء وتاسوعاء وصيام عرفة...
فكل هذه الطاعات لا يخرج المؤمن من عهدتها بثقة إلا إذا كان دخلها بثقة، وكل ذلك متوقف على المتابعة الدقيقة الشاملة لجميع أشهر السنة، فعلى اللجنة أن تتحمل مسؤوليتها وتحلل رزقها، إن كانت تأخذ علاوة على المراقبة.
لذا فإني أردت من خلال هذا المقال الفقهي أن أبين لأخي المسلم الراجح من ذلك كله، مما يبرئ الذمة وينفي التردد والحيرة إن شاء الله.
إذا علمنا أن الراجح من الخلاف في شأن عموم الرؤية هو القول بأنها تعم، ودليل رجحانه قوله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته...))، فهذا الحديث شامل وعام في الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، فإذا رؤى الهلال في أي بلد من بلدان المسلمين أو رأته جالية مسلمة في فرنسا أو أمريكا أو غيرهما وجب على جميع المسلمين صوم رمضان والفطر منه بتلك الرؤية، كما يجب عليهم الاعتداد بتلك الرؤية في الحج ومقتضياته من الوقوف بعرفة وما يتبعه من صلاة وأضحية... اعتمادا على تلك الرؤية إذ لا يجوز تخصيص العام إلا بدليل ناهض لذلك، وأثر كريب مولى ابن عباس لا يقوى على تخصيص هذا العموم، لأن أثر كريب هو في حقيقته مذهب صحابي أو قول صحابي، وهذا النوع من أقوال الصحابة مختلف في حجيته والراجح أنه ليس حجة إلا إذا كان في أمر لا مجال للرأي فيه، أو كان فيه مجال للرأي وكان مما اشتهر ولم يعرف له مخالف، وهذان الأمران منعدمان في أثر كريب، وعليه فلا يصح تخصيص عموم الحديث المرفوع بأثر كريب، وإذا عدم المخصص بقي العام على عمومه وجوبا كما هو معلوم في محله.
فإذا تقدمت رؤية رمضان أو شوال أو ذي الحجة في موريتانيا ـ مثلا ـ لزم ذلك سائر بلدان المسلمين وجالياتهم في البلدان غير الإسلامية، وإن تقدمت الرؤية في بلد آخر كالسعودية أو غيرها لزم ذلك سائر البلدان الإسلامية وجالياتها أيضا، فلو عمل المسلمون بمقتضى هذا القول الراجح ـ والعمل بالراجح واجب لا راجح ـ لسلموا من الخلط والخبط والتردد الذي يحصل في هذه الأشهر الثلاثة من السنة.
لكنهم إن عملوا بمقتضى القول المرجوح، وهو أن لكل أهل بلد رؤيتهم لكان ذلك مؤديا إلى الوقوع في محظور بالنسبة للبلد الذي تأخرت رؤيته للهلال، فإن تعلق الأمر برمضان فإن من تأخرت رؤيتهم يقعون في محظور بداية رمضان وهو تناولهم للمفطرات في أول يوم من أيامه، كما يقعون في محظور نهايته وهو صوم أول يوم من أيام الفطر المنهي عنه بصحيح الحديث؛ وإن تعلق الأمر بعيد الأضحى فإن من تأخرت رؤيتهم يقعون في ممنوع وهو صيامهم ليوم العيد المنهي عنه بصحيح الحديث، كما في عامنا هذا (1440هـ) إذ كان أول شهر ذي الحجة في السعودية وبعض البلدان الإسلامية يوم الجمعة، وكان أوله في موريتانيا يوم السبت، فعلى القول بعدم عموم الرؤية سيكون يوم الأحد هو أول أيام عيد الأضحى في السعودية، وهو في موريتانيا يوم عرفة، فيتعارض في هذا اليوم دليلان: أولهما: الأمر بصيام يوم عرفة، وثانيهما: النهي عن صوم يوم العيد، فإذا ما أردنا العمل بالقول الراجح، نقول للمسلم في موريتانيا ومثيلاتها ممن تأخرت رؤيتهم للهلال صم يوم السبت لأنه إما أن يكون يوم عرفة فصومه مشروع ومرغب فيه، وإما أن يكون يوم التروية فهو كذلك مشروع مرغب فيه لأنه من العشر ومن الأشهر الحرم، وعلى كلا الاحتمالين فالمسلم ناج من الوقوع في الممنوع، أما يوم الأحد فيترك صومه لأنه تجاذبه نهي وأمر، والنهي والأمر إذا تعارضا رجح النهي لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، وقد قال رسول الله: ((ما أمرتكم به فاتوا ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه...)) وقال ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك))، وقال ((فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام))، هذا بالنسبة للصوم، لكن لقائل أن يقول: فماذا عن الأضحية والصلاة؟ وجوابه أن يقال: الأمر في الصلاة والأضحية واسع لأن وقت الأضحية يمتد على مدى ثلاثة أيام، وكذا وقت الصلاة إذ تصلى عند أبي حنيفة وأحمد من الغد، وبالغ الحنفية فقالوا إن زالت الشمس من اليوم الثاني ولم تصل صليت في اليوم الثالث.
وبناء على ما تقدم يكون على الموريتاني في هذا العام (1440هـ) أن يصوم يوم السبت ويصلي ويضحي يوم الاثنين فيزول الارتباك ويأمن المسلم من الوقوع في الممنوع.
هذا وإن كان الاختلاف في عموم الرؤية وعدمه قديما، فإن سياسة فرق تسد جذرته وعمقته، فصار فقهاء زماننا حين يسأل أحدهم في هذه الأيام يقول: لنا بلدنا ولهم بلدهم، ولكل أهل بلد شأنهم ولا تبعية لبلد منها للآخر، لنا رؤيتنا ولهم رؤيتهم...
هذا وإن كان القول الراجح هو عموم الرؤية كما أسلفت فإن القول بعدم العموم مطلقا كان، أو واسطة ضعيف لا يعول عليه كما بيناه آنفا، إلا أن هذا التسييس المبني على مبدأ فرق تسد كاد يجعله قولا معتمدا كأنه هو الراجح، وهو ليس كذلك بل هو قول ضعيف بالنظر إلى الدليل وقواعد الشريعة،
أما الدليل الدال على ضعفه فقد ذكرناه سابقا، وأما قواعد الشريعة فقد قضت بأن العالم سواء كان مفتيا أم قاضيا أول ما يجب عليه العمل به؛ المجمع عليه ثم المتفق عليه، ثم الراجح، ثم المشهور، فلا يجوز له أن يعمل بمشهور مع وجود راجح، ولا العمل بالراجح مع وجود متفق عليه ولا العمل بالمتفق عليه مع وجود مجمع عليه، فهذا أمر لا جدال فيه بين المحققين من العلماء؛
وعليه فلا يجوز للعالم المفتي إذا سئل عن رؤية الهلال هل تعم أم لا؟ أن يفتي إلا بالراجح الذي هو القول بعموم الرؤية، ويجب على المستفتي فردا كان أو جماعة أو دولة العمل بذلك الراجح، فالعلم متبوع لا تابع.
والله أعلم.