أثارت النتائج المتواضعة للثانوية العامة (الباكالوريا) في الآونة الأخيرة موجةً من السخط والامتعاض لدى الكثير من الموريتانيين تجاه منظومتنا التعليمية، فأصبحت الأزمةُ التي تعيشها هذه المنظومة حديثَ المجالسِ ومنابرِ التواصل الاجتماعي، مع أن مَواقف الغالبية من الموريتانيين من واقع تعليمنا المتردّي كانت سابقة على هذه النتائج، حيث كان تشكّيهم وتبرّمُهم من واقع هذه المنظومة ظاهرا ملحوظا منذ فترة خلت ، وما هذه النتائج الأخيرة إلا بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، فجعلت من الأزمة التعليمية حديث الساعة، بالإضافة إلى ما ينتظره الناس من إصلاحات مرتقبة تحدث عنها السيد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني بشيء من التفصيل أيام حملته الانتخابية، وانعكس ذلك في عدد الحقائب الوزارية التي تقاسمت هذا القطاع في الحكومة الجديدة، ولا شك أن التشخيص القادم من خارج جدران هذا القطاع سيبقى جزئيا، ولا يعبّر عن رؤية متكاملة بحكم الاطلاع المحدود على تفاصيل المنظومة التربوية كما هي على أرض الواقع، ورغم ذلك سأحاول اقتحام هذا المجال لرصد بعض المظاهر التي يمكن أن تصنّف في إطار الملامح المعبِّرة عَن هذه الأزمة مع محاولة تقديم تصور للخروج منها.
ترى ما هي أهم تجليات هذه الأزمة؟ وما هي أسبابها؟ وكيف السبيل إلى الخروج منها؟
تتجلى هذه الأزمة في مجالات ثلاث: في مجال المخرجات، ثم في مجال المناهج، وأخيرا في مجال الكادر أو الإطار التربوي. وإذا كانت نتائج امتحانات الباكالوريا الأخيرة قد عبّرت عن هذه الأزمة على مستوى المخرجات حيث هبطت بمستويات النجاح في الدورة الأولى إلى حدود 1% فقط على مستوى بعض الشُّعَب، وهي سابقة لم يوجَد لها نظير في منطقتنا المغاربية والإفريقية، وأخرجت الآلافَ من دائرة الأمَل في الحصول على الشهادة هذه السنة، ودفعت بهم إلى أندية العاطلين عن العمل، فإنها قد سّلطت الأضواء على المجالين الآخرين أيضا.
والحقيقة أنه ومنذ سنوات عدة، وبعد أن أصبحت أعدادُ الناجحين في امتحانات الشهادات العامة دون المستوى المأمول كما وكيفا، بدأت الأصوات ترتفع محذرةً من الوضع البائس الذي باتت تغرق فيه مؤسستنا التعليمة على اختلاف مستوياتها، خصوصا على المستويين الأساسي والثانوي؛ حيث عبر الآباء والمهتمون، في مناسبات عدة عن انزعاجهم من تراجع الأداء، وضعف المخرجات في هذين المستويين بالشكل الذي بات يوصف بالكارثي، إذْ أصبحت استفادة التلميذ من هذين المستويين محصورة في المستوى الأخلاقي الهابط والارتهان للعلاقات السيئة التي يرتبط بها في ساحاتهما، وذلك على الرغم من أهميتهما على مستوى تأسيس الطالب وما يعنيه ذلك من تحديد خِياراته المستقبلية، ومن ثمة سيكون البناء بكامله هَشّا حتى ولو حازتْ بعضُ مخرجاتِه ألقابا عِليمةً في المستويات اللاحقة، إلا من رحم ربك، "وهل يثبت البنيان إلا على الأس"؟ ومصداق ذلك عزوف مؤسسة الوظيفة العمومية في الآونة الأخيرة عن استقبال ملفات الليسانس في مسابقاتها، وتركيزها على حملة المتريز مع أن النظام التعليمي الذي أنتج هذه الشهادة كان خيارا مخزنيا بامتياز، وقد تم فرضه دون أن يعرض على الشعب، مثله في ذلك مثل ما ظل يسمى بالإصلاحات التي كانت تتعرض لها هذه المنظومة من حين لآخر على مرّ تاريخ الدولة الحديث، وكان آخرها في عهد ولد الطائع نهاية التسعينات حيث تم العبث بالمنظومة التعليمية فجأة ودون الأخذ برأي أحد من الشعب أو حتى أولئك العاملين في القطاع التعليمي ذاته.
وتتجلى هذه الأزمة كذلك في مستوى المناهج؛ حيث تبدو المناهج متأخرة عن مواكبة الواقع المتغير، وملاحقة مستجدات العصر، إذ لا تزال تحتفظ بقَالَبِها النظري رغم عجز الطالب عن ملاحقتها؛ حيث يكون حاجز اللغة، وغيابُ الدافعية، وانعدامُ الثقة في غايات المناهج وأهدافها عوائقَ حقيقية أمام أيِّ إرادة للتحصيل، وليس من باب التقول إذا قلنا إن العصر الراهن قد خلق لدى الصغار مستوى من الذكاء يختلف في طبيعته عما كان مألوفا لدى نظرائهم في الأجيال السابقة، وطالما لم تستطع المناهج التعليمية فهم طبيعة ذلك الذكاء وتوظيفه بشكل صحيح فلن تكسب ثقة التلاميذ ولن تشدّ انتباههم إلى مَضامينها، ويتجلى ذلك الذكاء في طغيان الممارسة العملية (التطبيقية) وهو في حقيقة أمره ثمرة لانكفاء الصغار منذ وقت مبكر من أعمارهم على تقنيات التواصل من قنوات، وشبكات أنترنت، وجوالات ذكية.. فملأت هذه التقنيات أذهانهم، وارتبطوا بها ارتباطا كليا، ولم تترك مساحة في اهتماماتهم لمعالجة مواضيع المناهج التقليدية التي ظلت تَتَقصّدُ الحفظ والاستظهار على حساب الممارسة التطبيقية عبر تاريخها المديد، ويجب أن نسجل هنا أن هذا العقل التطبيقي الذي نتحدث عنه هنا، لا يمكن وصفه بالسلبي، لما باتَ يَخلقُ من مُيولٍ متزايدة لدى الصغار تدفع بهم إلى استسهال التعاطي مع التقنيات الجديدة ، وتَشرُّب حقائقها، وتَفهُّم أبعادها، والتعامل معها بكل اشتياق وجاهزية، ومن هنا يجب أن تركز المناهج على اكتساب ثقة هذا العقل التطبيقي واستغلال ما ينتجه من ذكاءات متعددة مرتبطة بهذا المجال، علما أن هذه المجالات هي التي يعول عليها في بث روح العصر في المجتمعات، وإحداث تنمية حقيقية لديها.
وعلى مستوى الكادر يساهم شظف الحياة، وتواضعُ دخلِ المهنة، في ظل شحّ الموارد وتزايد متطلبات الحياة، يساهم هذا كله في انشغال المدرس ذهنيا، ونفسيا، فبات طلب المعاش يُدْخِله في صراع متواصل ضد ظروفه الصعبة، دون أن تلوح له في أفقه القريب بارقةُ أمل تطمئنه على إمكانية ظفَره بحياة كريمة تجعله يتفرغ بإخلاص وتفان للمهمة التي تعهّدَ بها، وينضاف إلى هذا الواقع الأليم انعدام التدريب، وغياب التكوين المستمر، مع ضعف المتابعة، في وقت تتلاحق فيه العلوم، وتنهمر فيه المعارف فأصبحت علاقة المدرس بمهنته مجردَ واحدةٍ من عدة علاقات ينتظر منها عوائد لا تفي مجتمعةً بأهم التزاماته المادية، أحرى أن يستغني عن بعضها.
ترى كيف نُخرج منظومتا التعليمية من هذه الأزمة؟
الحقيقة التي لا مراء فيها أن أزمة مؤسستنا التعليمية أزمةٌ معقدة، وتحتاج إلى جُرأة في اتخاذ القرار، وعدم الركون إلى منطق التوازنات المحلية، والإقليمية، والدولية، التي ظلت هذه المؤسسة مرتهنة لها، وبالتالي فإن الخروج من هذه الأزمة يتطلب وضعها في غرفة العناية بين يدي المختصين لتشخيص عللها الحقيقية والوقوف على العيوب القاتلة التي باتت تهددها في الصميم.
ومع أن الإصلاح الحقيقي لا بد أن تَبدأ خطواتُه الأولى على مستوى مؤسسة التعليم الأساسي دون أن يتوقف عندها، وهذا فعلا، ما انتبهت إليه حكومة معالي الوزير الأول ولد الشيخ سيديا التي تم الإعلان عنها قبل أيام قليلة، إلا أنه كان من الأولى أن يُوكلَ هذا الإصلاح لمؤسسة مستقلة عن وزارة التعليم الأساسي، فلو كانت الوزارة قادرة على إصلاح هذه المؤسسة لما أوصلتها إلى هذه المرحلة، وكما يقول المثل: "الغريق لا ينقذ نفسه"، إن إضافةَ مهمة إصلاح التعليم الأساسي إلى وزارة التعليم الأساسي كما تمَّ مؤخرا ، لا تضيف شيئا يذكر، بل تَسْلبُ الإصلاحَ منطقَه وتنتزعُ منه بريقَه، ولا توحي بفهم عميق لطبيعة الخلل البنيوي الذي تعيشه مؤسستنا التعليمية برمتها، فثمة جراحات أليمة قد يقتضيها الإصلاح المنشود لن تستطيع هذه المؤسسة أن تقوم بها على مستوى ذاتِها بحيث تكون المريض والطبيب في الوقت ذاته، وكان من الأولى أن توكل هذه المهمة إلى معهد متخصص، أو إلى وكالة تنشأ لهذا الغرض من بين المتخصصين في حال غياب تلك المعاهد المتخصصة على مستوى الوطن، ولا نعني بالاختصاص هنا كل من زاول المهنة أو تقلد وظائف إدارية في القطاع التعليمي، بل نعني به الاختصاص التربوي الدقيق المتعلق بمجالات التخطيط التربوي والتعليمي وعلوم المناهج وطرائق التدريس، والتخصصات التربوية الأخرى ذات الصلة، والبلد يعج بكفاءات من هذا القبيل لها اليد الطُّولَى في هذه الاختصاصات الدقيقة، وينبغي أن تمنح هذه الوكالة مهلة لا تقل عن سنة دراسية تدرس فيها المنظومة القائمة لاكتشاف عيوبها والوقوف على الأخطاء الثَّاوِية في مفاصلها، ثم تتقدم في نهاية المهلة بخطة تربوية شاملة لتشرع مؤسسة التعليم الأساسي في تنفيذها مطلع السنة الدراسية الموالية، مع احتفاظ تلك الوكالة بدورها في الإشراف والمتابعة، وما لم نفصل بين هاتين المؤسستين؛ المؤسسة التي تقود الإصلاح وتلك التي تُستهدَف به، ونعمل على وضع خطة متكاملة مدروسة، ستظل جهود الإصلاح من قبيل حَلْب الأيْنقِ في الأضاة.
نعم إن خطوات الإصلاح الأولى يجب أن تتم على مستوى التعليم الأساسي، فيعاد النظر في تحديد مفهومه وطبيعة أهدافه، مع التركيز على خصوصيتنا الوطنية والإقليمية ، ولا بد أن يعمل المخطط على توحيد لغة التدريس (أيا كانت تلك اللغة) فاللغات كلها متكافئة، وأن يتيح الفرصة الكافية لإتقانها، عكس ما هو حاصل الآن من توزيع المواد المدرسية بين لغتين اثنتين (لغة للمواد العلمية ولغة لمواد العلوم الإنسانية) إذ خلقت هذه الوضعية ارتباكا قويا على المستوى الذهني للطفل الذي لا يستطيع - بأي حال من الأحوال - أن يتقن لغتين أساسيتين في آن واحد، فكانت النتيجة مأساوية، فلا هو تعلم لغة العلوم بشكل جيد، ولا هو أتقن لغة العلوم الإنسانية في الوقت ذاته أيضا؛ ومن هنا يجب البت في اختيار لغة واحدة لهذه المرحلة، على التلميذ أن يتقنها، ثم يفسح له المجال لتعلم لغة ثانية وسيكون مستواه فيها متناسبا مع إتقانه للغته الأولى، ولو تمت برمجة اللغة الثانية على مستوى المرحة الإعدادية، وهي المرحلة التي يجب أن تندرج تحت مفهوم التعليم الأساسي، لكان ذلك أولى.
كما يجب أن يعاد النظر في مؤسستي التعليم الأهلي والأجنبي (خصوصا في المرحلة الأساسية) اللتين نمتا على حساب تعليمنا الوطني، وزرعتا في نفوس أجيالنا التفرقة، والغبن والحقد.
وعلى مستوى التعليم الثانوي فما فوق يجب أن تكون الأولوية مُكرّسة لخلق منظومة تعليمية متخصصة، تنتقي مجالات محددة، نركز فيها على استراتيجيات تعليمية دقيقة غايتها التميز في تخصصات بعينها، نعمل على هضمها وإتقانها، حتى يصبح أي من تلك التخصصات إذا ما ذكر تتوجه الأذهان تلقائيا إلينا، كما هو حال كوبا مثلا مع الطب، والهند مع علوم الحاسوب، ولتكن هذه التخصصات لها علاقة بمواردنا الطبيعية من أجل خلق تعليم نوعي يسدّ حاجاتنا ونتميز به على مستوى العالم في مجالات التعدين مثلا كالحديد والذهب والنحاس.. إلخ، وفي مجال ثرواتنا الأخرى.
وينسحب هذا أيضا على إرثنا الثقافي (المحضري) حيث يجب أن نستغله لبناء تعليم ديني عصري متميز ننفرد به عن غيرنا، ولا بد أن يجمع تعليمٌ من هذا القبيل بين الجودة المحضرية التقليدية والخبرة الأكاديمية، حتى نعمل على بناء منظومة تعليمية دينية متخصصة تمثلنا وترضي شركاءنا أينما كانوا، وأنتهز هذه الفرصة لأشير إلى الفلسفة الفجّة التي نَنتهجها منذ فترة خلت في بناء مؤسساتنا التعليمية الدينية خصوصا على مستوى التعليم العالي حيث نسلك في إنشائها أساليب عشوائية لا غاية لها سوى الاستنساخ والتكرار، فالدولة تنفق مواردها الشحيحة من غير أن تسأل نفسها ما الذي تريده من وراء هذه المؤسسة؟ فظهرت مؤسسات ثلاث لا تختلف فيها واحدة عن الأخرى، والحال أن البلاد تكفيها، في هذا المجال، مؤسسة واحدة على مستوى التعليم العالي، لو تم التخطيط لها بعناية، واستثمر فيها ما يُنفق على المؤسسات القائمة حاليا، مع ضرورة إعادة صياغة تخصصاتها وانفتاحها على الثقافات الكونية، ومع التركيز فيها على الكيف بدل سياسة الكم المتبعة حاليا، لتمكنا من خلق تعليم ديني نوعي حقا، يميزنا ونختص به دون غيرنا. كما يجب أن يركز التعليم المهني والفني على حاجات أسواقنا منتهجا فلسفة التميز ذاتها في مجال التخصصات، فالتركيز على إنتاج مخرجات نوعية في تخصصات محدودة أولى من تفتيت الجهود وبعثرتها على تخصصات عِدّة، لن نستطيع كسب الرهان على التميز فيها كلّها.
وخلاصة القول أنه بات من واجبنا إعادة النظر في تصميم تعليمنا ليتم وفق حاجاتنا، وأن تكون مخرجاته قادرة على انتزاع ثقة الشركاء في الداخل والخارج، ولا بد أن نخطط لوضع فلسفة تعليمية تعمل على صيانة وحدة مجتمعنا وانسجام مكوناته، وتخليصه من بؤر الكراهية، وتعمل على تخريج أجيال متعاونة ولاؤها للوطن وليس للعرق أو القبيلة أو الجهة، وهذا لن يتم إلا في أجواء من التواصل الفعّال، من واجب المؤسسة التعليمية أن تؤمنها لجميع أبنائها، ولا بد أن يعمل نظامنا التعليمي على خلق فرص متساوية أمام الجميع، تمكن كل فرد في المجتمع من تحقيق ذاته التي يريد، كل ذلك بات أمرا ضروريا يترتب عليه إنقاذ سفينة الوطن التي باتت تتقاذفها أمواج الخطر في كل الاتجاهات.
{والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.